18 ديسمبر، 2024 9:04 م

تسليم المشروع بالمفتاح

تسليم المشروع بالمفتاح

يتساءل الكثيرون في بلادنا العراقية عن السر في تراجع التنمية وتلكؤ المشاريع وهدر الأموال وغياب الرأسمال الوطني والأجنبي. ويعجبون كيف أمكن لكثير من البلدان تخطي مثل هذه العقبات في حين لم نزل نحن عاجزين عن السير خطوة واحدة إلى أمام.
لاشك أن عوامل عديدة أسهمت في هذا الإخفاق، أهمها على الإطلاق الحرب الطويلة التي خاضتها الدولة ضد الإرهاب، والنفقات الهائلة التي صرفت لترميم ما خلفته سنوات الحصار المريرة، والتضخم الكبير في عدد الوظائف الحكومية، إضافة إلى سوء إدارة الموارد المالية.
وكان من الطبيعي في ظل ظروف كهذه أن يستشري الفساد في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وأن تستنزف الموارد النفطية في استيراد السلع الكمالية، أو تهدر في صفقات مريبة. وبسبب الوفرة المالية الناجمة عن ارتفاع سعر النفط، وزيادة معدلات الإنتاج، فإن هذه الإخفاقات لم تظهر على السطح. حتى إذا ما عادت هذه الأسعار إلى الانخفاض ثانية، وتقلصت الموازنات الاستثمارية، شعر الناس فجأة بحجم الكارثة التي حلت ببلادهم، وباتوا غير مصدقين أنها انحدرت إلى هذا المستوى من الإملاق!
وفي ما عدا ذلك فإن صيحات التذمر ودعوات الإصلاح لم تنتبه بسبب الولاءات الحزبية والطائفية إلى جوهر المشكلة، فركزت هجومها على الأشخاص والمؤسسات الحكومية وأحجمت عن الخوض في السياسات المالية والاقتصادية التي اتبعت على مدى أكثر من عقد من السنين. مع أن مثل هذه المشكلة حرية بالدرس والمراجعة والنقاش.
إن تأخر إنجاز المشاريع الكبيرة والصغيرة على حد سواء، كان سمة بارزة في العراق خلال هذه الحقبة. عدا عن أن هذه المشاريع لم تسهم بعد خروجها إلى النور في تعزيز الإنتاج بسبب رداءة النوعية. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى تضخم البيروقراطية الحكومية، المفتقدة للخبرة الكافية في إدارة المشاريع. وقد ساعدها في استفحال هذا الخلل نظام تجزئة المشاريع، وضاعف من امتيازاتها، إلى الحد الذي جعلها تزهد في عامل الوقت، وجودة المنتوج. وبموجب هذا النظام يعهد إلى أكثر من شركة بتنفيذ مراحل المشروع، مثل التصاميم وعمليات التصنيع والتوريد والإنشاء والصيانة والتشغيل. ومن ميزاته تقليل الكلفة النهائية وتشغيل أكبر عدد من موظفي الدولة ومن ثم اكتسابهم لخبرات أعلى. أما مساوئه فتتلخص بتوزيع المسؤولية على أكبر عدد من المقاولين وتنصل بعضهم من الفشل، بإلقاء التبعة على آخرين.
ولعل أفضل نظام لإدارة المشاريع في العراق في الوقت الحاضر، هو المعروف بعقود تسليم المفتاح. وبموجبه تتعاقد الدولة مع شركة رصينة لتنفيذ كل الفعاليات المذكورة. وتكون هذه الشركة مسؤولة عن سلامة الإنتاج لسنوات طويلة نسبياً. ويتحول هذا العقد في بعض الأحيان إلى عقد تسليم الإنتاج، تقوم بواسطته الشركة بتدريب الكادر الفني على تشغيل المعدات لوقت معلوم.
ويمكن في مثل هذه الحال تسديد كلفة المشروع من المبيعات، في حال عجز الدولة عن التسديد. ولاسيما في المشاريع ذات الكلف العالية مثل مصافي النفط ومصانع البتروكيمياويات ومعامل صهر الحديد وغيرها.
لقد أنجزت معظم المشاريع الكبرى في العهود السابقة بهذه الطريقة، وقد أحرزت جميعها نجاحاً ساحقاً. ولم يزل بعضها قائماً حتى هذه الساعة.
لا تستطيع الدولة بإمكانياتها الحالية أن تمنع الفساد لأنها لا تمتلك المؤسسات القادرة على ذلك، ولكنها تستطيع تضييق حلقاته. ولا يمكنها كبح جماح البيروقراطية الحكومية ولكنها قادرة على تقليل نفوذها. وطريقة تسليم المفتاح هي واحدة من أهم الأساليب التي تحد من هذه الظواهر أو تمنع انتشارها على أقل تقدير.