لاغرو أن فتن القرن الـ 21 المتسارعة والمتلاحقة كنظام بال قطع سلكه فتتابع أثبتت لنا وبما لايدع مجالا للشك بأن مفهوم “قبض العلماء” بات أوسع وبمراحل مما رسخ في أذهاننا وصار يتخطى معناه الضيق المألوف والمتعارف عليه عندنا ردحا طويلا من الزمن إذ لم يعد ” القبض ” قاصرا على موت العلماء سريريا وجسديا فحسب وإنما بـ موتهم معنويا كذلك وذلك من خلال التسقيط والتشهير والطعن والتشكيك بسيرتهم ومسيرتهم ومؤلفاتهم وعلمهم بل وطلبتهم أيضا في الغدو والآصال !
فالقبض وفقا للمعاجم اللغوية هو خلاف البسط ،وبالتالي فبإمكاننا أن نتوسع في فهم عبارة “قبض العلماء” الواردة في الحديث النبوي الشريف : ” إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا” أقول نتوسع في فهم “قبض العلماء” وبفعل ما نسمعه ونراه على مدار الساعة بأنها لم تعد تعني موتهم الحسي وغيابهم الوجودي عنا فحسب كما درجنا على فهمها وتلقينها لأن قبض العلماء ومن جراء فتن القرن الحالي باتت تدور وجودا وعدما حول “تسقيطهم” بالدرجة الاساس ولعلها الأشد خطرا ، والأبعد أثرا من موتهم الجسدي في زماننا هذا ..لماذا ؟
لأن العالم اذا مات “وكل من عليها فان ” فمن المفترض أن علمه لم ينقطع بنص الحديث النبوي الشريف : ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ” كذلك ما ورد في الحديث الآخر : ” إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ”
المفترض وبعد موت العالم أن هنالك مصنفاته ومؤلفاته ومحاضراته والعلم الذي نشره في حياته زيادة على خطبه وطلابه وأصحابه وووو عدد ما شئت، وإلا لكان علم السابقين قد قبض بوفاتهم ولما وصل الينا منه شيء قط ، وبالتالي فإن وفيات العلماء عبر التاريخ لم تترك الناس أشتاتا ليدوروا كقطب رحى حول الجهال فيفتونهم بغير علم ، فَيضلُّوا ويُضَلُّوا، كما أن الناس وبوجود أثر العلماء وعلمهم وكتبهم ومصنفاتهم لن يًتركوا هملا بعد موت العلماء ليدوروا كفراش حول النور- المتوهم – فيحترقوا بناره ، كل ذلك بخلاف ما لو تم تسقيط العلماء في حياتهم وبعد مماتهم ، فهنا يكمن الخطر الداهم حيث يقبع أعداء النور في ظلاله ليصطادوا كل الذاهلين والغافلين تباعا وشعارهم في ذلك هو ” إنما نريد بيان الحق ونحذر من العلماء الجهال ليتبين للناس أمرهم وحقيقتهم ” إلا أن باطن هذا الشعار هو العذاب المقيم الذي يؤمن لهم ولأعداء الدين صيدا وفيرا لن يتوقف يوما ولاسيما بغياب اشارات ويافطات التحذير الحقيقية التي غابت وأزيحت عن الطريق باقصاء وازاحة العلماء الأعلام بعد أن تم قبضهم تباعا وتصيدهم واحدا تلو الآخر إما بموتهم جسديا أو بتسقيطهم معنويا ، ولاريب أن الداء الثاني هو الأعم الأغلب في أيامنا المعاشة هذه ومن مخاطره أن “علم العالم ” الذي يتم تسقيطه حيا سيقبض في حياته وفي مماته على سواء لامحالة بفعل هذا التسقيط المتواصل والمبرمج بل قل الممنهج أيضا ولن يهتم خلق كثير بأي عالم زيادة على علمه سبق وأن تم تسقيطه بفعل الدعاية المضللة والمتواصلة فكأنك بالعالم الجليل فضلا على علمه وقد قبضا سوية في الأولى والآخرة وصارا أثرا بعد عين ولن يبقى لأي منهما وبرغم غزارة العلم الذي تركوه لنا، أي علم يذكر ليورث للاحقين وهنا تكمن الطامة الكبرى !
وأقولها وبألم كبير ، بأن “تسقيط العلماء اليوم” طائفيا أو عقديا أو سياسيا أو قبليا أو قطريا أو قوميا أو أثنيا أو حزبيا أو اجتماعيا أو منهجيا أو فكريا والذي صار ديدن العوام ومن يقودونهم إنما يمثل – قبضا جليا وشاملا لهم – في حياتهم وبعد مماتهم على سواء حيث أسقطت المدارس كلها علماء بعضها بعضا وعلى رؤوس الاشهاد ليلوك هذا التسقيط من بعدهم شذاذ الافاق ، وسقط المتاع ، كذلك السوقة والدهماء وجهلة العوام ..فكيف لا يكون – تسقيط العلماء-بعد ذلك كله هو القبض الأخطر والأشمل !
شخصيا لم أدخل ومنذ فترة طويلة على موقع أو صفحة ، عربية كانت أو اسلامية – عن صفحات المستشرقين والشعوبيين والمتنورين والملاحدة حدث ولاحرج – إلا ووجدت عالما جليلا وهو مصلوب على ساريتها ومخوزق بخازوقها ومثروم بثرامتها ومطبوخ على مائدتها وقد اجتمع كل حدثاء الاسنان ،وسفهاء الاحلام ليأكلوا لحمه، والاعجب أن يستغرق الصلب والتسقيط ويتوسع ليشمل مدرسة العالم المصلوب وتلامذته وعقيدته وطائفته ومشايخه وجامعته وعشيرته وبلده كذلك ” فإن كان هذا العالم مع السلطان فإنهم سيتهمونه بأنه “واعظ سلطاني” ، وإن كان معارضا للسلطان اتهموه بأنه خارجي وعميل وجاسوس لدولة اجنبية ، وإن التزم الصمت اتهموه بأنه شيطان أخرس، وإن نزع الجبة والعمامة اتقاء فحشهم وشرهم اتهموه بالردة والنكوص ، وإن آثر الانكباب على العلم والتعليم من دون الخوض فيما يخوضون في مستنقعاته قالوا إنها فترة بعد شرة ، وفرة بعد كرة ، وهكذا دواليك ما أسفر في نهاية المطاف عن قبض جل العلماء أو ثلاثة أرباعهم على الاقل وإن كانوا أحياء بين الناس ومن أشكال القبض الناجم عن التسقيط والتشهير بالعلماء هو الفصل والسجن والاعتقال والأسر والعزل والتضييق والإقصاء والتهميش والتجميد في عديد من الدول ومنع طباعة وتوزيع ونشر وتداول كتب من يتم تسقيطهم والنتيجة هي = ضياع البوصلة واتجاه الناس الى الالحاد والى العبثية والوجودية والى الرؤساء الجهال – وهؤلاء يصنعون ومنذ فترة ليست بالقصيرة ، ويجهزون لمرحلة ما بعد التسقيط والقبض العلمائي ليتولوا زمام الأمور بدلا ممن يتم تسقيطهم تباعا – بعد فقدان الثقة بفعل التسقيط الجماعي المتتالي لمعظم العلماء ولا أريد الخوض في تفاصيل وعناوين واسماء المدارس التي يسقط بعضها علماء ومؤلفات بعض جهارا نهارا وعيانا بيانا ، حتى لا أكون طرفا بالتسقيط المتبادل من حيث أريد أن أحذر الناس من شره ، فالحذر الحذر من المشاركة في أتون قبض العلم والخوض بعملية تسقيط العلماء لأنها وإن بدت للعوام ظاهرة طبيعية وعفوية ناجمة عن التنوع الفكري وحرية التعبير عن الرأي ، إلا أنها وفي حقيقتها تمثل – حركة قبض جماعية منظمة – يقف خلفها من يحركها بخطة مرسومة ، وينسج خيوطها بدراية تامة ، ويطبخها بعناية فائقة وعلى نار هادئة لتحقيق الهدف المنشود ودفع الناس بعد فقدانهم الثقة شبه التامة بعلمائهم الى اللادينية واللا ادرية والالحاد حين الطلب . أودعناكم أغاتي