23 ديسمبر، 2024 12:16 ص

من هو بعمري يعلم جيداً ما عانيناه نحن العراقيون في تسعينات القرن الماضي. حيث الحصار الظالم الذي فرض على الشعب العراقي نتيجة خطأ النظام البائد عند اجتياحه الكويت في 2 آب 1990 ودفع الشعب غرامة جناية النظام. كانت مرحلة صعبة فقدنا فيها الأمل في كل شيء. كنت في العشرينات من عمري وكنت طالباً جامعياً أعيش عنفوان شبابي. كل شيء من حولي كان مضمحلاً ذابلاً وكانت الحياة مهانة. لم أكن أحس بالصعوبات فأنني لم أكن معيل عائلة وكان الأمر كله ملقياً على عاتق والدي ووالدتي رحمهم الله وأنا حينها كنت مكلفاً بالدراسة فقط. كنا نأكل نشارة الخشب بدل الطحين في الخبز وكان الكثيرون لا يقدرون على شراء اللحم والدجاج.
كانت مصيبة كبيرة أن يكون للعائلة أولاد في الجامعات وخاصة العوائل الكركوكلية الذين يرسلون أولادهم وبناتهم إلى المحافظات الأخرى لإكمال الدراسة الجامعية لعدم وجود جامعة في كركوك. ومن العوائل من كان لديه أكثر من طالب خارج المحافظة وكان حمل هذه العوائل لا توصف قط. وضع الموظفين وخصوصاً المعلمين كان وضعاً مأساوياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حيث كان المعلم أو المدرس مضطراً إلى العمل في وظيفة إضافية بعد ساعات الدوام في المدرسة وكان منهم الكثيرون يتهربون من رؤية تلاميذهم لهم وهم يعملون في شتى المجالات في السوق، فهم الأساتذة الذين يقتدى بهم داخل الصفوف المدرسية.
الحقيقة ما زلت أحمل في ذاكرتي مشاهد لتلكم الأيام العصيبة. لا زلت أتذكر منظر أب وهو يبيع الأبواب الداخلية لبيته كي يشتري بثمنها البخس خبزاً يسد فيه رمق عياله ليوم أو ليومين. لا زالت ذاكرتي محتفظة بمشهد معلم كبير في السن يقف أمام محل قصابة ويطلب من القصاب أن يعطيه بعض العظام دون لحم. أو شخص يفرش على الطريق حاجيات بيته ليبيعها ويشتري بثمنها ثياباً يستر به جسده.
وكيف لي أن أنسى ذاك الصباح الباكر وأنا عسكري في مدينة الموصل حيث أجرت سيارة تكسي وثم تبين أن السائق هو أحد أساتذتي في الجامعة وهو يحمل شهادة دكتوراه؟ حاولت أن أخفي شخصيتي عن الدكتور ولكن الحديث جرنا وتعرف عليّ وقال إنه مضطر للعمل قبل أن يحضر المحاضرات في الجامعة.
الحديث يطول وبالإمكان أن نكتب كتباً ونسرد ما عشناه تلك الفترة الصعبة والتي أمتدت حتى إحتلال العراق عام 2003. إلاّ أن ما دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع واستذكار ذاك الماضي الأليم بكل شجونه هو ما نعيشه اليوم ونحن نرى عجز الدولة عن دفع رواتب الموظفين. لا أخفي عليكم خشيتي من أن نعيش مشهداً مكرراً من تلك المشاهد الموجعة وهاجس الخوف ينتابني في كل حين مع ذاكرتي المكتظة هذه.
فالمثل الشعبي يقول: التلدغه الحية بيده .. يخاف من جرة الحبل