لعله من نافل القول ان أول ما يثير القلق ويستدعي الخوف ويستجلب الارتياع في المشهد العراقي الحالي ، هو غياب اليقين وانحسار المعنى ازاء طبيعة المسار الذي ينتوي المجتمع العراقي اجتراحه لنفسه ، أو حتى يرشح احتمال معين لما سيؤول اليه مصيره في نهاية المطاف . اذ ان أغلب التكهنات المتفائلة لا تزال ، في اطار هذا الشأن ، وجلة ومترددة حيال الرؤى والتصورات المستقبلية التي تتوقع حدوثها أو ترتأي حصولها . اما تلك التي لم تبرح متشبثة بخيار الآمال والأماني الطوباوية فهي لا تعنينا هنا ولا يهمنا أمرها بشئ . وبادئ ذي بدء ، فان المسألة المثارة هنا هي ذات طابع اشكالي بامتياز ، الا أن البحث فيها والنقاش حولها يستلزم معالجة اشكالية أخرى تسبقها من حيث الأهمية وتتقدم عليها من حيث الضرورة ، ليس هنا محل التذكير بها ولفت الانتباه اليها الا من قبيل مراعاة السياق المنهجي ، الا وهي اشكالية تبلور وعي جمعي بحقيقة وجود (مجتمع عراقي) يرتكز على أسس راسخة من (الشخصية الاجتماعية) ، ويمتح من أصول ثابتة نسغ (الهوية الوطنية) ، ويتمأسس بالتالي على كينونة (الوعي بالذات) التاريخي والحضاري . وبرغم رواج الطروحات التي تعتمدها أدبيات التحريض السياسي والترويض النفسي ، التي عادة ما تستهدف الطارئ من الأحداث والآني من الظواهر ، بحيث ان اهتمامها لا يتعدى نطاق المكشوف من المواضيع والمألوف من القضايا ، الا ان المرء لا يمكنه مجاراتها فيما تشيعه من قيم وما تؤكد عليه معايير ، وذلك لاعتمادها المخاتلة بدلا”من المواجهة والتسويف بدلا”من الجدية . كما ليس من الحكمة أن يمحض تأييده المجاني لذلك النوع من الخطابات المولعة اما بتمجيد (الأنا) لحد الهوس أوجلدها لحد التحطيم ، بوحي من سرديات عقائدية منزهة أو دينية مقدسة أو قومية معظمة أو رمزية مبجلة . وهكذا برغم حاجة المجتمع العراقي الماسة ، لا بل المصيرية ، الى من ينقب في أخاديد ذاكرته التاريخية ، ويحرث في حقول وعيه الاجتماعي ، ويفكك عناصر مخياله الأسطوري ، لاستخلاص الحقائق المندرسة وتبديد الأوهام العالقة ، فان هناك من يسرف – بوحي من تلك السرديات المتعالية والمتخندقة – في حمل الواقع على اظهار ما ليس فيه والزام المجتمع على قول ما لا يعنيه ، مما استتبع أن يتحول التاريخ بكل ما يعتريه من انعطافات وانكسارات الى سيرورة خطية صاعدة ، وينقلب الاجتماع برغم ما يعانيه من انحرافات وصراعات الى وحدة مقدودة متجانسة ، وتستحيل الثقافة برغم ما شهدته من انقطاعات وانقلابات الى صيرورة معرفية متواصلة ، ويستحيل الدين برغم ما تمخص عنه من حساسيات واستقطابات الى بوتقة ايمانية لصهر الطوائف والمذاهب . ولتبديد مثل هذه الانطباعات المؤدلجة والحيلولة دون اجتياحها منظومة العقل الجمعي واكتسابها صفات الثبات والديمومة ، تكفي مراجعة سريعة لبعض المصادر التاريخية المتيسرة حتى نكتشف ان خلف ذلك المجد الحضاري التليد والعمق التاريخي الباهر ، تكمن سلسلة متواصلة من الحروب والصراعات والانقسامات ، نجمت عنها وترتبت عليها كوارث سياسية وفواجع اجتماعية وتصدعات نفسية وانزياحات قيمية وانسلاخات جغرافية وملابسات تاريخية قل نظيرها في تواريخ المجتمعات والأقوام الأخرى ، ليس فقط من حيث استمرار حضورها في التاريخ وتحولها الى ما يشبه الاساطير في الموروث الرمزي فحسب ، وانما من حيث استمرار تأثيرها في بنية الوعي الاجتماعي والتحكم بانماط السلوك الفردي لحد الآن . وفي واقع الأمر فان طبيعة المجتمع العراقي ، وفق هذا المنظور ، لا تعتبر في المقاييس السوسيولوجية والمعايير الانثروبولوجية ، حالة شاذة أو ظاهرة استثنائية ضمن المسارات التاريخية والحضارية التي سلكتها بقية المجتمعات غداة قطعها أشواط التحول من الأطوار البدائية الى الأطوار الحداثية ، بحيث يخشى أن تكون مؤشرا”على عدم نضوج (شخصيته الاجتماعية) ودلالة على اندثار (هويته الوطينة) ، وهو الأمر الذي أعاق – و مازال – قدرته في التغلب عى الصعوبات التي رافقته كظله ، ومن ثم فشله في معالجة مشاكله ومواجهة أزماته . على ان ذلك حري به الا يجعلنا نستأنس لهذه الأطروحة الطباقية ونهمل البحث في معطياتها التي لا تكف عن الظهور على مسرح الحياة العراقية ، ولا تعدم التأثير على أدوار الفاعلين فيها ، كلما وقعت نازلة أو طرأ حادث ، دون أن تلوح في الأفق المنظور فصولها الأخيرة . وهنا لا أفترض – كما يحلو للبعض دون تحفظ – ان كل ما يعانيه المجتمع العراقي من حالات التطرف في مواقفه والتطيف في علاقاته ، ما هي الا نتيجة من نتائج تكوينه النفسي وأثر من آثار موروثه الطبعي ، وهو ما ينقلنا من عالم التاريخ الى عالم الطبيعة ، حيث تتلاشى ارادة الفعل البشري وتضمحل معالم العقل الانساني . وفي ظل مثل هذه المواقف المناقبية التي تستلهم العواطف وتستدرج الانفعالات ، لكي يكون مشروعا” غمط الاسئلة المحرجة وقمع الاعتراضات المربكة ، لا مناص من التباس العلاقة بين حدود الواقعي والافتراضي ، وبين تخوم الملموس والمجرد ، وبين حقول العقلي والأسطوري ، وبين مجالات العلمي والخرافي . فيتم ، تبعا”لذلك ، اقحام ما هو كائن في تصورات ما يجب أن يكون ، وحشر عناصر السوسيولوجيا في بطانة الايديولوجيا ، بحيث يغدو الانتقال من العكس الى العكس أو التحول من الضد الى الضد أمرا”ميسورا”وفعلا”مباحا”. لاسيما وأن ((الدالول الايديولوجي – كما يجادل ستيوارت هال – متعدد اللهجات على الدوام ، وله وجه جانوس ؛ أي أن من الممكن أن يعاد الافصاح عنه خطابيا”بحيث يبني معاني جديدة ، ويتصل بممارسات اجتماعية مختلفة ، ويموقع الذوات الاجتماعية على نحو مختلف شأن التشكيلات الرمزية أو الخطابية الأخرى ، فان الايديولوجيا تجمع عبر مواقع مختلفة بين أفكار واضحة التباين ، بل ومتناقضة في بعض الأحيان . ووحدة الايويولوجيا هي من ذلك النوع المعقد والذي يوضع بين أقواس على الدوام ، حيث تخيط معا”عناصر ليس لها أي (انتماء)ضروري أو دائم . وبهذا المعنى ، فان الايديولوجيا تنتظم على الدوام حول منغلقات اعتباطية وليست طبيعية)) . وبصرف النظر عن اختلاف المرجعيات وتباين المنطلقات ، فانه من الضرورة بمكان أن تثير اهتمامنا وتحفز تفكيرنا تلك القضايا الاشكالية التي طالما كانت مثار جدل ومصدر خلاف بين العديد من الكتّاب والباحثين ؛ ليس أولهم العالم الاجتماعي (علي الوردي) ولن يكون آخرهم – بكل تأكيد – الباحث التاريخي (حنا بطاطو) من مثل : لماذا يتصرف العراقيون خلافا”لما يقولون ؟ ولماذا يعلنون غير ما يكتمون ؟ ولماذا يعملون بعكس ما يؤمنون ؟ ! واذا كانت هناك عوامل تاريخية وظروف اجتماعية وأوضاع سياسية وتراكمات نفسية ورواسب اسطورية ، هي المسؤولة عن صياغة مثل هكذا شخصية فما هي طبيعة كل من هذه وتلك وكيف أثرت بهذا القدر أو ذاك على مسار تكوين المجتمع العراقي ورسمت معالم خارطته الفكرية وتضاريس وعيه ؟! . وعندي – ان كان لي عند كما قال الجاحظ – ان تلك الأسئلة هي التي ينبغي أن نحرص على أثارتها الآن ونقدح زناد الفكر لنجيب عليها بلا عقد أو ممانعات مسبقة ، قبل أن تخامرنا رغبة الشروع بتهويل المعقول في تراثنا وتأويل المنقول عن تاريخنا. وبالنظر لسخونة الوضع الراهن وبشاعة طابعه الدراماتيكي ، لم يكن بمقدور العقل العراقي (النخبوي) – وهو المأخوذ بهول الصدمات وانثيال التداعيات وتدفق المعطيات – أن يطرح ، من منظور مستقبلي ، رؤاه ويصوغ تصوراته لما ستؤول اليه مجريات الأحداث ، وهي تتفاعل تارة وتتصارع تارة أخرى خارج سياقها الجدلي . بحيث تتيح لعناصره المنضوية في أتون البحث عن مخارج افتراضية تحديد مواقع الحلقات المركزية في سلاسل تلك الأحداث والملابسات ، التي من المرجح أن يفضي تشخيصها وكشف النقاب عنها ، الى ترصين قدرة العقل التجريدية ، لتسعفه في استشراف الاتجاهات العامة التي يفترض بالمجتمع العراقي أن يسلك سبلها ، وتمكنه من استطلاع التخوم القصوى التي يتوقع أن يحط رحاله عندها . ولهذا نجد ان كل ما أنتجه ذلك العقل وما تمخض عنه ، لا يعدو أن يكون مجرد ردود أفعال متشنجة ، أو رجع باهت للصدى ، لا تعبر عن فضيلة الاحتكام الى الواقع الفعلي والاستئناس بمعطياته ، بقدر ما يعبر عن رذيلة الانهزام أمام زخمه والاحتراس في مواجهته . وهو ما أبقى طروحاته عائمة فوق السطوح / المظاهر دون أن تلامس الأعماق / الجواهر ، لاكتشاف القوى الفاعلة وتعيين التيارات العميقة . وتحاشيا”من الانجرار خلف تهويمات التعالم الساذج والتنطع النزق ، التي غالبا”ما تراود المرء وتستحوذ على تفكيره ، وهو في غمرة الانفعال النفسي والتمترس الايديولوجي ، بخصوص قدرته على استنطاق المجهول من الأمور واستجواب المستغلق من القضايا . فاننا سنعمد الى حصر هذه المسألة / الاشكالية ضمن نطاق الحدية الاحتمالية التي لايمكن أن تخرج عن سياق المزوج الافتراضي ( اما / أو ) ، بحيث لا تأتي حصيلة الوقائع والاحداث اللاحقة مباغتة وغير متوقعة لفرشة الاحتمالات والافتراضات السابقة . مع الأخذ بنظر الاعتبار ضرورة توسيع حقول التنوع في الاتجاهات وهوامش التباين في المسارات ، التي يعتقد انها ستكون المرشح الأبرز لقيادة مسيرة المجتمع العراقي صوب المستقبل المنظور . وعلى خلفية المشهد البانورامي المضطرب، فانه يتضح ان المجتمع العراقي قد وضع على مفترق طرق تبدو المفاضلة بينها صعبة ولكنها غير مستحيلة ، اذا ما أريد – فعلا”لا قولا”- الخروج من هذا الخانق التاريخي والسعي لمشاطرة العالم المتمدن انغماسه في تخطي عيوبه وتجاوز مثالبه .
[email protected]