ليس في تشبه جماعتنا الإسلامية في تونس بالأحزاب ذات المنزع الديني الأوروبية التي تصف نفسها بالمسيحية ما يقنع، لأن هذه الأحزاب الأوروبية كلها أحزاب محافظة لكنها لا تتخذ من تعاليم الكنيسة نصوصا مرجعية لها.
من المواضيع التي أسالت الحبر كثيرا هذه الأيام موضوع “الإسلام الديمقراطي”، وهو موضوع قد برز فجأة في أوساط الإسلام السياسي بتونس خلال شهر يناير 2017 بعد الجدل الكبير الذي أثاره موضوع “الإسلام الغاضب” الذي يسعى إلى إيجاد مبررات لأعمال الجهاديين التكفيريين الإرهابيّة، وموضوع “اللحم النتن” الذي يبرر عودة هؤلاء الجهاديين التكفيريين من البلدان التي يقاتلون بها وقبول توبتهم.
والمواضيع الثلاثة قد ظهرت في فترة زمنية واحدة إذ تلا بعضها بعضا بسرعة فائقة. وتتاليها في الظهور في أوقات متقاربة دال على شعور الذين أظهروها ودافعوا عنها بالحيرة وعدم الارتياح لما يقولونه وما ينادون به في وسط اجتماعي مازال الرفض لهم غالبا عليه.
وقد خُصّ الإسلام الديمقراطي هذه الأيام بأكثر من مقال في الصحف، بل خصّته إحدى الجرائد الإسلامية بملف في الأسبوع الماضي من أبرز ما ورد فيه أن مصطلح “الإسلام الديمقراطي هو وصف للتمييز والتمايز عن الإسلام السياسي” الذي يمثل “رؤية شمولية للإسلام” قد ظهرت لـ“مواجهة رؤية شمولية علمانية”، وأنه يأتي لـ“مواجهة الدكتاتورية والفساد”، ويمثل “مدرسة جديدة في الفكر الإسلامي السياسي”.
ثم هو اتجاه جديد يؤكد “انتهاء الإسلام السياسي في تونس” وأن حركة النهضة التي تتبناه “حزب سياسي ديمقراطي مدني له مرجعية وقيم حضارية مسلمة (كذا) وحداثية”. والجماعة تريد من التونسيين ومن العالم كله إذن أن ينظر إليها على أنها قد تخلت عن مذهب كان اسمه “الإسلام السياسي” لتعتنق مذهبا جديدا تسميه “الإسلام الديمقراطي”، وهي بذلك تتخلى عن “الرؤية الشمولية” المؤدية إلى الدكتاتورية والفساد لتتبنى رؤية “ديمقراطية مدنية”.
وكل هذا جيد ممتاز بلا شك لأنه يدل على أن الحركة الإسلامية بتونس قد تخلت عن “الرؤية الإسلامية الشمولية” في العمل السياسي لتصبح حزبا سياسيا ديمقراطيا مدنيا حداثيا، ولكن ليس من السهل إقناع التونسيين هكذا بكل بساطة بأن الحركة قد تخلت عن “الرؤية الشمولية” المؤدية إلى الدكتاتورية والفساد، بمجرد قول رئيسها إنها أصبحت سياسية مدنية ديمقراطية والتبشير بذلك على المنابر الوطنية والدولية.
ودواعي الشك كثيرة. منها في المقام الأول الجمع بين الديمقراطية والإسلام. إذ ما معنى أن تكون هذه الديمقراطية الإسلامية غير شمولية ما دامت الحركة ذات مرجعية إسلامية؟ هل ستأخذ الحركة من الإسلام بعضه وتترك بعضه؟ فإذا كان ذلك ما الذي ستأخذه وما الذي ستتركه؟ ولك أن تبحث عن تفسير في النظام الأساسي الذي أقرته حركة النهضة في مؤتمرها التاسع سنة 2012، ثم في النظام نفسه بعد تعديله في مؤتمرها العاشر سنة 2016 فيطالعك في الفصل الأول منه في النصين القـديم والجـديد أن “حركة النهضة حزب سياسي وطني ذو مرجعية إسلامية يعمل في إطار الدستور (…) وفي إطار النظام الجمهوري على الإسهام في بناء تونس الحديثة الديمقراطية المزدهرة والمتكافلة والمعتزة بدينها وهويتها”.
فكيف للحركة أن تكون “ديمقراطية” مؤمنة بحق الآخر في الاختلاف معها، متقيدة بالدستور الذي يضمن حرية المعتقد- وليس من الضروري إذن أن يكون التونسي مسلما- وبالنظام الجمهوري الذي لا يميز بين فئة اجتماعية وأخرى أو طائفة عقَدِية وأخرى، ثم أن تعمل في الوقت ذاته على بناء تونس “المعتزة بدينها وهويتها”؟
وأنت إذا نظرت في الفصل السابع من هذا القانون الأساسي بنصيه وجدت فيه ما يؤيد هذا الشكّ، فقد جاء فيه “يعتمد الحزب لتحقيق أهدافه الوسائل الشرعية في إطار القوانين الجاري بها العمل”.
فكيف توفّق الحركة بين الديمقراطية والاعتماد على “الوسائل الشرعية” لتحقيق أهدافها؟ فإذا كانت “الديمقراطية الإسلامية” هي هذه التي يحدّدها الفصلان المذكوران فإنها ليست بديمقراطية بل هي “شمولية دكتاتورية” ظاهرة.
ومن دواعي الشك أيضا أن القول بالإسلام الديمقراطي، حسب ما نعلمه، هو قولٌ منزّل من أعلى هرم قيادة الحزب تنزيلا، وليس هو نتيجة مناقشات واختيارات مدروسة في مستوى قيادات الحزب وقواعده.
فإن المفهومَ من وضع رئيس الحزب والمصطلحَ كما يقول أصحابه من ابتكاره، وكأن على الآخرين أن يأخذوا بالمفهوم وبالمصطلح دون مراجعة أو تعديل. والمفهوم والمصطلحُ الذي يحمله في حاجة بلا شك إلى المراجعة والتمحيص.
ويمكن أن ننطلق في المراجعة من كتابات رئيس الحزب نفسه. ونحن نعلم أنه من خلال كتاباته لا يرى الدولة إلا إسلامية، فأنت تقرأ له مثلا في حديث أجري معه بتاريخ 2 يوليو 2014، أي بعد خمسة أشهر من المصادقة على “دستور الجمهورية التونسية”، ونُشِرَ في “الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)” قوله “الدولة الإسلامية باختصار نظام سياسي اجتماعي تتحدّد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص (من كتاب وسنّة) بوصفه المصدر الأعلى للتشريع والالتزام بالشورى مصدرا للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدرَ شرعيّة الحكم والحاكم.
إذن فلا مجال في دولة إسلامية لتشريع يناقض النصَّ، ولا مجال في الدولة الإسلامية لسياسة تصادم الرأي العام في إجماعه أو في أغلبه. وهو ما يقتضي وضع آليات وترتيبات تجعل من إرادة الأمة الملتزمة بالشريعة سلطة حقيقية”.
فالالتزام بمرجعية النص الديني واجب في الدولة، والنص الديني هو المصدر الأعلى للتشريع، و“الأمة”، وليس الشعب، التي تُطبّقُ فيها وعليها الدولة الإسلامية هي أمة “ملتزمة بالشريعة”.
وإذن فإن نظام الدولة ونظام الحكم والنظام السياسي عامة بما في ذلك الحاكم والمحكوم والتشريع الذي يسيّر الدولة والمجتمعَ ينبغي أن تخضع جميعُها لسلطة النص الديني، لأن الإسلام، حسب ما ورد في نفس الحديث المشار إليه، “ليس مجرد عقائد وشعائر معزولة عن الحياة وإنما هو برنامج إلهي شامل لحياة الإنسان، فردا وجماعة”.
وللملاحظ المتابع، وهو يقرأ الشاهدين السابقين، أن يتساءلَ عن مفهوم “المواطنة” في هذه الدولة الإسلامية الملتزمة بمرجعية النص الديني، وعن موقع المواطنين غير المسلمين- بل حتى المسلمين غير الملتزمين بالشعائر- بين أفراد الأمة المُلْزَمَةِ والملتزمة بالشريعة، كما له أن يتساءل عن مفهوم “الحداثة” و“الديمقراطية” الواردين في النظام الأساسي للحزب في نظام سياسي تهيمن عليه مرجعيةٌ النص الديني.
فإذا طبقنا ما ورد في كتابات رئيس الحزب على “الإسلام الديمقراطي” الذي بشّر به وجدناه إسلاما ضعيف الصلة بالديمقراطية، غالبا عليه الميل إلى الدكتاتورية الشمولية. على أن مرجعيةَ الحزب نفسَها مرجعيّةٌ موقعة في الشمولية.
فإن الشمولية ليست من خصائص الأحزاب ذات المرجعيات الدينية فقط، بل هي صفة عامة لكل الأحزاب والنظم السياسية القائمة على أيديولوجيّات فكرية أو عقدية مهما تكن طبيعتها. وليس هناك من فرق لذلك بين نظام شيوعي أو اشتراكي يعتمد الماركسية مرجعية مذهبية له، ونظام ديني إسلامي يعتمد النص الديني مرجعية مذهبية له، فكلاهما ينطلق من نصوص “فوقية” مفروضة على الشعب أو على الأمة في حياتهما المدنية فرضا، وتقاس درجة المواطَنَة والانتماء إلى الجماعة عند الأفراد بمدى اتباعهم لتلك النصوص وتطبيقهم لها.
وكلُّ حزب أو نظام يفرض على الناس التقيُّدَ بنصوص لم يكونوا هم من وضعوها- مثل نصوص الدساتير الوضعية- يُعدّ حزبا أو نظاما شموليا يتعارض والديمقراطية. فإن النظام الديمقراطي الحقيقي هو النظام الذي تسيّره قوانين وضوابط وحدود قد وضعها الشعب نفسه واتّفقت على صلاحيتها له مختلف فئاته وطوائفه والتزمت بتطبيقها والتقيّد بها، من الحاكم إلى المحكوم.
وليس في تشبّه جماعتنا الإسلامية في تونس بالأحزاب ذات المنزع الديني الأوروبية التي تصف نفسها بالمسيحية ما يُقْنِعُ، لأن هذه الأحزاب الأوروبية كلها أحزاب محافظة لكنها لا تتخذ من تعاليم الكنيسة نصوصا مرجعيّة لها، بل هي أحزاب مدنيّة لائكية تخضع لما تخضع له بقية الأحزاب اللائكية من قوانين وضعية قد صاغتها الشعوب نفسها، ثم هي ليست بالأحزاب ذات الإشعاع والانتشار في مجتمعاتها نتيجة خطاباتها الموغلة في المحافظة في أحيان كثيرة.
نقلا عن العرب