التعديل الدستوري الأخير كان ليكون خطوة على طريق تمتين الديمقراطية لو لم يكن هدفه تمتين سلطات أردوغان. كما كان يجب أن يتضمن تعزيز فصل السلطات وهو ما لم يحدث.
في منتصف العـام 2015 خسر حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم الأغلبية المطلقة في البرلمان، وهو ما اعتبر حينها بمثـابة ضـربة قـاضية لمخطـط تغيير الدستور والهادف إلى توفير صلاحيات أكبر لرئيس الجمهورية. لكن الفتـرة القصيرة التي تلت تلك الخسارة شهـدت تحولات سياسية كبيرة، وصولا إلى التحول إلى النظام الرئاسي بعد استفتاء الأسبوع الماضي.
نبعت تلك التحولات من الرغبة العارمة التي تتملّك رجب طيب أردوغان في الإبقاء على زعامته للبلاد وتمديدها أو تأبيدها عن طريق سلسلة من الألاعيب السياسية والعسكرية التي تحاصر المؤسسات الديمقراطية المقيّدة أساسا بدستور ذي نزعة تسلّطية.
ولتبيّن حجم التغيرات الهائلة التي جرت خلال أقل من عامين، يجب استعادة الأحداث التي قادت إلى استفتاء تحول البلاد إلى النظام الرئاسي.
الحدث الأول أعقب خسارة الانتخابات البرلمانية مباشرة وتمثل في إنهاء العملية السياسية مع حزب العمال الكردستاني والتحول إلى عملية عسكرية شرسة.
وهدف أردوغان من وراء ذلك إلى إشاعة حالة من عدم الاستقرار والخوف لدى الرأي العام التركي، بما قد يؤدي إلى تحشيد أصوات المترددين والقوميين في المعركة الانتخابية التي كان ينوي دخولها بعد عرقلة تشكيل تحالف حكومي.
بنقل النزاع مع الأكراد من مفاوضات وخلاف سياسي قومي إلى حرب عسكرية، سعى أردوغان إلى فتح الباب لإقصاء حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من الحياة السياسية، وهو ما فعله لاحقا باعتقال زعيمه صلاح الدين دمرداش وعشرة من نواب الحزب في البرلمان.
الخطوة الثانية كانت بتنحية أحمد داوود أوغلو عن رئاسة الـوزراء بعد استقالته من رئاسة حزب العدالة والتنمية، واستلام بن علي يلدرم منصب رئاسة الوزراء خلفا له.
ساعد ذلك أردوغان على تركيز السلطات بصورة أكبر بين يديه، وأعطى رسالة للـرأي العام التركي ومؤيديه خصوصا مفادها أنه يعتزم إطلاق مشروع إصلاح حكومي بصورة ما.
أما التحول الثالث فقد تمثل في تضييق الخناق على الأصـوات المعـارضة في تركيـا. إذ أطلقت مؤسسات الدولة الخاضعة لحزب العدالة والتنمية سلسلة من المحاكمات لاحقت من خلالها الإعلاميين والصحافيين المعارضين أو الناقدين للرئيس التركي.
ووصل هوس السلطان بكبت الأصـوات المخالفة إلى ملاحقة معارضيه في دول أوروبية مختلفة، بل ومطالبة تلك الدول بطردهم ومحاكمتهم.
التحول الأبرز حدث في شهر يوليو من العام الماضي، وذلك عندما فشلت وحدات عسكرية في الجيش التركي في محاولة انقلاب كانت ستغيّر وجه البلاد. ولكن وجه البلاد راح يتغيّر على أي حال حيث مكنت تلك المحاولة الفاشلة أردوغان من إبعاد الجيش بصورة تامة عن الحياة السياسية. إذ تلتها مباشرة حملة تطهير سياسي وأمني وعسكري واسعة جدا أدت إلى تمتين سلطات أردوغان وانتهاء عهد تدخل الجيش في الحكم.
فتحت تلك التطورات السياسية المتعاقبة خلال فترة قصيرة الباب للفوز باستفتاء تحويل البلاد إلى النظام الجمهوري. ولكنها لم تكن لتفعل ذلك لولا استفادة حزب العدالة والتنمية من دستور ذي نزعة تسلطية، كان شديد العداء له لدى وصوله إلى السلطة في العام 2002.
جرى إقرار الدستور التركي الحالي في العام 1982 بنية الانتقال من النظام العسكري إلى نظام سياسي ديمقراطي. ويمكن وصفه بأنه دستور شبه ديمقراطي إذ يتضمن وصاية وقيودا كثيرة على السلطتين التنفيذية والقضائية. يشمل ذلك الدور الكبير لمجلس الأمن القومي التركي الذي يحظى فيه الجيش بحضور بارز، ومجلس التعليم العالي، الذي يضم في عضويته عسكريين، ويقوم بتعيين الأكاديميين في المؤسسات التعليمية والجامعية. كما تخضع تعيينات السلطة القضائية للسلطة التنفيذية بدرجة كبيرة.
وكان حزب العدالة والتنمية قد بنى برنامجه للإصلاح السياسي على العداء لهذا الدستور. فخلال السنوات الثماني الأولى من حكمه عمل الحزب بجدية على إطلاق إصلاحات سياسية عززت النظام الدستوري والقضائي، وقلصت من سلطة الجيش، وأطلقت المزيد من الحريات.
ولكن السنوات الأربع الماضية، ومع تمكن حزب العدالة والتنمية من تكريس قوته وضمان سيطرته على الحياة السياسية، عمل على الاستفادة من ذلك الخلل الدستوري الذي يمنع تطبيق فصل السلطات، وهو العمود الفقري لأي ديمقـراطية.
وبدلا من إصـلاحه، عمـل الرئيس رجب طيب أردوغان على الاستفادة من ذلك التشوّه الدستوري ليخدم تمتين صلاحياته كما هو الحال اليوم. وقد ظهر ذلك من خلال التعيينات التي أجرتها السلطة التنفيذية في مناصب عليا في مؤسسة القضاء، بحيث أدت إلى إضعاف تلك المؤسسة وجعلها خاضعة ومتأثرة، بصورة كبيرة، بالسلطة التنفيذية.
وقد سمح ذلك بإطلاق سلسلة من المحـاكمات السيـاسية للصحافيين والمعارضين السياسيين. مثلما سمحت السيطرة على مجلس التعليم العالي بإجراء حملة تطهير في الجامعات والمؤسسات التعليمية بعد الانقلاب العسكري.
التعديل الدستوري الأخير كان يمكن أن يكون خطوة مهمة على طريق تمتين الديمقراطية، لو لم يكن هدفه تمتين سلطات أردوغان. كما كان يجـب أن يتضمن تعـزيز فصل السلطـات وهـو ما لم يحدث. إذ اقتصر على إتاحة الإمكانية لرجب طيب أردوغان للفـوز بالانتخـابات الرئـاسية بأغلبية ضئيلـة للغـاية، في ظل التنـافس مع مـرشحين آخـرين.
نقلا عن العرب