22 ديسمبر، 2024 11:33 م

تركيا بين العلمانية وحكم الإسلام السياسي

تركيا بين العلمانية وحكم الإسلام السياسي

فاز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية التركية ، ليكمل ما بدأه منذ عام 2002 ، تاريخ وصوله إلى السلطة في هذا البلد ، الذي ظل لعقود طويلة يغازل أوربا بعلمانيته على أمل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي  ، هذا الفوز الجديد الذي سيعيد إلى الواجهة جدلية لازمت تاريخ تركيا الحديث ، حول الصراع الخفي بين جذورها الإسلامية العميقة سياسيا واجتماعيا والذي يحمل هذا الحزب في طياته الكثير منها ، وبين صبغتها العلمانية التي فرضها عليها مصطفى كمال اتاتورك الذي أطاح بالدولة العثمانية منذ اكثر من تسعة عقود .

تأسس حزب العدالة والتنمية عام 2001 من قبل المنشقين عن حزب الفضيلة الإسلامي الذي كان يرأسه نجم الدين اربكان ، والذين كانوا يلقبون داخل الحزب بالمجددين ، وطرح نفسه على انه حزب سياسي معتدل غير معادي للغرب ،يتبنى رأسمالية السوق ، ويسعى  لانضمام تركيا الى الاتحاد الأوربي ، إضافة إلى انه يرفض ادعاءات خصومه السياسيين على انه حزب إسلامي ، ويستعيض عن هذه المفردة بالمحافظ بدل الاسلامي ، الا ان لا يخفى على أي مطلع ان هذا الحزب يمثل النسخة التركية لحركة الإخوان المسلمين التي ولدت في مصر في مطلع عشرينات القرن الماضي على يد الشيخ حسن البنا .

ولدت تركيا العلمانية على ركام ارث تاريخي إسلامي كبير ، حيث عرف الترك الإسلام ، بعد امتداد الفتوحات الإسلامية إلى بلاد ما وراء النهر ، وهو نهر جيحون ووصول القائد قتيبة بن مسلم الباهلي إلى تلك البلاد التي تعد اليوم جزء من دول آسيا الوسطى ، أفغانستان والجزء الجنوبي الغربي من كازخستان ، بين عامي (87-97) هجرية أي في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ، ومنها دخل الأتراك في الهيكلية العسكرية والإدارية للعالم الإسلامي ، وصل ذروته في خلافة المعتصم العباسي ( 197-272) هجرية ، حين استقدمهم الى بغداد وجعل معظم قادته ووزرائه منهم ، ومن ثم بناء مدينة سامراء شمال بغداد لتكون معسكرا لهم ، ووصل هذا النفوذ التركي ذروته داخل ثنايا العالم الإسلامي ، بنشوء الامبراطورية العثمانية التي أسسها عثمان ارطغول سنة 1299 ميلادية ، والتي سيطرت على أجزاء واسعة من العالم لعدة قرون ، رفعت شعار الإسلام ، كوسيلة لبسط نفوذها ، وطرحت نفسها على إنها الحامي والمدافع عن الدين الإسلامي ، ورافد مهم ورئيسي لبقائه وديمومته ،تمثل هذا في إعلان السلطان سليم الأول عام 1517 ميلادي نفسه خليفة على المسلمين ، عندما جيء (بالمتوكل على الله) وهو آخر ما بقي من سلالة العباسين الهاربين من بغداد إلى مصر جراء الاحتلال المغولي لها، ليتنازل عن الخلافة إلى سليم الأول، وبمباركة أزهرية ، وأعطي بعض من أثار رسول الله (ص) ، العصا والبردة وسلم مفاتيح الحرمين من قبل شريف مكة (محمد أبو نمي بركات) كرمز لخضوع واعتراف منه لسيادته على الأراضي المقدسة ، وبذلك استطاعت الدولة العثمانية مد نفوذها في العالم الإسلامي ، والسيطرة عليه تحت مظلة مقدسة ، شرعنتها لنفسها ، واستطاعت احتواء الكثير من ثقافات الشعوب التي استعمرتها عبر عدة سياسات ،  ساهمت بشكل كبير في تغيير الصبغة الديموغرافية لهذه الشعوب هي ، القوة والبطش ، وسياسة التتريك بجعل اللغة التركية لغة رسمية للبلدان التي احتلتها ، وانتهاج سياسة الإقصاء والتهميش مع الأقليات التي تمثل جزء مهم  من النسيج الاجتماعي في العالم الإسلامي، كالشيعة ، ومعتنقي الديانة المسيحية وخاصة في بلاد الشام .

 افل نجم هذه الإمبراطورية كحتمية تاريخية ، بعد ستة قرون استطاعت ان تحكم فيها معظم العالم الإسلامي إضافة إلى بعض دول اوربا الشرقية ودول البلقان ، كانت فيها ندا قويا لبعض القوى الإقليمية التي بني صراعها معها على أساس تنافسي توسعي لبس لباسا طائفيا كالدولة الصفوية في إيران ، وآخر اخذ منحى الاصطفاف والمحاور الدولية وهو الذي ادى الى إنهاكها حتى لقبت بالرجل المريض ، ومن ثم سقوطها على يد مصطفى كمال اتاتورك وإعلان الجمهورية التركية الحديثة في اكتوبر عام 1923 ، لتنتقل تركيا الى مرحلة جديدة لبست فيها ثوب العلمانية الغربية ، أطلت بها على القرن العشرين ، وفق نظرية ( التغريب ) التي انتهجها اتاتورك ، في محاولة منه لنقل المجتمع التركي من مجتمع شرقي إسلامي تقليدي الى مجتمع غربي ، يستطيع مواكبة التطور الحاصل في دول الغرب .

انتخب مصطفى كمال اتاتورك ، كأول رئيس للجمهورية التركية بتصويت 158 نائب ممن شاركوا في الانتخابات الرئاسية التي تمت عقب الإعلان الجمهوري أجرى اتاتورك عدة تغيرات جذرية من شأنها إيصال تركيا إلى مستوى الحضارة المعاصرة ،وطبقاً لدستور 1924 ، تبوء مصطفى كمال منصب رئاسة الجمهورية ثلاث فترات آخرى ( 1927- 1931-1935 ) وذلك بعد أن اُختير من قبل المجلس الشعب التركى كرئيس في التاسع و العشرين من أكتوبر عام 1923 ،وفى فترة رئاسة اتاتورك توالى عصمت انونو ،و فتحى اوكيار ،و جلال بايار على منصب رئاسة الوزراء ، كان عصمت انونو هو أكثر من ظل في هذا المنصب أطول فترة ، وقد تشكلت ثمانية حكومات في ظل رئاسة اتاتورك حتى وفاته عام 1938  .

كان حزب العدالة والتنمية كحزب إسلامي   نتاج لمخاض طويل وعسير للكثير من الحركات والأحزاب الإسلامية ، التي حاولت فرض نفسها بشكل أو بآخر على الواقع الاجتماعي والسياسي التركي على مدى العقود الماضية ، في ظل نظام علماني يستمد شرعيته من الدستور الذي يشرف على حمايته وديمومة علمانيته العسكر ، وكانت البداية من  حركة النور التي ظهرت في عشرينات القرن الماضي بقيادة الشيخ المتصوف بديع الزمان والذي انشأ هذه الحركة للوقوف بوجه ما اسماه الحاد الدولة ، والتي جوبهت من قبل اتاتورك بقوة عبر سلسلة من الخطوات ، قطعت الطريق امام جميع هذه الحركات وسرعت باتجاه تركيا نحو العلمانية ..فقد أدرك  انه لابد من اتخاذ خطوات أخرى في طريق تأكيد (علمانية تركيا وتحديثها) ووجد أن الطرق الصوفية المنتشرة في تركيا آنذاك، وراء تحريض السكان للعمل على إسقاط ما أسموه (بالجمهورية الملحدة)، ولذلك قرر توجيه ضربة إلى الطرق الصوفية، كونها  تمثل طبيعة وشكل الاسلام في تركيا انذاك ،  وألقى يوم 30 آب 1925 خطاباً في مدينة قسطموني الواقعة شمال الأناضول، قال فيه (إن الجمهورية التركية العلمانية لا يمكن أن تكون بعد اليوم أرضا خصبة للمشايخ والدراويش وإتباعهم من أصحاب الطريق وعلى مشايخ الطرق أن يفهموا هذا الكلام بوضوح وبالتالي أن يعلقوا زواياهم وتكاياهم عن طيبة خاطر، والى الأبد، قبل أن أدمرها فوق رؤوسهم) .. وما أن عاد من قسطموني، حتى ترأس اجتماعاً لمجلس الوزراء في الأول من أيلول 1925، وقد تقرر في هذا الاجتماع إغلاق التكايا والزوايا، وما لبثت هذه الإجراءات أن تطورت، فحرم على العلماء أن يلبسوا زيهم الديني إلا في المسجد، كما قلل عدد الوعاظ، وأصبح هؤلاء يقبضون رواتبهم من الحكومة، وفرض عليهم أن يقصروا خطبة الجمعة على المسائل الدينية  .. وفي 17 شباط 1926، ألغى المجلس الوطني الكبير العمل بالشريعة الإسلامية حتى في الأحوال الشخصية على اعتبار أن الشريعة تلك ( وجدت لتلبي مطالب الحياة في الجزيرة العربية منذ أربعة عشر قرناً) ..وسارت الحكومة الكمالية في سياستها العلمانية أكثر عندما ألغت في نيسان 1928 المادة الثانية من دستور 1924 والتي كانت تنص على أن (الإسلام هو دين الدولة الرسمي) .. كما حذفت العبارة الواردة في صدر المادة(26)، التي تعدد اختصاصات المجلس الوطني الكبير، وتنص على أن واجباته (تنفيذ أسس الشريعة) .. وحينما شعر مصطفى كمال، أن بعض العناصر المؤيدة للتيار الديني، عادت إلى نشاطها السياسي المعادي للدولة العلمانية، ادخل في قانون العقوبات مادة تنص على أن ( الذين يحرضون الشعب على القيام بإعمال مخلة بأمن الدولة، متسترين بلباس رجال الدين أو يدفعونهم إلى عصيان القوانين والأنظمة العلمانية، بحجة أن نظام العلمنة يسئ إلى المقدسات الدينية يعاقبون وفقاً للقوانين المرعية، وكذلك يعاقب كل من يؤلف حزبا سياسيا يستند إلى التعاليم الدينية) ، وتضمن القانون مواد تنص على معاقبة جميع الوعاظ في المساجد وسائر رجال الدين الذين يحولون دون تطبيق قوانين الدولة وانظميها ، أو يحرضون الناس على عدم إطاعة هذه القوانين والأنظمة، كما يعاقب كل من يقيم احتفالا دينيا خارج ألاماكن المخصصة للعبادة .. على هذه الأسس والقوانين بنيت تركيا الحديثة ، قاطعة كل الوشائج والصلات مع ارثها الإسلامي ، لذلك كان لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بهذا الحضور الكبير انتصارا للاسلام السياسي في تركيا ، وإحياء لمشروع الدولة العثمانية الحديثة ، التي ستتخذ من الإسلام  وتحالفاتها الدولية وسيلة للسيطرة على المنطقة سياسيا واقتصاديا ،وقد صرح السيد احمد داود اوغلو بذلك في احد اجتماعاته مع نواب الحزب عام 2009 بقوله (إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية ،إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد،نعم نحن العثمانيون الجدد،ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب)..  وهذا ما نراه جليا في دور تركيا الآن في ما يحدث بالعراق وسوريا ، ومحاولتها بسط نفوذها على المنطقة عبر إضعاف هاذين البلدين ، وارتدائها لعباءة الطائفية لكسب تعاطف العالم السني العربي معها ،  من اجل تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية في هذه المنطقة .