لا يزال مفهوم أعلمية مرجع التقليد هو المفهوم الموروث السائد في الحوزات العلمية، ويقصد به الأعلم في الفقه والأُصول أو الأقدر والأمهر في تطبيق القواعد الشرعية على الموضوعات في عملية الاستنباط؛ للتوصل إلى الحكم الشرعي، وهي أحكام الحلال والحرام، وقد عبّر عنها السيد الخوئي بقوله: «المراد بالأعلمية كون المجتهد أشدّ مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى استنباطاً، وأمتن استنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلّتها، وهو يتوقّف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها، ولا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر» (1). وخلاصته أنّ الأعلم هو «الأعرف بالقواعد والأشدّ مهارة من غيره في تطبيقها على صغرياتها» (2). ويُقصد بالكبريات هنا القواعد الفقهية والأُصولية، أما صغرياتها فيعني موضوعاتها ومصاديقها. أي أنّ هذا التعريف يستند إلى موضوعة الفتوى وقاعدة الكفاءة العلمية الفتوائية، دون غيرها من وظائف المرجع الديني وشروط تقليده.
وقد وضع الفقهاء شرط الأعلمية للمرجع؛ ليكون شرطاً ترجيحياً تدبيرياً عقلائياً يفرز مرجع التقليد من بين عشرات الفقهاء، وتزداد أهميته كلما ازداد عدد المجتهدين وعدد من يطرحون أنفسهم مراجع للتقليد. وبما أنّ طبيعة النظام الاجتماعي الديني الشيعي تستدعي وجود رأس له يتزعم الشأن العام ورئاسة الحوزة العلمية دون غيره من الفقهاء والمراجع؛ فقد اقترن هذا الموقع الرأسي بأعلمية من يشغله. ويذهب الفقهاء القائلين بشرط أعلمية مرجع التقليد، إلى أن تقليد الأعلم هو مبنى عقلائي وخيار عقلائي بالدرجة الأساس، فضلاً عن وجود بعض الإشارات الشرعية النصية غير المتفق على دلالتها.
ومع سرعة التحولات الزمانية والمكانية ومتطلباتها، وتراكم الموضوعات والحاجات المجتمعية والتنظيمية، وانحصار خيار الأُمّة بتفعيل وظائف المرجعية الأُخر؛ أخذت تبرز إشكاليات وأسئلة موضوعية حول مفهوم الأعلمية ومبنى شرطيته ومعاييره المتجددة ووسائل إحرازه، وصلته بباقي شروط المرجعية، وهي إشكاليات تنسجم مع تزايد صعوبة إنتاج الفتوى والحكم الشرعي والإدارة الاجتماعية. ونقارب هذه الإشكاليات في إطار ستة محاور:
ـ الإجماع على شرط الأعلمية وشرعيته:
لا يوجد إجماع بين الفقهاء على وجود مرجّح شرعي وعقلي لتقليد الأعلم، سواء وفق التعريف التقليدي للأعلمية، واللصيق بالفتوى ومسائل الحلال والحرام، أو وفق التعريف المتجدد المنفتح على قضايا العصر ومتطلباته. كما لا يوجد إجماع بين الفقهاء على كونه مبنى عقلائياً وضرروة عقلائية، وهو خلاف ما عدّه بعض علماء السلف من وجود إجماع بديهي على شرط الأعلمية، كما ذهب السيد المرتضى (3). أمّا الإمام الخميني فإنّه يرى بأنّ الأعلمية ليس بناء عقلائياً؛ بل إنّ اشتراطه من باب حسن الاحتياط أو الاحتياط الوجوبي (4).
وبالتالي؛ فإنّ عدم الإجماع على شرط الأعلمية في التقليد، وعدم الإجماع على وجود مرجحات شرعية وعقلية عليه؛ يجعله شرطاً تدبيرياً متحركاً قابلاً للتعديل والتجديد، ويختلف عن شرطي الاجتهاد والعدالة الثابتين؛ بل إنّ من الفقهاء (5) من يربط بين مفهوم الأعلمية ومعايير الاجتهاد الجديد، ويرى بأنّ المعايير التقليدية لبلوغ الاجتهاد لم تعد وافية وكافية، ومن الأولى أن تسري هذه المعايير على شرط الأعلمية أيضاً.
ـ معايير الأعلمية ومواصفاتها:
بناءً على المفهوم السائد في الفقه الشيعي؛ فإنّ جميع الشيعة وعلمائهم ومجتهديهم يدخلون في ولاية المرجع الأعلم، أي أنّ الأعلم تكون له الولاية تلقائياً على الفتوى والحسبة والمال الشرعي والقضاء، وصولاً إلى قضايا الحكم، ولا تقتصر ولايته على الفتوى فقط. وهنا تنشأ المشكلة حين يكون هناك أكثر من مرجع يشهد أهل الخبرة بأعلميتهم، في زمان واحد ومكان واحد، كما هو الحال في قم والنجف، وحينها من سيدخل في ولاية من، ومن سيدخل في حكم من؟!
ونلاحظ على المستوى النظري أنّ الأعلمية وفق معاييرها التقليدية؛ تمنح صاحبها حق قيادة الأُمّة والتصرف في مصيرها وتولي شؤون النظام الاجتماعي الديني الشيعي بكل تفرعاته وتعقيداته. وهذه الصيرورة ـ بحد ذاتها ـ تتعارض مع المبنى العقلائي ومع معايير الاحتياط؛ إذ إنّ مبنى العقلاء ومبنى الاحتياط يقتضيان معايير أعم من معايير أعلمية الإفتاء أو الأعلمية الخاصة المتجزئة الموروثة التقليدية، وهي معايير الأعلمية الجامعة المطلوبة التي تنسجم مع الوظائف الأساسية الكثيرة والمتنوعة لمرجع التقليد، ومع المتطلبات الاجتماعية والحاجات العامة الواسعة والمتراكمة.
ولكن على المستوى العملي نرى ـ أحياناً ـ أنّ المرجع الذي يتقدم باقي المراجع في التقليد ويمسك بزمام قيادة الاجتماع الديني الشيعي، لا يكون هو الأعلم؛ بل إنّ هناك من هو أعلم منه فقهياً وفق المفهوم التقليدي للأعلمية، وحينها يدخل الأعلم في ولاية الأكفأ في الشأن العام، أو ما يعبر عنه «الأصلح». ولدينا عشرات الأمثلة التاريخية والمعاصرة التي تؤكد تنازل الأعلم أو من يرى في نفسه الأعلمية لمصلحة المرجع الأكفأ والأصلح؛ ليكون الأصلح هو المرجع الأعلى المتصدّي. فإذا كان مناط الولاية هي الأعلمية؛ فكيف يجوز شرعاً لمن يعتقد في نفسه الأعلمية التنازل عن ولايته إلى مرجع لا يرى أنّه الأعلم؟ وهنا تبرز مفارقات بين الجانب النظري والجانب العملي، تتجسد في تقديم المصلحة العامة على المعيار الفقهي البحت.
ولطالما تحدّث بعض أهل الخبرة عن ضرورة تقديم «الأصلح» على «الأعلم» للمرجعية؛ فيقول ـ مثلاً ـ بأنّ مرجعية هذا الفقيه أو ذاك المرجع فيها مصلحة للإسلام والمذهب (6). ويأخذ هذا الصنف من أهل الخبرة معايير أُخر يراها أكثر أهمية، كمستوى التقوى والورع، والوعي العام، والكفاءة القيادية والقدرة الواقعية على رعاية الاجتماع الديني الشيعي. وهذه المرجحات التي تقدم مرجعاً على آخر، تعني أنّ المرجع الأعلم الحقيقي هو المرجع الأصلح من جميع الجوانب، وليس الأعلم في الجانب العلمي الفتوائي وحسب. أي أنّ الأعلمية هنا تتسع لجميع المساحات الموضوعية للأعلمية.
3ـ إحراز الأعلمية:
تعارفت الحوزة العلمية على عدد من الوسائل الأساسية لإحراز أعلمية مرجع التقليد، منها متفق عليها وأُخر غير متفق عليها، وقد ذكر الفقهاء منها وسيلتين، الأُولى: شهادة أهل الخبرة ممثلين بمجتهدَين عادلَين مطلعَين اطلاعاً كاملاً على أحوال الفقهاء الأحياء ومستوياتهم العلمية.
والثانية: الشياع المفيد للعلم، وهو شياع العلماء تحديداً. وهناك وسائل أُخر غير متفق عليها، ولكن يتم العمل بها أحياناً، كشهادة الأعلم الميت قبل وفاته بالمرجع الأعلم من بعده، بناءً على قاعدة خبروية المجتهد، فضلاً عن أنّ هذه الشهادة ممنوحة من المرجع الأعلم قبل رحيله، فتكون حجة على من كان يقلده، وكذلك زعم عالم الدين نفسه بأنّه الأعلم، دون شهادة من أهل الخبرة؛ بل من منطلق كونه خبيراً أيضاً، ومن حقه أن يكون له رأي في تحديد الأعلم.
وهنا تثار مجموعة أسئلة على هذه الوسائل، أولها يتعلق بشهادة المرجع الأعلم قبل موته للمرجع اللاحق. هذه الشهادة ستكون مقتصرة على أبناء مدرسة المرجع المتوفى وتلاميذه أو بعض زملائه، وقد يستطيع المرجع الأعلم السابق تشخيص من هو الأعلم والأورع بين تلاميذه وزملائه، ولكنه لن يستطيع تشخيص الأعلم من تلاميذ المراجع الآخرين أو المراجع الذين لم يزاملوه في الدراسة، ولا سيما الفقهاء الموجودين في حوزات أُخر وبلدان أُخر، بل نجد في بعض الجماعات الدينية المنظمة والخطوط المرجعية الخاصة أنّ المرجع المتوفى يوصي للمرجع الذي يليه من داخل خطه حصراً، في حالةٍ شبيهةٍ بالوراثة. وبالتالي لن تكون شهادة المرجع المتوفى حجة على المكلفين؛ لأنّها ليست شهادة شمولية مستوعبة لجميع المراجع والمجتهدين الموجودين.
وينطبق هذا الأمر على شهادة خبيرين مجتهدين بأعلمية المرجع؛ فهؤلاء الخبراء أيضاً لن يستطيعوا استيعاب جميع المراجع والفقهاء في تقويماتهم ونقدهم العلمي، لاسيما وأن كثيراً منهم بات يرجِّح المرجع الأصلح والأكفأ وليس الأعلم. وهنا سيكون الاختلاف على معايير المرجع الأصلح أكبر من الاختلاف على معايير المرجع الأعلم. فإذا قصرنا الحديث على الجانب الموضوعي في الأصلحية؛ سنجد من الخبراء من يذهب إلى أن الأصلح هو الفقيه الأكثر زهداً وورعاً وتقوى، بينما يرى آخرون بأنّ الأصلح هو الأكثر وعياً بمصالح الناس، والأكثر إلماماً بالشأن العام، والأقدر على إدارة المجتمع الشيعي، وهناك من يرى بأنّ الأصلح هو الأكثر إنتاجاً من الناحية العلمية.
وبالتالي ستكون الأعلمية والأصلحية نسبية تماماً، ومعبرة عن وجهة نظر الخبير الشخصية وتوجهاته الفكرية والاجتماعية والفقهية. ومنها ـ مثلاً ـ أنّ المجتهد الذي يؤمن بولاية الفقيه العامة ربما لن يشهد بأعلمية وأصلحية مرجع التقليد الذي يؤمن بولاية الفقيه الخاصة، وأن الخبير من مدرسةٍ مرجعيةٍ بعينها، لن يشهد لمرجع من خارج مدرسته أو يعارض مدرسته، وإن كان هذا المرجع هو أعلم علماء دهره.
كما أنّ الاكتفاء بشهادتي خبيرين سيؤدي إلى التعارض المخل في آراء الخبراء، وتنازع الرأي العام الحوزوي، كما لا يزال يحدث؛ لأنّ أهل الخبرة في الحوزة العلمية، ومعهم طبقة الفضلاء (أساتذة السطوح العالية من غير المجتهدين)، هم الذين يصنعون الرأي العام الحوزوي وهم المسؤولون عن توجيهه. ونرى أنّ بعض هؤلاء الخبراء لا يعترف باجتهاد عالم دين معين، في حين يشهد خبير آخر لعالم الدين هذا بأنّه الأعلم، وليس مجتهداً وحسب. فضلاً عن أنّ هذه الشهادات الثنائية تقود إلى كثرة مراجع التقليد بصورة كبيرة. فإذا افترضنا وجود (500) مجتهد في الحوزات العلمية، يمثلون عماد الرأي العام الحوزوي، وشهد كل عشرة منهم ـ مثلاً ـ بأعلمية أحد المراجع؛ فسيكون هناك خمسون مرجع تقليد، كل منهم هو الأعلم بشهادات متعارضة من المجتهدين الخبراء.
أمّا طريقة الشياع كوسيلة لإثبات الأعلمية؛ فربما لم تعد طريقة عملية وواقعية مع وجود كل وسائل التأثير الإعلامي والمالي والسياسي وتطورها العجيب بمرور الزمان. وربما هي الطريقة الأكثر إثارة للشبهات في أجواء حراك جماعات المصالح والضغط الداخلية.
كما تثير شهادة المجتهد لنفسه بالأعلمية، إشكالات أُخر؛ إذ يطرح السؤال نفسه ابتداءً: هل تصح شهادة المجتهد لنفسه بأنّه هو الأعلم؟ بل هل تصح شهادة عالم الدين لنفسه بالاجتهاد؟ وكيف يستطيع المكلّف (الإنسان العادي) الذي لا يمتلك أدوات المعرفة العلمية ولا يمكنه التشخيص الحقيقي، أن يتوصل إلى أعلمية هذا المجتهد أو إلى اجتهاده أساساً؟ فإذا كان العقل الشرعي يقبل بهذه الطريقة، فإنّها تفتح الباب على مصراعيه على كل أنواع المزاعم والادعاءات، دون ضوابط ومعايير، خاصة إذا كان بعض مدعي الأعلمية لم يشهد له أي من المراجع والمجتهدين بالاجتهاد والفضل العلمي.
هذه الإشكاليات ربما تشير إلى صعوبة، وربما استحالة إحراز الأعلمية والتوصل إليها بالطرق السائدة. وإذا كان إحراز الأعلمية صعباً حتى في إطار التعريف الموروث؛ فكيف يمكن إحرازها ـ إذاً ـ وفق المعايير الجديدة الطموحة؟
ولكن ـ دون شك ـ فأن الإبقاء على الطرق الثلاثة التقليدية المذكورة المثبتة في المدونات الفقهية؛ يمثل حدوداً معينة مقبولة من الضبط، ووجودها أفضل بكثير من عدمها. لكنها تبقى دون مستوى الطموح الذي تمثله الشهادة الجماعية للخبراء بأعلمية وأصلحية المرجع الأعلى؛ أي من خلال طريق مجلس أهل الخبرة المنتخب من بين مجتهدي الحوزة العلمية العدول المقبولين اجتماعياً، والذي تحدثنا عنه وفصّلنا في هيكليته وأدواته فيما سبق.
ونلفت الانتباه هنا إلى أننا لا نتكلم عن براءة ذمة المكلف في تقليد هذا المرجع أو ذاك، فهذه البراءة موضوع في غاية السهولة؛ لكننا نتحدث عن موقع رئاسة الحوزة العلمية الدينية وزعامة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وولاية المجتمع، وهي أكبر وأهم بكثير من موضوعة براءة ذمة المكلف وحصوله على الفتوى؛ لأنّه موقع يرتبط بمصير مجموع الشيعة أفراداً ومجتمعات، وحياتهم وأعراضهم وأموالهم.
4ـ الأعلمية وشرط العدالة:
إنّ الأعلمية لا تصنع فقيهاً عادلاً متقياً، ولا الاجتهاد يبني فقيهاً ورعاً. وبما أنّ الاجتهاد الفقهي هي صنعة، شأنها شأن الطب والهندسة والقانون وعلم الاجتماع؛ فإنّ الأعلمية في علوم الكلام والقرآن والحديث والفقه والأُصول والرجال هي صنعة أيضاً؛ أي أنّها أمهرية علمية في الصنعة لا أكثر، ويمكن للمسيحي والبوذي والهندوسي أن يكونوا مجتهدين في الفقه الإسلامي؛ بل يستطيع الملحد أن يكون الأعلم المطلق في الفقه والأُصول والتفسير والدراية والرجال؛ لأنّ إمكانية التدرج حتى بلوغ الأعلمية المطلقة في الحوزة العلمية متاحة لأي إنسان؛ بصرف النظر عن إيديولوجيته ومذهبه ودينه. وهو يشبه قدرة الإنسان المؤمن على أن يكون الأمهر والأعلم في الطب. أي أنّ الأعلم في الفقه والأعلم في الطب يمكن أن يكونا ملحدين أو مؤمنين أو فاسقين؛ فكلاهما صنعة.
وهنا تأتي الضوابط والمعايير الرديفة لتقيّد حركة فرز مرجع التقليد؛ كمعيار الإيمان المذهبي، أي: أن يكون إماميّاً اثني عشرياً، ومعيار العدالة، أي: أن يكون متقياً زاهداً ورعاً، فضلاً عن المعايير المتجددة، وفي مقدمتها الكفاءة والمقبولية العامة. أي أنّ شرط الأعلمية لا يمكن فصله عن الشروط الأُخر؛ بل إنّها جميعاً تمثل حزمة واحدة من الشروط.
5ـ الأعلمية وشرط الكفاءة:
إنّ توافر شرطي الأعلمية والعدالة في الفقيه لا يحوِّله إلى فقيهٍ كفء قادر على تشخيص مصلحة المجتمع والأُمّة، ووعي المصالح والمفاسد، وعلى حفظ النظام العام وإدارة الأُمور الحسبية والمال الشرعي، فضلاً عن قضايا الدولة. ولا تفرز الأعلمية والعدالة مرجعاً حكيماً شجاعاً مدبّراً عارفاً بزمانه وبمتطلبات عصره. ونشير هنا إلى أهم قضيتين تكشفان عن علاقة شرط الأعلمية بشرط الكفاءة، وأيهما يتقدم على الآخر عند تعارضهما، وهما: القدرة القيادية والوعي الكامل بمتطلبات الزمان.
والفرق بين الأعلم فتوائياً والأمهر قيادياً؛ كالفرق بين المفتي والمرجع؛ فالمفتي يبقى عمله منصباً على الجانب النظري، وينبغي أن يكون متميزاً في علمه وقدرته الفتوائية، أي أنّ مدخلية شرط الأعلمية في المفتي لها موضوعية وجوبية، في حين أنّ المرجع الديني لدى الشيعة يقود المجتمع عملياً من خلال الفتوى والحكم الشرعي، ويعزز موقعه القيادي والإرشادي والولائي من خلال الفتوى والحكم الشرعي أيضاً.
ولم يعد الواقع الشيعي كما كان قبل العام 1979؛ فمنذ ذلك التاريخ والواقع الشيعي يعيش عصر تحديات النهوض والصعود، وهو عصر يختلف تماماً عن المسار الشيعي منذ أكثر من خمسة قرون من التراجع والتهميش. وقد بات الفقهاء الذين يمثلون قيادة هذا الواقع؛ في مواجهة تطورات العلوم الطبيعية والتطبيقية، ومواجهة منظومات معقدة في العلاقات الدولية والقوانين، وباتت مسؤولية الفقيه فاعلة تلقائياً بكل وظائفها الافتائية والتحكيمية والحسبية والولائية والإرشادية. وبالتالي؛ فإنّ كفاءة الوعي والحكمة والشجاعة والقيادة ستتقدم على الأعلمية النظرية السائدة، عند الترجيح بين الفقهاء لموقع المرجعية.
6ـ الأعلمية ووظائف المرجعية:
تتوقف النظرة إلى علاقة شرط الأعلمية بوظائف المرجعية الدينية الشيعية على تعريف المرجعية، ومساحات ولايتها، والدور المطلوب منها. فالمرجعية الدينية كما توضح المدونات الفقهية الشيعية أصلها التشريعي؛ تمثل نيابة الإمام المعصوم في عصر غيبته، وأن المرجعية هي للفقيه العادل، ولهذا الفقيه ولاية من خمسة فروع: ولاية الفتوى، ولاية القضاء، ولاية الحسبة، ولاية المال الشرعي وولاية الحكم. وهناك إجماع بين الفقهاء على الفروع الأربعة الأُولى، ويختلفون في تشريع الولاية الخامسة (الحكم). وبالتالي؛ فإنّ بحثنا هنا يقتصر على الوظائف الأربع التي يجمع عليها الفقهاء، ونترك وظيفة ولاية الحكم إلى بحوث لاحقة.
هذه الولايات الأربع المجمع عليها تشير بوضوح إلى وظائف المرجع الديني وطبيعة موقعه، ولا سيما المرجع الأعلى المتصدّي، وهي وظائف تتنوع بتنوع فروع ولايته. وتؤكد هذه الفروع بما لا يقبل الشك أنّ وظيفة المرجع لا تقتصر على الإفتاء؛ بل إنّ الفتوى هي واحدة من أربع أو خمس وظائف أساسية. وهذا يعني أنّ الأعلمية لا يمكن أن تقتصر على الفتوى ومسائل الحلال والحرام؛ بل لا بدّ أن تنسجم مع كل هذه الوظائف والصلاحيات والولايات، وتلبي تنوعها، وأنّ المرجع يختلف عن المفتي اختلافاً ماهوياً. نعم، المرجع هو مفتي أيضاً؛ لكن الإفتاء يمثل 20% فقط من وظائفه. ومن خلال هذه الصلاحيات يتبين أنّ المرجع الديني عند الشيعة هو «الحاكم الشرعي» وصاحب الولاية الاجتماعية والولاية التشريعية والولاية القضائية والولاية المالية وولاية الحكم، ومنصبه لا يشبه المفتي السني، الذي هو ـ عادة ـ موظف حكومي، ولا البابا الكاثوليكي، الذي يمارس دور الأُبوة الروحية المحضة؛ بل هو منصب يمثل الإمامة الدينية والدنيوية في عصر غيبة النبي والإمام المعصوم. أي أنّ المرجع الديني هو ولي أمر المسلمين الشيعة وقائد النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وهو ما يصفه السيد محمد باقر الصدر بقوله: بأنّ «المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد… كانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين، شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية معاً»(7).
وحتى في الجانب العبادي الفردي والجماعي التقليدي، فإنّ كثيراً من الأحكام الشرعية بحاجة إلى أُذونات الفقيه قبل تنفيذها من قبل المكلف، ومنها أحكام الخمس والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي أنّ الفقيه يقوم بدور الولاية الشرعية المالية والحسبية والتحكيمية حتى في مجال الأحكام العبادية المحضة.
وإذا كان أغلب الفقهاء يشترطون الأعلمية في مرجع التقليد؛ فإنّهم يذهبون إلى أنّ الأعلمية لا تُشترط في وظائف الفقيه الأُخر، كالقضاء والحسبة والحكم؛ إذ إنّ شرط القيام بالوظائف المذكورة هي أن يكون الفقيه أعلماً في موضوعاتها ومتطلباتها، وأمهراً في أداء مهامها، وهو ما يلخصه الشيخ محمد حسن النجفي (صاحب كتاب جواهر الكلام) بعدم اشتراط الأعلمية في باب القضاء والأُمور الولائية (8)، بل إنّ الإمام الخميني يُسقط مفهوم الأعلمية في الموضوعات على أصل الاجتهاد، ويذهب إلى أنّ معايير الاجتهاد السائدة لم تعد كافية، وأن من يمتلك القدرة على الاستنباط في الموضوعات التقليدية لا يُعدّ مجتهداً، فضلاً عن أن يكون أعلماً؛ فيقول: «إنّ الاجتهاد المصطلح في الحوزة غير كاف؛ فإذا كان هناك شخص هو الأعلم في العلوم المعهودة في الحوزة؛ لكنه لا يستطيع تشخيص مصالح المجتمع… ويفتقد الرؤية الصحيحة وقدرة اتخاذ القرار في المجالات الاجتماعية والسياسية؛ فهذا الشخص ليس مجتهداً في المسائل الاجتماعية والسياسية، ولا يستطيع قيادة المجتمع»(9).
ويعالج بعض الفقهاء هذا الجانب بطرح مفهوم المرجع الأصلح مقابل المرجع الأعلم كما ذكرنا، ويرى بأنّ الأصلح للسفارة والأعلم للإفتاء (10)، وهو تعبير عن أنّ أعلمية المرجع تقتصر على الفتوى في الجوانب التقليدية، أمّا وظائف الفقيه الأُخر، وهي الوظائف الأكبر حجماً ونوعاً، والتي لخصها بمصطلح «السفارة»؛ فهي بحاجة إلى المرجع الأصلح. ومفهوم «الأصلحية» هنا ينسجم مع الواقع من جهة، ومع المفهوم اللغوي للأعلمية من جهة أُخرى، وفق ما ورد في سنة رسول الله وأهل بيته، وكما في قول رسول الله: «ما ولّت أُمّة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلّا لم یزل أمرهم یذهب سفالاً حتى يرجعوا ما تركوا» (11). ومعيار الأعلمية الذي يقصده رسول الله هنا ينسجم تماماً مع وظائف تولية الأُمّة وزعامتها، ولا يقتصر على الجانب العلمي الديني الفتوائي.
نخلص مما سبق إلى أنّ «الأصلحية» الواقعية هي تعبير دقيق عن الأعلمية الجامعة المطلوبة لمرجع التقليد، وهي الأعلمية الحقيقية التي تنسجم مع وظائف الفقيه الأربع أو الخمس المذكورة. أمّا الأعلمية المتجزئة التقليدية؛ فإنّها لم تعد تنسجم مع الواقع ومع تطورات العصر ومتطلباته وتراكم موضوعاته. ويعضِد هذا التحول المفاهيمي الواقعي؛ التغيير النوعي والكبير في النظام الاجتماعي الديني الشيعي على الصعد كافة. فالشيعة في كثير من البلدان لم يعودوا يعيشون حالة التهميش والعزلة والتغييب عن الحكم والدولة والاقتصاد والثقافة والإعلام والشأن الدولي. أي أنّ ضرورات التحول المفاهيمي الواقعي لم تعد مقتصرة على ملاحقة الفقيه لقضايا الطب والفلك والرياضيات والفيزياء؛ بل إنّ ثلاثة أرباع هموم الشيعة وموضوعاتهم هي اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وثقافية وإعلامية وعقدية، وهي موضوعات واقعية ميدانية أكثر من كونها نظرية، ولا تحتاج إلى فتاوى وتكييفات فقهية وحسب؛ بل إلى قيادة وزعامة وولاية؛ لتصحيح مسارها، وهي مهمة المرجع الأعلى حصراً. أمّا أبواب العبادات والعقود والإيقاعات والمعاملات، فتوافر أحكامها يسير جداً، ولم يكن مشكلة يوماً.
وعليه، فإنّ مفهوم الأعلمية المتجدد الذي يتطلبه الواقع، وينسجم مع وظائف المرجع، ينطوي على ثلاثة مفاهيم متفرعة، هي: «الأعلمية التقليدية»، و«الأصلحية الموضوعية»، و«الأقدرية القيادية». ويترشح عن المفهوم خمسة معايير متداخلة تكمّل بعضها:
أعلمية في مسائل الحلال والحرام.
أعلمية في الموضوعات، ولا سيما الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
أعلمية في فهم مقاصد الإسلام ونظامه العام.
أصلحية في وعي مصالح الأُمّة ومتطلبات نهوضها.
الأقدرية على قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
الإحالات
(1) السيد أبو القاسم الخوئي، «التنقيح في شرح العروة الوثقى»، تقريرات بقلم: الشيخ علي الغروي التبريزي، ج۱، ص۲۰۳.
(2) المصدر السابق، ص204.
(3) الشريف المرتضى علم الهدی علي بن الحسين، «الذريعة إلى أُصول الشريعة»، ج٢، ص٦٣٥.
(4) الإمام الخميني، «الاجتهاد والتقليد»، تحقيق: مؤسسة تنظيم ونشر الإمام الخميني، مؤسسة العروج، ص80.
(5) وفي مقدمهم الإمام الخميني وأغلب الفقهاء من تلاميذه. أُنظر: «صحيفه إمام» (فارسي)، ج21، ص177 ـ 178.
(6) أحد الفقهاء الذين نظّروا لمفهوم «الأصلح»؛ الشيخ عبد الهادي الفضلي. يقول: «الالتزام بنظريّة الأعلم في التقليد من حيث العمل والتطبيق فيها شيء غير قليل من الوقوع في العُسر والحَرج للاختلاف في مفهوم الأعلم، وشبه استحالة المقارنة بين جميع المجتهدين المتعاصرين لتعيين مَن هو الأعلم، وتعارض البيّنات دائماً من غير وجود مرجِّح في تحديد من هو الأعلم. كما أنّ السيرة العمليّة التي كان عليها أتباع أهل البيت في الرجوع إلى الفقهاء الذين كانوا في عصرهم، والذين أمر وأرشد أئمّتُنا الأطهار بالرجوع إليهم كانوا يتفاوتون في مستوياتهم العلميّة، كذلك ما في روايات التقليد من شموليّة للأعلم وغيره». عبد الهادي الفضلي، «ماذا لو توحدت المرجعية والقيادة»، مجلة شعائر، العدد 13، أيار 2011، ص25.
(7) محمد باقر الصدر، «الفتاوى الواضحة»، ص115.
(8) الشيخ محمد حسن النجفي، «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام»، ج40، ص11 ـ 27.
(9) «صحيفه إمام»، ج21، ص177 – 178.
(10) المراد من السفارة هنا القيادة والإدارة وتدبير العلاقات مع الجهات خارج النظام الديني، وهو ما يقتضي الكفاءة القيادية والإدارية، وليس الأعلمية الفقهية. أمّا الإفتاء الذي يحدد مسائل الحرام والحلال، فإنّ مهمته موكولة إلى الأفقه والأعلم بالشريعة.
(11) المجلسي، «بحار الأنوار»، ج١٠، ص١٤٣.