18 ديسمبر، 2024 7:59 م

ترامب في الرياض.. الكلام وحده لا يكفي

ترامب في الرياض.. الكلام وحده لا يكفي

من يتخذ القرار في البيت الأبيض؟ هذا سؤال محوري قد يقود تدريجيا إلى محاولة فهم استراتيجية الإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

دونالد ترامب يميل إلى العسكريين. في حديثه الدائم عن مساعديه، دائما ما يسميهم “جنرالاتي”. بدءا بمستشاره للأمن القومي الجنرال هربرت ماكماستر وضباط آخرين يعملون كمعاونين له، ووصولا إلى وزير الدفاع جيمس ماتيس ووزير الأمن الداخلي جون كيلي. الثلاثة شاركوا في حرب العراق، ويعرفون تضاريس المنطقة العسكرية جيدا.

لكن أين العقل السياسي داخل هذه الإدارة؟ لا يوجد. حتى نائب الرئيس مايك بنس لا يمكن النظر إليه على أنه شخص يملك خبرة سياسية كبيرة في ما يتعلق بقضايا المنطقة.

هذا التركيب السياسي الغريب على واشنطن خلق استراتيجية منقوصة في مقاربة الولايات المتحدة لقضايا المنطقة. هذه الاستراتيجية تعتمد على الخيارات العسكرية من دون ربطها بتحركات دبلوماسية أو أي رؤية سياسية لحلول فعالة.

خذ مثلا قضـايا إلغـاء الاتفـاق النووي مع إيران، ونقل السفارة الأميركية في تل أبيب إلى القـدس، وتصنيـف جمـاعة الإخـوان المسلمين تنظيمـا إرهابيـا، ومنـع رعايا 6 دول إسلامية من دخول الأراضي الأميركية.

كل هذه قضايا سياسية انتقلت فيها إدارة ترامب من مرحلة الخطابة إلى الفعل. المشكلة أن الإدارة لم تتمكن من النجاح في تحقيق أي تقدم في أي منها، ببساطة لأن ترامب لم يكن يملك استراتيجية أهداف واضحة من وراء تبني أي من هذه الملفات الأربعة، ولكن في كل مرة أعلن عن طرح واحد منها، كان يهدف إلى تسويق خطاب من أجل توجيه الرسائل لأطراف حليفة له. هذه الأطراف هي دول خليجية وعربية وإسرائيل وطبقة الأميركيين البيض الذين جاءوا به إلى الحكم.

لكن انظر إلى التحركات العسكرية في اليمن مثلا. تقول تقارير إن القوات الأميركية شنت هجمات على تنظيم القاعدة أكثر بكثير من أي عام من الأعوام الثمانية لرئاسة باراك أوباما. في أفغانستان لم يتردد ترامب في إعطاء الأمر باستخدام “أم القنابل” ضد أهداف لتنظيم داعش، وفي سوريا أطلقت سفن أميركية العشرات من الصواريخ على قاعدة الشعيرات الجوية التابعة للنظام السوري عقابا على هجوم خان شيخون بالأسلحة الكيمياوية، واستهدفت فوجا لميليشيا حزب الله بالقرب من قاعدة التنف العسكرية في جنوب سوريا الخميس الماضي.

الرؤساء الأميركيون اعتادوا في السابق على استعراض القوة بين الحين والآخر. كان هذا ضروريا عند ردع معمر القذافي عام 1986 بعد تفجيرات برلين مثلا، أو الإنزال الأميركي في لبنان قبل ذلك بأعوام قليلة. لكن ما تقوم به إدارة ترامب اليوم هو سياسة استعراضية وليس استعراضا سياسيا. الهدف النهائي من تبني ترامب لرؤية “الدفاع أولا والدبلوماسية أخيرا” هو سعيه لاتخاذ أكبر مسافة ممكنة بعيدا عن نهج أوباما في الداخل أو في الشرق الأوسط.

في خطابه الشهير الذي ألقاه في جامعة القاهرة عام 2009، كان أوباما يسير على خطى المؤسسة التقليدية التي دائما ما تتطلع إلى كسب تأييد الشعوب، وليس الحكومات فقط، لأميركا. في خطابه في الرياض سيتحدث ترامب إلى القادة وليس إلى الشعوب.

هذا تحول تاريخي في السياسة الأميركية منذ دوايت أيزنهاور، قد يفقد الولايات المتحدة الكثير من قوتها الناعمة وتأثيرها على البشر في الشرق الأوسط خصوصا.

رؤية ترامب خلال زيارته إلى السعودية تقوم على ضرورة أن يسمع القادة العرب كلاما يحبون أن يسمعوه كثيرا، مثل تصعيد اللهجة تجاه إيران والتعهد بمحاربة جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمون، والتغاضي عن ملفات حقوقية، لكن من دون أن يتحمل عمليا أي مسؤولية حقيقية في فرض الاستقرار على الأرض. بالنسبة لترامب كسب ود الحلفاء أولا، ثم يأتي أي شيء لاحقا.

لكن العرب يفهمون أن العلاقات الدافئة مع الولايات المتحدة لم تعد إنجازا في حد ذاتها، من دون أن يترجم هذا الدفء إلى نتائج، ومن دون أن يعرف الطرفان كيف يتم توظيف هذه النتائج بشكل يحقق مصالحهما معا.

منذ ترشحه للانتخابات الرئاسية، يتبنى ترامب خطابا معاديا للنفوذ الإيراني في المنطقة، لكنه لم يقل إلى الآن كيف سيحد من هذا النفوذ؟ هل تستطيع الولايات المتحدة أن تحدث على المدى البعيد تغييرات جذرية في ميزان القوى في المنطقة من دون أن تتسبب في تدمير دول تعاني أصلا صراعات داخلية، كالعراق ولبنان واليمن وسوريا؟

ترامب يعول على نجاح جولته الخارجية الواسعة لتهدئة الأزمات المشتعلة في الداخل، منذ فضيحة إقالة جيمس كومي مدير أف بي أي السابق
عمليا، الرئيس الأميركي لا يملك خطة واضحة لتحقيق ذلك.

إعادة إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين ملف ميت قبل أن يظهر إلى النور. لا أحد إلى الآن يفهم كيف سيقنع جاريد كوشنر، الذي تم إسناد الملف له في البيت الأبيض، الجانبين للعودة مجددا إلى طاولة التفاوض.

الحديث عن “ناتو عربي” أيضا لم يخرج عن حيز التكهنات. لا نعرف إن كانت ثمة خطة لدفع العرب إلى إعادة النظر في قدراتهم العسكرية، ووضع مخصصات مالية ضخمة لخدمة هذه القوة الناشئة، وتبني استراتيجيات واسعة لإعادة التدريب على عقيدة عسكرية محددة، أم ستكون هذه القوة عنوانا لتوقيع المزيد من صفقات الأسلحة وعقد المزيد من المؤتمرات الصحافية للحديث عنها، وفقط.

الكاريزما والعلاقات الشخصية والحشد والإعلام هي قوة ناعمة تصلح لتوجيه السياسة الداخلية وحل الأزمات المحلية بكفاءة. في السياسة الخارجية الوضع مختلف تماما. ثمة حاجة إلى اتفاقات تحقق المصالح المتبادلة، وقبل كل ذلك يجب أن توضع على الطاولة استراتيجيات واضحة تتطلع إلى تحقيق أهداف أكثر وضوحا.

مع ذلك يبدو أن ترامب يعول على نجاح جولته الخارجية الواسعة لتهدئة الأزمات المشتعلة في الداخل، منذ فضيحة إقالة جيمس كومي مدير أف بي أي السابق، على خلفية التحقيق في علاقة حملته الانتخابية بروسيا.

ثمة تشابه يصل إلى حد التطابق بين زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى القاهرة عام 1974 من أجل إقناع أنور السادات بابتعاد مصر عن الاتحاد السوفييتي، وانضمامها إلى المعسكر الأميركي في المنطقة، وزيارة ترامب إلى الرياض عام 2017 لقلب التوازنات في الشرق الأوسط. كلاهما كان يتطلع إلى مشاريع كبرى في المنطقة، وكلاهما كان يهرب من أزمات الداخل إلى مشكلات الخارج.

في حالة نيكسون، لم تمنع الزيارة من طبخ فضيحة “ووترغيت” على نار هادئة انتهت برحيله. في حالة ترامب، تبدو نهاية مماثلة بعيدة، أو ربما علينا أن ننتظر قليلا ونرى.

بالنسبة لترامب، الشعبوية السياسية قد تكون المشكلة وقد تصبح الحل أيضا. هذا ينطبق على غليان الداخل. لكن في الخارج “الشعبوية العسكرية” لن تكون على حساب الاستراتيجية الواضحة وتبني حلول أكثر عمقا لأزمات المنطقة، والإنجاز بدلا من ملء الهواء بالكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر.
نقلا عن العرب