كل الوعود التي أطلقها دونالد ترامب، الرئيس السابع والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية، بوقف حرب غزة والحرب الروسية في قلب أوروبا، تصطدم بجدار تراجع مكانة الولايات المتحدة. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي أعلنها ترامب، والمتمثلة في “تحقيق السلام بالقوة”، تتأرجح بين طموح ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام كما نالها سلفه باراك أوباما دون وجه حق، وبين المخاض العسير لولادة عالم متعدد الأقطاب.
ترامب رجل الصفقات، رجل الاقتصاد، غير المتنبئ بردود أفعاله، ترامب الذي يقال إنه لا يريد الحروب؛ كل هذه الصفات التي روّج لها الإعلام العالمي و صدعوا بها رؤوس الأحياء كانت تهدف، بقصد أو بغير قصد، إلى إخفاء آليات عمل قوانين الاقتصاد السياسي والتطور الرأسمالي وصراع الأقطاب الإمبريالية. كما ساهمت في تسويق فكرة أن العالم تحركه شخصيات “أخيار وأشرار”، كما رُوِّج للسياسات الفاشية الإسرائيلية عبر اختزالها في شخص بنيامين نتنياهو الساعي للهرب من محاكمته، بدل النظر إليه كتعبير عن مرحلة سياسية تاريخية تجسّد أطماع دولة قائمة على الظلم القومي السافر ضد الشعب الفلسطيني.
تقترب حرب غزة بعد أسبوعين من دخول عامها الثاني من الإبادة الجماعية، ولم تستطع إدارة ترامب إيقافها، ولا حتى إرغام حماس على إطلاق عدد من الرهائن رغم بلطجته وتهديداته. ويجدر بالذكر ان النظر إلى الضربة الإسرائيلية على قطر ومحاولة اغتيال وفد حماس المفاوض، حسب الرواية الكلاسيكية والميكانيكية التي اعتدنا عليها علنا تمت ب” ضوء أخضر أمريكي”، تخفي حقيقة لطالما تم تغييبها، وهي افتقار الولايات المتحدة الامريكية الى استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط، بل إن المعطيات تكشف، غياب أي استراتيجية أمريكية تمسك بزمام المبادرة في حرب تشنها إسرائيل من طرف واحد على الشعب الفلسطيني في غزة. وقبلها في الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إسرائيل وايران، كان المشهد نفسه: غياب استراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع تداعيات 7 أكتوبر 2023، ما سلّم زمام المبادرة بالكامل لإسرائيل وسياساتها في المنطقة. اي بشكل اخر ان كل ما يُقال عن تواطؤ أمريكا مع إسرائيل ليس إلا تضليلًا يخفي عجز واشنطن عن صياغة رؤية سياسية متماسكة. حتى إعادة إنتاج مقولة “الشرق الأوسط الجديد” من قبل نتنياهو هي صناعة إسرائيلية بامتياز وفق الروية الإسرائيلية، بينما تكتفي الإدارة الأمريكية باللهاث خلفها لتحسين موقعها في المنطقة.
لقد كان الرئيس الأمريكي دائمًا الممثل السياسي لمصالح الشركات الأمريكية ورؤيتها الاقتصادية والسياسية التي تجسّدها الطبقة الحاكمة عبر الحزبين الديمقراطي والجمهوري. ويمكن للرئيس أن يكون موظفًا بارعًا في تجسيد هذه الرؤى، وقد يكون موظفًا عاديًا يفتقر إلى الإبداع. أما ترامب، فقد اتضح أنه موظف فاشل، تحكمه أمنياته وطموحاته الشخصية أكثر من أي رؤية سياسية تعكس مصالح الطبقة الحاكمة. ولعل إطلاق مقولة TAKO عليه – أي (Trump Always Chicken Out) – يكشف تناقضاته وتراجعه الدائم عن تصريحاته، ويؤكد افتقاره إلى رؤية سياسية راسخة، وغربته حتى عن السرب الحاكم. ويظهر ذلك جليًا في فشل استراتيجيته “السلام بالقوة”، سواء في ثني أوروبا عن موقفها من الحرب في أوكرانيا، أو في احتواء التطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي باتت الهيمنةالأمريكية على المشهد الفلسطيني آخذة بالتراجع، وهو انعكاس لمكانتها العالمية. إذ تتسابق حلفاء واشنطن أنفسهم – بل حلفاء إسرائيل – للاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وواحدًا تلو الآخر يطلقون تصريحات شجب للوحشية الإسرائيلية في غزة. حتى رئيس الوزراء البريطاني، الذي أيد سابقًا حرمان غزة من الكهرباء والطعام بحجة “حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، وجد نفسه مضطرًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهذا يعني أن التحالف الغربي ضد روسيا لم يمنع التصدع في الموقف تجاه فلسطين، رغم محاولات إدارة ترامب عرقلة ذلك.
ولعبت الاحتجاجات العمالية والشعبية دورًا بارزًا في إرغام الحكومات الأوروبية على الاعتراف بفلسطين، وهيئت البيئة والأجواء ليدخل العامل الآخر على المشهد السياسي وهو التمرد المتنامي على السياسة الأمريكية .
ومن المعطيات الجديدة التي تكشف هذا التراجع: الاتفاقية الاستراتيجية بين السعودية وباكستان في المجال الدفاعي، والتي تؤكد أن المظلة الأمريكية لدول الخليج بدأت تتآكل بعد ضربة قطر التي تتواجد فيها أكبر قاعدة أمريكية جوية أمريكية في الشرق الاوسط. فباكستان، التي تنافس الهند اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وقفت ضد إسرائيل، بينما انحازت الهند إليها. صحيح أن التعاون العسكري والاستخباراتي بين السعودية وباكستان يعود إلى مرحلة الحرب الباردة، لكن تتويجه اليوم باتفاقية دفاع مشترك – في ظل امتلاك باكستان أكثر من 150 رأسًا نوويًا – يشكل حدًا لطموحات “السلام بالقوة” ويقوّض مشروع الشرق الأوسط الجديد القائم على جماجم شعوب المنطقة.
وبين هذا وذاك، تأتي المناورات العسكرية المشتركة بين تركيا ومصر لتصب هي الأخرى ضد سياسات أمريكا ومشاريعها الإقليمية. وتقوض من طموح إسرائيل في رسم شرق أوسط جديد. وأما رفض طالبان القاطع طلب ترامب إعادة القاعدة الجوية في بَغرام إلى الولايات المتحدة، فيمثل صفعة جديدة لاستراتيجيته.
اليوم، في 22 أيلول، ومع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبرز العنوان الأبرز: الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة. إنه إعلان واضح بأن الجميع يشق عصا الطاعة الأمريكية، وأن إسرائيل التي تخيّلت أنها سترسم معالم المنطقة عبر مشروعها الشرق أوسطي الجديد وبدعم غير المشروط من قبل الولايات المتحدة الامريكية، فإن الاصطفافات الجديدة في المنطقة وضعت عنوانًا آخر لها؛ بأن عالم القطب الواحد قد أزف أفوله، وأن كل ما بنته إسرائيل في المنطقة يتهاوى أمام صعود قوى إقليمية جديدة، تكون المزاحمة والمنافسة السياسية والعسكرية عناوين جديدة لفصول تفتح صفحات مليئة بالمفاجآت والتحولات والمخاطر الجدية. فبقدر تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة خطوات إلى الوراء، وبالقدر نفسه هناك صعود لنفوذ قوى إقليمية أخرى.
أما بالنسبة لساكن البيت الأبيض وسيده، دونالد ترامب، لا حول له ولا قوة كما بينت المعطيات السياسية، ولن يكون دوره أكثر من مهرّج سياسي على مسرح أنقاض تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأخيرًا، مثلما لعبت الحركة الاحتجاجية العمالية والشعبية العالمية دورًا مهمًا في الاعتراف بالدولة الفلسطينية ورسم آفاق مستقبلية لوضع حد للبربرية والوحشية الإسرائيلية المدعومة من أمريكا، هل يمكن أن تلعب دورًا لصالح الحرية والمساواة وسط احتدام الصراعات الإقليمية، وتضع لنفسها صفًا مستقلًا وان لا تكون ذخيرة حية ووقود للصراعات القومية والطائفية والدينية، مثلما روج لما سمي “محور المقاومة والممانعة” وقبلها الترويج للخرافة والترهات الطائفية التي تسلب الهوية الانسانية من البشر.