إضاءة على ديوان ( ثلاثُ جهاتٍ … للجنوب )
للشاعرة : نيسان سليم رافت
عندما تأتي الحرب بجحافلها تهدي الينا الخيبات , مجنزراتها تسحق احلامنا البريئة وتغيّب ملامح مَنْ نحبّ , رصاصاتها المتغطّرسة حتماً ستغتال الأنسان في أعماقنا , حينها سيولد انسان آخر يحاول مسح أفراحنا ويغادر الى جهة رابعة مجهولة , ليترك في القلب أنياب غيابه الكاسرة تجيد لعبة الأيلام والأختفاء خلف المجهول , ويبقى للشاعرة ( نيسان ) إلاّ ثىث جهات تكون قبلتها , تتشتت أقدامها في الدروب البعيدة , فكيف اذا كانت الأقدار متآمرة عليها بعدما مسحت آثار أقدامه المتصحّرة في عيون المدن المسكونة بأنفاسه والغائرة عميقاً تبحر في شرايينها .. ؟ ! .
انّ لغة الموت والفقد لمن أشدّ اللغات قسوة وإيلاماً حينما يتحدث بها الأنسان , الموت هذا القدر المرعب الذي يطاردنا مهما إتسعت بنا الحياة وتشعبت , وحده ياخذنا الى الغياب والفناء ويحمل سنوات العمر بكل ضجيجها وأفراحها واحزانها وملامح ذكرياتنا الى الهنااااااك , انّه الضيف الثقل الظلّ يرافقنا منذ اول صرخة نصرخها ونحن نأتي الى هذا العالم يذكّرنا بالضعف والتغيير وانّ الغروب موعدنا الأكيد . في هذه البقعة ( المباركة ) من الكرة الأرضية يستحوذ علينا شبح الموت دائما , لأننا أصبحنا أولاد الحروب الكثيرة التي تفتك بنا بقسوة وتلتهم ايامنا , فمنذ الطفولة كنا نتعرّف على الحرب في مدارسنا ومنظّماتنا ( الحزبيّة ) وفي برامج الأذاعة والتلفزيون وعن طريق أدب الحرب وثقافتها وأناشيد التبجيل للقائد الضرورة , والى الأن نعيش أجواء الحرب ويحتلنا الرعب والهلع من عدو مجهول صًوّر لنا مقبل الآخرين وزرعوه في عقولنا التي بّرمجت على الضعف والخوف .
انّ المتتبّع لرحلة الشاعرة ( نسيان سليم رافت ) في جهاتها الثلاث … للجنوب يجد بأنّ الحرب فرضت حضورها وبشدّة ووضوح في اغلب القصائد , فالزمن هنا مفقود في جميع الأماكن والطرقات والمدن , والموت وحضوره القاسي يتواجد بواقعيته في النفس الشاعرة . لقد تضخّمت أنوثة الشاعرة بالفقد في زمن الحرب فانطلق حرفها ينفض عنه الرماد والحزن بفعل الواقع المشحون بالموت والرحيل وإثارة الذكريات التي مازالت عالقة بذاكرة المكان والزمان , ونحن نتأمل كيف تأفل الأحلام وتتسرّب من جيوبنا الحزينة نجد بأنّ صوتها كان صادقا في رسم ملامح الحياة وفناء صور الحبيب واختفاءها في سجل التواريخ المهمّشة . لقد كان صوتها صوت البلبل المفجوع في نيسان العطاء , متانقاً في إختيار المفردة المشحونة بأجراس الخيبة وصورها المتدفقة داخل النفس البشريّة مثقلة بالوجع والهزيمة , تنبعث من أعماق الروح وتحت إمرةِ العقل فيّاضة تغوص في المحنة وتنبعث من خلال ويلات الحروب متألّمة بواقعية تأسرنا اجراسها وتعبّر أصدق تعبير عن ضياع الأنسان وغربته , لا ينفر منها المتلقي إنّما يتقبّلها منتشياً بعبقها لما تحدثه في النفس من أثر وتأثير , خفيفة عذبة تطرق اسماعنا فنستقبلها وتفضح الخلجات ولوعتها وتصوّر لنا المشاعر من خلال تركيبات جمليّة غنية تسترعي الأنتباه اليها رغم كثرة الموت والغياب .
في قصيدة / نوارس الحضور .. نستشعر الغياب والحضور في هذا التراكم اللغويّ يتشعّب ويتمدّد في القصيدة , ونلاحظ فعل تجاعيدهما في النفس فتتكاثر الندوب في الضمير , ويلتهم الروح بشهيّة هذا الواقع الغارق بالتلاشي والزوال ..
– الى دجلة الخالد / كتب في راحة يده اليسرى / اسمي …. / مع ذكرى دجلة / كنت اتمنى ان أغيب / غياباً طويلاً / يحمل امتياز الحضور / وصحوة الضمير / لمَنْ رافقتهم / قبل أن يصيب الخواء / دِلال كلماتي .
وفي قصيدة / كانّ الوقت قد تأخّر .. نقراّ نزف الوقت وانفاقه الموحشة والرغبة في العودة الى زمن الشباب وعنفوانه قبل الدخول في نفق الغياب ..
كأنّ الوقت قد تأخّر / لتعود الى حلمها القديم / تهرول بضعف عشرينها / مستنجدة بالمدن / التي ضاقت بها شوارعها / حتى بدات ساعات شوسها / بالانطفاء .
انّ تكرار الارقام ودلالاتها تتكرر كثيرا في الديوان , وكأنّ الشاعرة تعدّد سنواتها وتؤرخ بها محنتها لتواصل النزف وتستطعم الأحساس بالنهاية , فنجد في قصيدة / اجمل ما في الكتابة ..
عن عشريني ..؟؟؟ / وثلاثيني التي تبعثرت / في قعر الأربعين …. / من الوان الطيف حتى / راجت بالسواد على عاج جلدتي / فكسرني خط الذكرى / بعودتي الى رنّة الهاتف / لأجد تهنئة ….
وفي قصيدة / بندقية تنام قرب قتيلها .. نجد الحنين والأشتياق ينمو كالجنين مع انغام ( اغنيات البنفسج ) وروح الشاعرة تكبر بوحشتها واخيلتها تتعاظم متارجحة تنزلق في نبرات القصيدة ..
حتى تنسلّ روحي / لمّنْ أحب بيسر / وحتى أكسر ما أعتادته ايامي / على لون الكحل الرمادي / بدل الأسود الفاحم …
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة …
ها انا اعيش … / وقلبه يكبر بصدري / يجتاز الحدود .. والمسافات بدليل روحي .
وفي قصيدة / طيور أيلول .. نجد ملامح الغياب واضحة ولوعة الغربة وعقم الزمن واضمحلال الدفء على مسرح الحياة ..
اتوق لذاك النهر / الذي رافقت جريانه / ولَمْ أنحنِ يوماً لأشرب منه / حتى بدأ عود الخريف / بالميلان … / كأعواد الكبريت المحترقة ..
انّ ما يؤلم أكثر هو فقدان الأمل في هذه الحياة وغروبها وأندثار مَنْ نحب مكرهين والمضي نحو رحلة الابديّة , كما في هذا المقطع من قصيدة / جرعة أمل ..
كنت أتوق لجرعة امل / تمنحني الراحة لبعض الوقت / لسعادة مؤقتة / كتلك التي تعوّدت / ان احضى بها بروح راضية / ونفس مطمئنة .
انّ شبح الحرب وويلاتها تطارد الشاعرة وتقلقها وهي تعيش داخل دائرة الحرب وقسوتها وفقدان الزمن والذهاب بعيدا في احلام اليقظة تفتك بها على مسرح الحياة , كما في هذا المقطع ..
يوقظني حلم / على عربة المقعدين / تجرني أذيال خيبة الذين / ماتوا في الحروب / لأجل لا شيء ..
ونجد ايضا صورة الوطن الذي شوّهه اللصوص والطغاة حاضرا حينما تخاطب الاخر المفقود في اتون الأزمنة والغموض , كما في هذا المقطع من قصيدة / رصيف ..
مشته خواطر وطن مكسور/ التظاهر الكاذب / الذي اعتادته روحي / حين أبرّر سبب بكائي / وأنا في المطبخ / الدفاتر التي أدوّن فيها / اصدق حالاتي أسميها مسودّات / رسائل أهملتها وهي أكثر ما فيها يهمّك ..
لقد مثّلت الشاعرة واقعها وبالخصوص واقع المرأة العراقية في هذا الديوان , المرأة التي تعلّمت ان تجيد الحداد والدموع والحزن , وتضاجع الفقد والحرمان نتيجة المحنة وكثرة الحروب العبثيّة , فلو رجعنا الى تاريخ ميلاد الشاعرة لوجدناه في بداية السبعينيات , في هذه الفترة عاش فيها العراق السلام والهدنة مع الحرب , لكن سرعان ما تسارعة الحداث لتبدأ الكارثة الكبرى وتستمر الحروب حتى يومنا هذا هذا , لقد عاشت الشاعرة جميع الحروب التي حدثت فرسمت لنا هذه الصورة المأساوية عن المرأة العراقية ..
كما في هذا المقطع من قصيدة / رصيف ..
( عايدة ) و ( نازك ) و ( نادية ) / أجمل فتيات المدينة الصغيرة / وبوصلتها الخالية / من جهة الشرق / لم يعد الأمر يهمني / بيوم زائد …/ أو قل كلهن رحلن ../ فالأولى ترمّلت في حرب الثمانين / والثانية هاجرت بعد حرب التسعين / وأما الثالثة تعيش الأختناق / تبدده على ورق افتراضي / او صورة مرفقة / مع موضوع لا يهمك / ولا يهمّ أحداً / او لربما كانت اليك .
فكلما يجيء ذكر المرأة يحضر معها الرجل المفقود من الواقع لكنه يأبى ان يغادر الذاكرة المشحونة بأطيافه وهي تتزاحم دوما في مخيلة الشاعرة المنكوبة بفقده . نعم هو الرفيق والأنيس لها في غربتها فلا سبيل لحضوره الاّ عن طريق استدراجه في الحلم , فنجد حضوره كما في هذا المقطع من قصيدة / أستعيرك حلماً ..
يومان ../ أحببتك فيهما كثيراً / يوم عرفتك ../ ويوم لا تاريخ فيه يدوّن / حوارات كثيرة / لا تشبه النهايات بداياتها / أخطاء ثمينة / كبرت في عمر اليباس ..
انّه الأحباط والحرمان الذي لازم الشاعرة من بداية الديوان الى آخره , فلا سعادة تطرق ابواب أيامها ولا سكينة تبعث الهدوء النفسي , ففي قصيدة / الكتابة .. انتصار نجد هذا القلق والحزن والخوف والتوهان ..
كنت أمتلك واحة من الكحل / لا أكتفي إلاّ بحجم المغرفة / من شأنها أن تروي عطشي لرؤياه / ماعاد اليوم كذلك …/ لم يعد خطّ الكحل يعربد في نظراتي / ولا يلوّث فرح بكائي بحبه ../ ربما مازال طفل الوقت يجهل شأن الحياة / هكذا … قد جفّ رضاب الصيف / في اللقاء ..
نعم هكذا تجفّ سنوات العمر من حضوره ويدبّ الخراب في النفس وتعبث بها الأقدار , ففي قصيدة / زرقة البنفسج .. نجد الخطاب واضحا وجلّيا لمن كان .. يا غطاء الروح / وعنفوان القصائد المحترقة / بايّ وترٍ كتبتك الأيام / وأيّ الأسماء ألفتك دوني …
انّه العتاب المرّ والشكوى من الهجر والابتعاد ومغادرة قلب الشاعرة الى جهة أخرى , كلّ هذا تصوره لنا الشاعرة بصوت خاف هادىء حزين مغلوب على أمره , صوت أنثى ذاقت القهر وعاشت المرارة , كما في هذا القطع من نفس القصيدة .. وتنتقي للعشر فوق أربعينك / أنثى كشجر التين / وكما يريد الحبّ / تختصر كل النساء / اللاتي أحببتهن وهجرتهن / شارة النهاية …./ في نصوصك القديمة ..
هكذا تتجلّى الخيانة بالهجران والتنصّل من كل المواثيق والعهود بينهما , ويذهب يبحث عن أنثى أخرى بطعم التين ريّانة تمتلىء شبابا وأنوثة لا لشيء سوى أشباع غرائزه المتكررة والجامحة . فينتابها الشكّ من كل شيء نتيجة ماذاقت من الحرمان والخسارة , فنجد في قصيدة / مساران .. هذا القلق وعدم الأستقرار النفسي عندما تنازعها الأفكار ..
لمْ يعجبني الأمر / إثنان يحاصران زوبعتي / قلب يعجّ بالضوء / وعقل يقاسي عتمته / اي المسارين أسلك ../ كبرت فوهة الأخطاء / وعجزت عن طمر الذنوب / صور وقصائد / ماتزال رطبة مثل شجر الزيتون / خضراء في كل الفصول ..
فتلجأ الشاعرة الى الشعر كي تبثّ مواجعها الى الورق وتسكب دموعها حبرا من الدم يلوّن كلماتها , ففي قصيدة / بلا ضجّة .. نجد كيف يتسلل اليها الظلام وتتلاشى أصوات أغنياتها لذاك الساكن في البعيد ..
يسطّر الحبر / غضب الأيام على دفاتري / وتلك النقط ……… التي / أماتت الحروف المررة بنبضي / فلتعذرني نثريات الشعر / فلتعذرني نجيمات السماء / بلا ضجّة … / ركنت العناكب على نافذتي / ولم يعدْ يغرّد الحمام بشِعري / كم مرّة أهديته ضحكتي / وتغنّت المواويل / ببحة صوتي ..
لقد أصبح هذا الحبيب أجمل خيبات الشاعرة ذاك الذي أجتهدت كثيرا ان تضعه داخل نصوصها كي يرافقها في رحلة الحياة والحرف , ولكن …… ؟!! . ففي قصيدة / أجمل خيباتي .. تقول .. حدث … / أنّك كنت أجمل خيابتي / لم اسعَ في حياتي ../ مثلما سعيت للأحتفاظ / بطريقة العيش بيني وبيني …
وتستمر في ذكر خيباتها ../ هكذا اراني أكبر / لم أدرك حينها / كم كنت كبيرة بما يكفي / وصغيرة في مواقف أخرى لا أتذكرها ..
وتستمر في محنتها ولا عزاء لها سوى الكلمات .. فتقول / ذاك الذي أجتهدت بوضع النصوص له / بشهيّة …/ أحتفت به كل قصائدي / حتى طلب منّي الرحيل / قال لي : / دعيني أرفو ما تمزّق من خيمتي / وما تصدّع من حولي / فنال شرف أن يكون / أجمل خيباتي ..
انّها ألأنانية المفرطة والعبثية بالمشاعر الصادقة وسحق كل الأحلام المعشعشة في الروح وتمزيق القلب بلا رحمة ..
وتشتدّ غربة الشاعرة بعدما تخلّى عنها الجميع ولم ينتبه لمحنتها ومكابدتها الآلآم اي انسان آخر , فتقول مقطع من قصيدة / غربة شوارع …
لا أحد ينبه لي / سوى آثاري المنغرزة / على ارصفة كرستال / لا وجه لي ../ سعي بلا ملامح / أشبه الوطن الذي / فشلت أن أكون ضمن حدوده .
وهكذا تصبح الأيام عبارة عن رفات وأطلال مزّقتها ريح الغدر والخيانة ومزّقتها حراب الحروب , ففي مقطع من قصيدة / رفٌّ لفتات العمر ..
لا تسأل يوماً / عن مكاني / فأنا وسواي لا موطن يسكنني / اشبه بضحية معاصرة / أبتلعت حبالها الصوتية / لم تعد الأيام كسابق عهدها / ولا الساعات التي كنا ندور بها / نقش عن رفوف نودع فيها بعضا / من فتات أعمارنا / واين لنا بارض / يحرّم فيها قتل الحمام ..
وهكذا تستمر الشاعرة في تعداد خسائرها واستذكار الفقد والغياب الحاضر في تفكيرها دوما الى ان تصل الى نهاية حكايتها , الى آخر قصيدة في الديوان المتخم بالوجع والأنين والتشظّي والغربة , ففي مقاطع من قصيدتها الأخيرة ونداءها الأخير اليه / أطوِ جناحيكَ .. هنا تطلب منه ان يغادر سماواتها فما عادت صافية زرقاء نتيجة ما تعرّضت له بسبب الحرب والخسارة والفقد والخيانة ..
تأبط ظلّك المهزوم / قد تسامت الروح / أنا … وأنت / والحرب تحتاج الى مَنْ يوقظها ..
وتستمر كما في هذا المقطع أيضا ..
برحيلك تعلمت / أن أمسك العبرات من أكمامها / كي لا ينزف كحلها ..
لقد كانت رحلة مفعمة بالنزف والدموع والخيبة والفقد , لقد كان ديوان الشاعرة ( نيسان سليم رأفت … ثلاث جهات … للجنوب ) عبارة عن تراجيديا كان الموت فيها حاضرا والغياب يملىء الروح النقيّة والمسالمة .