18 ديسمبر، 2024 7:48 م

تراجيديا الوجع العراقي في المجموعة القصصية (الهذيان داخل حقيبة الموت ) للقاص احمد الجنديل .

تراجيديا الوجع العراقي في المجموعة القصصية (الهذيان داخل حقيبة الموت ) للقاص احمد الجنديل .

أنا لست في قاعة محكمة ، غير أني أجد ضرورة في إعادة القسم بشرفي على نقل المشاهد الدامية كما حدثت ). ان تبدأ  بالقسم والشهادة على أحداث دامية يعني ذلك انك تبدأ بالتخلي عن صمتك وخوفك مما يجري من قتل وإقصاء و أحداث مرعبة  ، كما انك ترفع راية الرفض والتمرد بوجه ما يجري من اغتيال للحياة والجمال والسلام الغائب في وطن تكاثرت علية الذئاب تنهش الحياة فيه وتقطعه الى  أجزاء متناثرة . هكذا يوثق بطل قصة الهذيان مثنى سعيد الوجع العراقي  بعين دامعة وقلب جريح ( أنا مثنى سعيد حامد ، في المرحلة الأخيرة من كلية الآداب في الجامعة المستنصرية ، أسكن في حي القاهرة ، أقسم بالذي لا إله إلا هو ، أن ما أدونه ألان، لا يخرج عما شاهدته من تلك الحادثة ) ص39. وبما أن فعل التدوين هو فعل  توثيق ،وتأكيد، وشهادة  على أحداث دموية ظلت شاخصة مثل نقطة سوداء في ذاكرتنا لذلك يشكل التدوين لحظة إزاحة لعبئ وجودي ضاغط على الذات والوعي وعليه يكون الهذيان به والإعلان عنه أنجع الحلول   . تدور أحداث القصة عن  انفجار يقع أمام الجامعة المستنصرية يذهب ضحيته الكثير من الطلبة والمارة ،انفجار يحطم كل أشكال الحياة والأمل بغد أفضل و مثنى الطالب المتوقد حماسا وزهوا هو الناجي والشاهد الوحيد على حجم المأساة تلك التي يصفها بوجع (اقتربت من المكان ، وهناك كانت الفجيعة بكل بشاعتها ،عارية بكل قبحها )ص46  يسقط مغشيا عليه من شدة الانفجار (العصف) وحينما يستعيد وعيه لا يجد  من أصدقاء العمر سوى النصف العلوي من (سوزان) وساعد  صديقه (صلاح )الذي كانت تربطهما علاقة حب وإعجاب متبادل ، كان يصفها  مثنى بأجمل فتاة في الجامعة ،بعد ان يستجمع قواه من هول الصدمة  يستطلع المكان بحثا عن صديقه صلاح وهو يمني النفس بان يكون لا يزال حيا  وسط الأجساد المتناثرة لكن لم يجد منه غير ساعده الذي عرفها من خلال الساعة المثبتة في رسغه لذلك يدعي بأنه مصاب ليكمل البحث في المستشفى ويفتش في ردهات الجرحى والقتلى عن صلاح رفيق دربه الوحيد لكن  يجده ملفوف بالضمادات ولشدة جروحه يفارق الحياة عبر مشهد يمثل تراجيديا الموت والقتل والوجع للإنسان في العراق الجديد  .
يعيد احمد الجنديل  رسم خارطة الجسد العراقي الجريح عبر مجموعته القصصية (الهذيان داخل حقيبة الموت ) مستعينا بمشرط قلمه الذي يرصد لحظات الموت والانكسار والضياع الإنساني في زمن ما بعد 2003 الذي تحول فيها لون الحبر الأزرق بلون الدم الأحمر الذي ينزفه العراقيين منذ دخول الاحتلال وحتى يومنا هذا .
تضم المجموعة ثماني قصص  ذات ثيم وموضوعات مختلفة لكنها تلتقي وتتشارك عند نقطة مركزية واحدة هي المأزق العراقي الذي يتمثل بإشكالية صناعة الحياة الإنسانية  . صدرة المجموعة سنة 2008 بأشراف اتحاد الكتاب العرب ، تبدأ  بقصة الفضيحة ، وعندما يغيب الليل ، والهذيان داخل حقيبة سفر التي ستكون محور اهتمامنا النقدي في هذه الورقة ،و تنتهي بقصة الخنازير لا تدخل الجنة .
يحاول احمد الجنديل عبر قصص المجموعة الولوج الى عمق المأزق  العراقي بكل أشكاله الاجتماعية والنفسية والسياسية والثقافية صانعا من عوالم قصصه عدسات رصد تفضح  واقع العراق في مراحل التغيير الديمقراطي المزعوم ، وتعرية لكل أشكال الكذب والوهم الذي ضحى من اجلها العراقيين انهارا من الدم عبر أشكال والموت المعلن وغير المعلن . اعتمد الجنديل في قصة الهذيان على تقنية الفلاش باك في سرد الإحداث اي السرد عكس عقارب الساعة  على لسان راوي هو بطل القصة مثنى الذي يوثق  لنا أحداث جرت فالماضي القريب  لكنها اليوم تحيط  بنا من كل صوب ، لحظة الموت والذبح المتواتر والإنفجارات التي تعصف بوجودنا ، حيث يفتتح السرد ( لست مطالبا أن أتحول الى راوية ، أريد أن أتحدث ،أن يسمعني أحد  ) ص39 فالدافع من الامتناع عن دور الراوي هو دافع ثيمي أكثر منه حقيقي  ففعل الاعتراف والشهادة هو فعل روي لإحداث وقعت فعلا وبالتالي  تخلي البطل عن دور الراوي هو فعل إيهامي ، الهدف منه جذب وتحفيز  النص لكسر حاجز ألا تفاعل مابين الراوي والمتلقي فشهادة مثنى في جزء منها  هي مقدمة تفسيرية لحجم الوجع  والفشل الذي نحن جزء من صناعته و في نفس الوقت هي فعل إدانة للنحن الذي أنتج هذا الواقع والحال المزري لذلك لا يجد  سوى الهذيان لوسادته التي  في دلالاتها النحن الصامت (وصفت الفجيعة أكثر من مرة أمام وسادتي التي أنام عليها، وضعتها قبالتي ، وبدأت معها الحديث ، لم تبك ولم تنفعل )ص39 ولأن  حجم المأزق كبير وموزع على جميع العراقيين بالتساوي لذلك كان فعل السرد  لحادثة او فجيعة نشترك بمعاناتها جميعا  هو فعل جمعي نتشارك في صناعته جميعا.
أن تروي قصة او تصور فاجعة هذا يعني انك تتبنى فعل المبادرة للكشف والتعرية لهذا الواقع ان تضع نفسك في خانة الاحتجاج والمعارضة ،لذلك عمد الجنديل الى جعل هذا الرفض والاحتجاج ينساب  عبر انعكاس الذات الساردة مثنى لينفتح على النحن المجتمع  لذلك تداخل هذا السرد مابين الحقيقة والهذيان وهو ما يعكس هذا التداعي النفسي للبطل وهو يتمثل أحداث الانفجار وما بعد الانفجار لتكون أكثر وصولا وأدانه  لنا نحن المشاركين في صناعة هذا المأزق الوجودي ،والذي لا يمكن الخلاص منه  الا عبر اللغة بوصفها وعاء يحتضن المعنى بكل أشكاله ( يقولون أن اللغة هي الوعاء الذي يوضع فيه ما يراد عرضه من المعاني ) ص46 فقد استطاع الكاتب عبر اللغة من أعادة أنتاج المعنى الوجودي من خلال دلالات رمزية تدين فعل الفشل الوجودي المتكرر في صناعة الحياة كاشفا في الوقت نفسه عن سؤال محوري في جميع قصصه وهو: لماذا لم نستطع تجاوز المأزق الوجودي المتمثل بقدرتنا على صناعة الحياة الإنسانية السوية  التي فشلنا في استعادتها عبر حاضرنا وربما مستقبلنا أن لم أكن متشائما ،يستعيد ذلك الجنديل عبر منولوج داخلي حر مرسل كخطاب بصيغة الغائب ( أمس ،وعند الغروب ، جلست عند أقدام النخلة الهرمة الوحيدة في باحة بيتنا القديم كان صوت المؤذن يصرخ بالتكبير ، لم أصغ إليه، كنت منسجما في حوار داخلي ساخن ، أحسست أن عمتي النخلة كانت تصغي إلي ) ص40 ،عمد الجنديل لجعل صورة النخلة معادل رمزي شاهد على الواقع المزري في الحوار لجعل النص ينفتح على دوائر الاستدعاء والتأويل الرمزي ، التي تنفتح بدورها  على دلالات النخلة كحضور دائم في اللاوعي الجمعي للعراقيين وما تشكله من رمزية دينية وثقافية لذلك جاء الحوار ليشكل فعل  إدانة واعتراف وشجب للتاريخ والرموز  التاريخية  (استلمت خطابا من عمتي العزيزة أن التزم الصمت ،ولا أكون مهذارا ) ص41
.ان اعتماد موضوعة الموت والقتل للإنسان العراقي كثيمة أساسية في المجموعة جاء كرد فعل ناقم على واقع مسكون بالتناقضات والهزائم  الفكرية والاجتماعية(لم يبق لأمي شيء من الدمع لوقت الحاجة ، والدمع ضروري كالخبز ،لابد ! وأن يكون لها رصيد منه ، وإلا تختنق من الداخل وتموت) لذلك برز بطل قصة الهذيان بطل مسلوب الإرادة بطل مصدوم دائما بفعل الموت والدمار الذي افقدنا  حتى فعل التمرد والاحتجاج بوجه من يمارس الموت ضدنا ، وعليه لم يتبقى لنا غير التدوين على الورق كعلاج مخدر كما يصفه البطل ( نهضت حذرا لأ أتناول هذا العلاج ، علاج الكتابة إليكم أيها السادة )ص41فرغم ان الكتابة في بعدها الإجرائي هي فعل  فردي لكنها تكتنز بداخلها وعي جمعي وثقافي يشترك به جميع العراقيين ويتمحور اغلبه حول  إشكالية صنع الحياة .
حدد الكاتب مكان  وزمان وقوع الانفجار كلحظة إدانة واتهام لكل أشكال الصراع الطائفي الذي نعيشه اليوم، فالجامعة مكان ثقافي مدني وهو مكان محايد بعيد عن الانتماء الطائفي او الحزبي لذلك جاءت لحظة الانفجار لحظة تفجير وإقصاء للمعنى الإنساني والمعرفي ،لحظة الانفجار هي لحظة عقاب جماعي  ضد كل أشكال الحياة ،و السلام ،والحب ،والجمال ،لذلك كان يسردها مثنى بضمير المخاطب ( إليكم أيها السادة ما حصل في ذلك اليوم )ص41 وعليه فأن فعل السرد في القصة كان فعل سرد مزدوج فهو يوثق ويستنكر ما يحدث  ، وفي نفس الوقت هو يكتشف ويقترح ما يمكن ان يحدث لو بقينا على صمتنا وانكساراتنا وتخاذلنا عما يحدث وهو يحيلنا إلى  ما  بعد الصمت  أكثر من الأحداث نفسها ،وذلك لمد فضاء المكان والسرد من الجامعة الى المستشفى التي يرتادها جميع العراقيين (في ردهات المستشفى كان وجه الله غاضبا حزينا ، أجساد ملقاة على الأرض يسحقها النزف والألم وهي تصارع الموت بيأس )ص.49  كان فضاء السرد فضاء مفتوحا يدلل على مصيرنا المجهول ولا يمكن تحقيق ذلك الى عبر جعل الأحداث تأخذ شكل مفارقة دالة على المأزق الوجودي تتضح هذه المفارقة عبر فضاء السرد، مكان  الانفجار الجامعة مكان مدني محايد معرفي ، المستشفى مكان يحمل كل الأوجاع والموت ،اي فيما هو كائن لحظات جمال وسلام والحب الجامعة وما ينبغي ان يكون هو الموت والقتل لكل أشكال الحياة المستشفى وهي مفارقة نقدية أجاد الكاتب في الكشف عنها والتأكيد عليها في جميع قصص المجموعة وقصة الهذيان هي من أكثر القصص التي تتضح فيها هذه المفارقة الدالة على قتل الحياة .
استعان الكاتب بتقنية الكامرة في وصف الأحداث وتوثيقها مستعينا بصيغ لغوية وفنية  تقوم بينها علاقات ذات ادوار تبادلية ناقمة وساخرة من كل أشكال القيم السائدة والتي تبدأ من أسلوب التلقين الأول اللغة البيت المدرسة  وتنتهي عند أسلوب الاطمئنان  والتخدير الديني ،والسياسي والأخلاقي   (الشعارات جاهزة ورخيصة … ارخص من الأحذية .. من دق بابنا ؟.. قدوري دق بابنا .. الفكر الإنساني مسخ إلى مهزوم و مهزوم به .. كان عصفا قويا … القيامة قامت … لم ينتج العقل الإنساني غير الخراء)ص54
لو تعمقنا قليلا في ما وراء المعنى سنجد أننا أمام مفارقة ذات دلالات نفسية وفكرية فالنص في بعده الفكري الظاهر هو خطاب مرسل الى متلقي يخبر عن  أحداث  حقيقية مروعة حدثت في العراق لها أهداف سياسية معينة تنقل وجهة نظر كاتبها ، اما في بعدها النفسي والاجتماعي العميق نجد ان هذه الأهداف ما هي إلا سرد  يسعى المؤلف من خلاله لجعل النص أكثر صدقا أمام  المتلقي ،ولا يمكن ان نكتشف  ذلك الى في نهايات القصة حيث ينكشف البعد الاخر الاكثر عمقا والذي يفضح لنا أنساق نفسية واجتماعية أضمرها النص خلف المعاني السائدة والمتكررة :انفجار ،قتل ،فشل، تأمر حيث تكشف هذه الأنساق عن بعد نفسي تحول الى ظاهرة اجتماعية عامة وهي :   اننا شعوب لا تجيد  التعبير عن انكساراتها وخسارتها الا بالهذيان لتقنع نفسها بأنها تمتلك فعل الإدانة والمعارضة الحقيقية لكل أشكال الموت والإقصاء أي  أننا   نمارس لعبة  الهذيان أمام أنفسنا كمن يحاكي نفسه أمام المرآة  وبالتالي يتحول فعل الاحتجاج والتمرد ضد كل أشكال الإقصاء والقتل من محيطه الخارجي التفاعلي الى محيطه الداخلي النفسي ألاعترافي ،اي مجرد هذيان فاقد لكل أشكال المبادرة والسعي لفعل التغير والاحتجاج ، اي السير نحو  اللاجدوى من الوجود، والواقع ،والأحداث  لذلك نجد صيغ التساؤل والاستغراب هي من استحوذت عل الأحداث  الصادمة  فالحوار مع الوسادة ،و مع عمتي النخلة ،والرجل العجوز الخ ،هو هذيان فاقد لارادة التغير والاحتجاج  ،لذلك ظهر فعل   الهذيان على شكل تساؤل  بصيغة اللاجدوى مع كل نهاية سرد للإحداث (ماذا يعني هذا ؟)ص39  (كل الطرق تؤدي الى العويل ولها نفس المفعول . لماذا لم أتناول هذا العلاج منذ البداية ص41او (يا الله لماذا يحدث كل هذا ؟)ص49،  نحن أمام نص يمارس نقد الأنا الفرد المواطن ليصل من خلاله  الى نقد النحن المجتمع ومن ثم الوطن  بكل مؤسساته الدينية والثقافية والسياسية الذي أفرغ  من كل محتواه المعرفي ،والإنساني ،والإبداعي ، والجمالي،وبالتالي  بتنا أجساد بلا روح او عقل  ، لان الهذيان داخل حقائب انفسنا هو كل ما نملك حتى ان هذا الهذيان يفقد معناه في لحظات الموت ،هذا ما يود إيصاله او  الإبلاغ عنه  البطل  في مشهد موت  صديقه صلاح   (بعد صمت قصير تحول الهذيان الى حشرجات ، غصة في البلعوم تتبعها غصة أخرى ، انعقد لسانه ، انقلبت حنجرته الى لسان لا يصدر سوى شخير ، متقطع سريع ) 57

لذلك نحن شعوب فاقدة لخياراتها في الواقع لذلك تعيد انتاج نفسها عبر الهذيان فقط و نكرر نفس المشهد التاريخي المتمثل في إعادة  أنتاج أساطيرنا عبر هذياننا المستمر بالأصالة وذلك  لنوهم أنفسنا أننا لا نزال أصحاب دين وحضارة  وتاريخ  كبير لكننا  على ارض الواقع لا نجيد سوى الهذيان .