منحَ دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) المحافظات صلاحيات إدارية ومالية واسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية(1).
ويُقصد باللامركزية الإدارية توزيع الوظائف الإدارية بين الحكومة المركزية في العاصمة، وبين هيئات محلية أو مصلحية منتخبة، بحيث تكون أمام هذه الهيئات في ممارستها لوظيفتها الإدارية تحت إشراف ورقابة الحكومة المركزية(2).
وأوجد الدستور تشكيلين دستوريين لهذا المستوى من الحكم، وهما مجلس المحافظة والمحافظ، لكنه لم يشر إلى نوع ارتباطهما بالسلطة الاتحادية، لاسيما على صعيد تدخل هذه السلطة في إقالة المحافظ أو حل مجلس المحافظة(3).
ويسمح نظام اللامركزية الإدارية بنحو عام للسلطات اللامركزية بنوع من الاستقلال في اختصاصاتها الإدارية، غير أن هذا الاستقلال نسبي وغير كامل(4).
حيث إن الإقرار بوجود استقلال للهيئات المحلية في المحافظات بتسيير المرافق العامة، لا يعني أنها مستقلة على النحو المطلق عن السلطة المركزية؛ لأن ذلك سوف يهدّد الوحدة السياسية للدولة، لذلك فإن النظام اللامركزي يقوم على أساس بقاء ممارسة الهيئات المحلية لاختصاصاتها خاضعة لإشراف ورقابة السلطة المركزية(5).
فالاستقلال الذي تتمتع به الهيئات المحلية هو استقلال الأجهزة والاستقلال في إدارة الشخص المعنوي اللامركزي ضمن الحدود التي يعيّنُها القانون مع البقاء في إطار الدولة الواحدة(6).
إلّا أن الخضوع إلى الرقابة يتعيّن أن يكون بنص صريح وفي حدوده، حيث أن الأصلَ هو استقلال الهيئة المحلية(7).
ومن صور هذه الرقابة التي يتعيّن النص عليها، هو الحق بإيقاف الهيئات المحلية أو حلّها وعادة ما يحاطُ استخدام هذا الحق بكثير من الضمانات التي تحافظ على الاستقلال المحلي، مثل عرض الموضوع على المجلس النيابي الاتحادي(8).
ويجمع الشراح على أن سلطة الإيقاف أو الحلّ لا تتوقف بداعي أن أعضاء الهيئة المحلية منتخبون، بشرط ممارستها في الحدود وطبقاً للشروط والأسباب التي يقرّرُها القانون لذلك(9).
ولو نظرنا إلى دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، نجدُّ أنه لم يتضمّن نصّاً واضحاً ومباشراً عن خضوع المحافظات غير المنتظمة في إقليم إلى رقابة وإشراف السلطة الاتحادية.
وهذا ما جعل جانباً من الفقه يذهبُ إلى أن هذا الدستور وَقَعَ في حومةِ التناقضِ، عندما تبنى من جهة نظام اللامركزية الإدارية ومن جهة أخرى موازية أسقط دعامة من دعائم هذا النظام المتمثل بـ (الوصاية الإدارية) عندما نص في المادة (122/ خامساً) على الآتي: “لا يخضع مجلس المحافظة لسيطرة أو اشراف اية وزارة أو أية جهة غير مرتبطة بوزارة، وله مالية مستقلة”(10).
لكن المحكمة الاتحادية العليا رسّخت خضوع الهيئات المحلية في المحافظات إلى رقابة السلطة الاتحادية رغم عدم نص الدستور على ذلك بنحو صريح، حيث جاء في قرار لها ما نصه، أن “الرقابة هي الركن الأساسي لقيام نظام اللامركزية الادارية وتكمن اهميتها في الحفاظ على الوحدة السياسية والقانونية للدولة، ذلك لأن الاستقلال المطلق للهيئات المحلية يهدد كيان الدولة ويؤدي الى عدم التجانس والانسجام ما بين السلطات الاتحادية والهيئات المحلية وهناك نوعين من الرقابة وهما: النوع الأول: الرقابة البرلمانية وتعني خضوع كافة الأعمال الصادرة عن السلطة التنفيذية لرقابة البرلمان ويتأكد من مدى مطابقتها للقواعد القانونية النافذة ومدى ملائمتها للواقع والظروف المعاصرة، النوع الثاني: الرقابة الادارية والتي تعني متابعة الاداء الاداري من حيث دقة تنفيذه طبقاً لما هو مخطط له ومدى تحقيقه لأهداف المنظومة الادارية، وهي وسيلة للتأكد من ان سير العمل يتم في الاطار الصحيح وبواسطة العمل الرقابي ومن خلاله يمكن تحديد مسؤولية التنفيذ في الانجاز وكشف الانحرافات الناتجة عن الخروج على القواعد المقررة لأداء العمل وانه يتم في الاطار الصحيح واتخاذ الاجراءات المناسبة لتصحيح الاخطاء”(11).
ولو نظرنا إلى تدخل السلطات الاتحادية في وجود المسؤولين عن الهيئات المحلية، فسنجد أن مصدره هو قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم (21) لسنة 2008 (المعدل)، وعلى النحو الآتي:
أولاً: أن المادة (20) من القانون أعطت لمجلس النواب حل مجلس المحافظة بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه بناءً على طلب المحافظ، أو طلب من ثلث عدد أعضائه، بسبب الإخلال الجسيم بالأعمال والمهام الموكلة إليه، أو مخالفة الدستور والقوانين، أو فقدان ثلث الأعضاء شروط العضوية.
وبقدر تعلق هذه المادة، لم نجد لها تطبيقات لغاية الوقت الحاضر، سواء بقيام مجلس النواب بحلِّ أحد مجالس المحافظات، أو الطعن بهذا النص أمام المحكمة الاتحادية العليا.
ثانياً: إن المادة (7/ ثامناً) من القانون أعطت لمجلس النواب إقالة المحافظ بالأغلبية المطلقة بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، بسبب عدم النزاهة أو استغلال المنصب الوظيفي، أو التسبب في هدر المال العام، أو فقدان احد شروط العضوية، أو الإهمال أو التقصير المتعمدين في أداء الواجب والمسؤولية.
أما بشأن هذا النص، فقد وجدنا عدداً من التطبيقات، منها إقالة محافظ نينوى الأسبق، الذي طعن بعدم دستورية النص، وقد ردت المحكمة دعواه وأكدت ان قيام مجلس النواب بإقالة المحافظ بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء للأسباب الواردة في قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم لا يخالف الدستور، وأشارت في قرارها إلى أن “دستور جمهورية العراق لسنة 2005 لم ينص صراحة على صلاحية مجلس النواب بإقالة المحافظ ولكن الدستور لم يمنعه من ذلك، ذلك أن المادة (٦١/ ثانياً) من الدستور قد منحت مجلس النواب صلاحية الرقابة على السلطة التنفيذية، وأن منصب المحافظ هو جزء من تشكيلات السلطة التنفيذية، وهو الرئيس التنفيذي الاعلى في المحافظة وهو بدرجة وكيل وزارة بقدر تعلق الامر بالحقوق والخدمة الوظيفية بموجب أحكام المادة (٢٤) من قانون المحافظات ويكون لمجلس النواب حق إقالة المحافظ وفق صلاحيته بالرقابة على السلطة التنفيذية بناء على طلب رئيس مجلس الوزراء، وهو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة استناداً للمادة (۷۸) من الدستور”(12).
وهذا يعني: إن إمكانية تدخل السلطة الاتحادية في وجود القائمين على الهيئات المحلية ليس مصدره النص الدستوري، إنما تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا لمفهوم الرقابة على أداء السلطة التنفيذية بالمعنى الواسع من جهة، وقانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (21) لسنة 2008 (المعدل) من جهة أخرى، حيث عدت المحكمة وسائل الرقابة الواردة فيه هي امتداد لوسائل الرقابة الدستورية من جهة أخرى.
…………………………………………
الهوامش
1- المادة (122/ ثانياً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ).
2- المادة (122/ ثالثاً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ).
3- د. سليمان محمد الطماوي، تنظيم الإدارة العامة، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، مصر، ص32.
4- ماجد راغب الحلو، القانون الإداري، دار المطبوعات الجامعية، مصر، 2000، ص97- 98.
5- ماهر صالح علاوي الجبوري، مبادئ القانون الإداري، منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق، 2009، ص39.
6- د. فوزي حبيش، الإدارة العامة والتنظيم الإداري، الطبعة الثالثة، دار النهضة العربية، لبنان، 1999، ص337.
7- د. حسين عثمان محمد عثمان، أصول القانون الإداري، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2010، ص362- 366.
8- د. صفوان المبيضين، الإدارة المحلية، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، الاردن، 2019، ص27.
9- طعيمة الجرف، القانون الإداري، مكتبة القاهرة الحديثة، مصر، 1970، ص128- 129.
10-د. حيدر محمد حسن، فلسفة مبادئ الحكم، محاضرات ملقاة إلى طلبة الدكتوراه في معهد العلمين للدراسات العليا، العراق، بتاريخ (21/ 10/ 2024).
11- قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (155/ اتحادية/ 2019) وموحداتها.
12- قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (29/ اتحادية/ 2019).