بالرغم من أن أراضي روسيا الشاسعة لا تنتمي من قريب أو بعيد إلى الفضاء المتوسطي، إلا ان المتوسط كان مدار اهتمام موسكو منذ القياصرة بسبب طموح الوصول إلى المياه الدافئة.
في زمن الاتحاد السوفييتي كانت الأنظمة العربية في غالبيتها غربية الهوى، وتعاملت مع موسكو كبدل عن ضائع، وكثيراً ما استخدمتها كرافعة لترتيب علاقاتها مع واشنطن. ومع قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الانخراط في سوريا منذ 2011، بدأت رحلة الانتقام الروسي من التاريخ ويتضح مع الوقت أن موسكو لا تكتفي بترسيخ وجودها سورياً شرق المتوسط، بل تسعى للتمركز على الساحل الليبي جنوب البحر المتوسط مروراً بمصر وغيرها من الدول العربية.
من خلال دعم المشير خليفة حفتر تسعى روسيا للتدخل في ليبيا على غرار ما قامت به في سوريا. من التحكم بالورقة السورية إلى الدخول على خط الأزمة الليبية، ينقل القيصر الجديد أحجاره على رقعة شطرنج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك على حساب اللاعبين الأوروبيين منتهزاً تباطؤ إدارة دونالد ترامب. فهل تتمكن موسكو من كسب الجائزة الكبرى أي هذا الخط الاستراتيجي على الطريق نحو البحر الأسود، أم أن العودة الأميركية المحتملة ستعيد تقييم الأحجام الاستراتيجية حول المتوسط؟
بعد النجاح في سوريا وإعادة التعاون العسكري مع مصر، يزداد اهتمام موسكو بالشأن الليبي كما برز مع استقبال رئيس مجلس الوفاق فايز السراج وقائد الجيش الوطني خليفة حفتر، وزيارة حاملة الطائرات الروسية للشواطئ الليبية في يناير الماضي. زيادة على الدعم اللوجستي لقوات حفتر وإرسال أخصائيين روس في نزع الألغام، تأكّد أخيراً نشر طائرات روسية من دون طيار وقوات خاصة روسية في مصر بالقرب من الحدود الليبية، وكان ذلك في موازاة الهجوم المضاد من قبل الجيش الوطني الليبي في الأيام الماضية لاسترجاع الهلال النفطي في شرق ليبيا. كل ذلك حدا بوزير خارجية مالطا جورج فيلا، ليعتبر أن روسيا التي “دعمت حفتر، لها مصلحة استراتيجية في وضع موطئ قدم في وسط البحر المتوسط”. وهكذا تشكل عودة القوة الروسية إلى المتوسط اختراقا استراتيجيا يمكن أن يحدث انقلابا في الجغرافيا السياسية لمنظومة البحر المتوسط.
منذ التدخل الواسع في سوريا في سبتمبر 2015، استمرّ الاندفاع الروسي وأتى نشر منظومة إس-400 الروسية للدفاع الجوي، أواخر 2015، في قاعدة حميميم الجوية في سوريا من أجل استكمال درع حماية روسية في شمال شرق المتوسط، مماثلة لمنظومة حماية أخرى في البحر الأسود. يندرج هذا الانتشار في نطاق لعبة السيطرة على البحار وهو إنذار لا سابق له ضد النفوذ الأميركي والغربي. ومن المنطقي الملاحظة أن عدم مبالاة إدارة باراك أوباما باحتوائه أو الحد من زخمه دفع لاحقا موسكو إلى التمدد أكثر مع زيادة هامش مناورتها نحو مصر وليبيا في تطبيق لاستراتيجية بوتين الذي لا يسعى بالضرورة إلى إعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق، لكنه يحاول إعادة بناء وتأكيد قدرة روسيا على فرض نفوذها خارج حدودها.
حسب وجهة نظر صناع القرار في موسكو يتيح المرور عبر الخط الاستراتيجي نحو البحر المتوسط الوصول إلى المحيط الهندي وحماية أمن الخاصرة الجنوبية لروسيا، ويسمح التمركز الروسي على هذا الخط بتأمين مواقع مثالية في مواجهة منظومة حلف شمال الأطلسي.
أدى النشاط السياسي والعسكري الروسي إزاء النزاع السوري إلى تأكيد عودة روسيا كقوة كبرى تشارك في إدارة العالم، ومما لا شك فيه أن التدخل في ليبيا أخذ يقلق الدوائر الأميركية ووصل صداه إلى لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، الأسبوع الماضي، عندما صرّح الجنرال توماس والدهاوزر (قيادة أفريقيا) بأن الولايات المتحدة تعتقد أن روسيا تحاول التلاعب بالنتائج السياسية في ليبيا “تحاول روسيا التأثير على القرار النهائي حول الكيان الذي سيصبح مسؤولاً عن الحكومة داخل ليبيا”. ويخفي هذا التهافت الروسي على لعب أدوار في مسارح الأزمات منافسة للقوى الغربية في ميادينها المعهودة وسعيا لتسويق السلعة الأمنية والعسكرية الروسية (مع غياب إنتاج صناعي أو تكنولوجي مميز)، ولم تكن هذه الشهية مفتوحة لولا التردد الأميركي في سوريا وعدم تحمل قوى الناتو مسؤولياتها في إعادة بناء الدولة الليبية، واستسهالها لعبة تقاسم النفوذ والدخول في فخ الانقسام الإقليمي والعربي بين اللاعبين الليبيين.
استفادت القيادة الروسية من استخلاص العبر من العلاقة السوفييتية مع حافظ الأسد في سوريا ومعمر القذافي في ليبيا، ولذا يتم التعامل مع النظام في دمشق على أسس قانونية تشرع الانتداب والنفوذ، والدليل معاهدة الحصانة الممنوحة للروس في أغسطس 2015، واتفاقيتا استخدام ميناء طرطوس وقاعدة حميميم على مدى طويل، بالإضافة إلى امتيازات أخرى مقيدة للنظام في دمشق.
يجدر التذكير أن التعاون العسكري بين موسكو وطرابلس طيلة حكم معمر القذافي كان كبيرا جدا، فموسكو التي خسرت سوقها المصرية الكبيرة بعد طرد أنور السادات للخبراء الروس في 1972، وبالرغم من صعوبات التعامل راهنت على التعامل مع ليبيا المحاصرة اقتصاديا وعسكريا من الدول الغربية وحاجتها إلى السلاح الروسي. ورغم الانفتاح الليبي على الغرب في السنوات الأخيرة من عمر حكم القذافي فقد حافظت موسكو على حصة كبيرة في تسليح ليبيا، ولذا لا يأتي الرهان على المشير حفتر من عبث، بل إنه يتم هذه المرة برضا مصري نسبي، ومن دون الاهتمام بالغطاء الشرعي كما تزعم موسكو في تحركها السوري.
بالرغم من أن أراضي روسيا الشاسعة لا تنتمي من قريب أو بعيد إلى الفضاء المتوسطي، إلا ان المتوسط كان مدار اهتمام موسكو منذ القياصرة بسبب طموح الوصول إلى المياه الدافئة لصلته بالمجال الحيوي الروسي جغرافياً (جزء من الجوار الأجنبي) وتاريخياً ودينياً، لكن لهذا الشريان أهمية استثنائية اليوم للتجارة الدولية ونقل الطاقة، ولأنه الممر نحو المحيط الأطلسي ومركـز التنافس بين الولايات المتحدة والصين في سياق إعادة تشكل النظام الدولي.
يعتمد بوتين أسلوب القضم لتكريس مكاسبه في حوض المتوسط. بيد أن الصراع المفتوح في كل من سوريا وليبيا لا يضمن حكماً فيه دوام وترسيخ الاختراق الاستراتيجي الذي تحقق بين 2015 و2017. تدرك موسكو أنه من أجل إنجاز الحل السياسي والفوز بالسلم في سوريا، لا يكفي تركيب تسوية داخلية، بل ينبغي أيضاً أن تنخرط فيها القوى الإقليمية الفاعلة في عملية مصالح وتقاطعات بالغة التعقيد. ودل مسار أستانة على نجاح روسي نسبي بعد منعطف حلب على الانطلاق مع تركيا وإيران. لكن ما هو أكثر إحراجا لموسكو سيتمثل في الموقف من الطلب الإسرائيلي بإخلاء سوريا من الوجود الإيراني ومن حزب الله. وسيكون الاختبار الصعب أمام القيادة الروسية التوفيق بين المصالح الأمنية الإسرائيلية التي تقول إنها تتفهمها، وحاجتها إلى التعاون مع حليفها الإيراني على هذه الساحة.
في هذا السياق ستدخل إدارة ترامب على الخط وتضغط باتجاه فك الرباط الروسي الإيراني، لكن يستبعد أن تضحي روسيا بصلتها مع إيران كي تتقارب مع إدارة ترامب أو لتلبي مطالب إسرائيل. ستستمر موسكو في السعي لتحقيق مصالحها الخاصة عبر اللعب على تقاطعات الحبال المشدودة في الشرق الأوسط، والتي تقتضي الحفاظ على علاقات مقبولة أو جيدة مع إيران وتركيا وإسرائيل ومصر والمملكة العربية السعودية (كما نلمس عبر الموقف الروسي الحذر إزاء حرب اليمن).
على صعيد الملف الليبي لا تبدو المهمة الروسية سهلة لكن الاستثمار الروسي محدود بالقياس للانخراط في سوريا، وترغب موسكو في استخدامه ضمن أوراق التفاوض أو التجاذب مع واشنطن.
لا تملك روسيا الموارد اللازمة للحلول مكان الولايات المتحدة في موقع القوة المسيطِرة في الشرق الأوسط. لكن موسكو استغلت استدارة واشنطن الاستراتيجية نحو آسيا والمحيط الهادئ وحقبة أوباما، من أجل إحراز بعض الإنجازات. ستكمن الصعوبة عندما لن تتمكن روسيا من تطبيق معادلتها بتجنب الحلف الكامل أو الخصومة المطلقة مع الأطراف المنخرطة في مسرح الفوضى التدميرية، وقد تجد نفسها أمام سقوط تقاطعاتها الإيرانية الإسرائيلية وترتيباتها مع تركيا أو مصر في حال قررت إدارة ترامب ترتيب وضع تحالفاتها وإعادة صياغة المشهد الاستراتيجي من الخليج والبحر الأحمر وحول البحر المتوسط.
نقلا عن العرب