لم تكن حالة الاخفاق والتراجع في الخطاب المنبري لتمرّ دون ان تكون لها مآلات سلبية تنعكس بوضوح على الفرد والمجتمع، وعلى صعد مختلفة منها:
الأول: الصعيد الفكري والعقلي.
النتيجة الطبيعية لتردّي مستوى المنبر الحسيني أن يفرز تردّيا في المزاج العام لجمهور هذا المنبر. لذا تجد أن الحالة الغالبة لافراد الاجتماع الاسلامي والنسبة العظمى منهم منحوا عقولهم إجازة فهي في سبات عميق لا يستنيرون بها في مواجهة الازمات والمخاطر التي تعترضهم، ولا يستعينون بها في حل مشاكلهم الحياتية بمختلف تبدياتها، كما يعطلون دور العقل في تدبير شؤونهم، ونظم أمورهم، او التخطيط لما يصلحهم. فتضخمت العاطفة واستشرت، وتمكنت من ازاحة العقل.. استحوذت على دوره.. صار عليها المعوّل في كل ذلك.. اتكلوا على مخرجاتها بصور شتّى، تارة بالاستخارة، جاعليها في مقابل العقل، متقدمة عليه، وليست هي في واقعها كذلك، فما هي إلا دعاء.. مؤداها طلب الهداية الى الخير من الله تعالى كما ورد في الروايات، وعلاقتها بالعقل طولية وليست عرضية. روى لنا استاذنا سماحة اية الله السيد عادل العلوي عن استاذه المرجع الراحل السيد المرعشي النجفي (رحمه الله) رأيه في الاستخارة خلاصته: لابد أن تسبق مرحلة الاستخارة مرحلتان يلزم المرور بهما كي تصل النوبة الى الاستخارة، المرحلة الاولى: التفكير بالعمل ودراسته. فاذا رجحت كفة الايجابيات على السلبيات او العكس فلا مبرر حينئذٍ للاستخارة، وان لم ترجح عنده كفة على اخرى تاتي المرحلة الثانية: وهي الاستشارة من ذوي الرأي والنصح، كما يصرح السيد السيستاني (حفظه الله تعالى) بذلك أيضا، فإن رجحت عنده كفة على اخرى فذاك وإلا فينتقل الى الاستخارة. وبذلك نعطي للعقل دوره ولا نصادر قيمته ومكانته التي ارادها الله سبحانه حين وهبه للانسان؛ خلافا لما هو سائد.
وتارة استعانوا على تدبير امورهم، وإدارة شؤونهم، بل وبناء اعتقاداتهم وتأسيس أحكامهم الدينية بالاحلام مقابل العمل وفق الاسباب الطبيعية معرضين عما تسعى له الايات القرانية والاحاديث الصحيحة من خلق وعي، وبصيرة وهي تحث، وتؤكد على البحث والدراسة، والسير وفق الاسباب ، واستخدام العقل ونظم الامر، لبلوغ الاهداف، وتحقيق النتائج الإيجابية قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ (سورة الكهف)، وورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) قوله: “أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسبابها ، فجعل لكلّ شيء سبباً”. معرضين عن معرفة جنود العقل لتبنيها والتزامها، وجنود الجهل لتركها والاعراض عنها، فراجت بضاعة الشعوذة والدجل وبيع الوهم ما جعل علماء الدين، والمراجع يتدخلون بقوة للتنبيه على انحراف هذه المسارات وخطورة مخرجاتها، ففي استفتاء قدّم لاحد مراجع الدين الكرام في النجف الاشرف حول ظاهرة “ادعاء البعض ان لديهم مايسمونه (نور) أي أن لديهم الاتصال في اليقظة والمنام مع أحد الأئمة المعصومين عليهم السلام، ويدعون معرفة وكشف المغيبات عن طريق اتصالهم بالأئمة عليهم السلام. ما هو رأي سماحتكم؟ وهل للجانّ علاقة بذلك؟ فأجاب: يحزّ في النفس انتشار أمثال هذه الدعاوى بسبب قلة المرشدين من أهل العلم والتقوى والرشد وحسن التصرف. وجواباً على سؤالكم نقول:
أولاً: ليس لقضية النور المدعى أساس شرعي ولم يرد عن المعصومين عليهم السلام ما يشير إليه. بل إنّ الأمر إما أن يبتني على الدجل والافتراء، تضليلاً للعامة واستغلالاً لهم، وإما أن يكون من وحي الجن والشياطين لمن يسيطرون عليه من ضعاف الدين والعقل.
وثانياً: الاتصال بالأئمة عليهم السلام باليقظة مرفوض أشد الرفض، ومدّعيه ضعيف العقل مخرف، أو مبدع مضلل يجب الحذر منه، بل رفضه والإنكار عليه مهما كان مقامه بين الناس.
وثالثاً: الاتصال بالأئمة عليهم السلام في المنام لا يعرفه إلاّ من عرف صورهم الحقيقية، ونظر إلى وجوههم الشريفة في اليقظة. إلا ان الرؤيا ليست حجة شرعية ولا يجوز التعويل عليها مهما كان مدّعيها.
ورابعاً: الإخبار بالغيب لا يقبل إلا ممن أطلعه الله تعالى على مفاتيحه، كالأئمة عليهم السلام. ولا ينبغي الاغترار بصدق بعض أخبار هؤلاء _المدّعين_، إذ كثيراً ما تلعب
الصدف دورها، كما قد يبتني ذلك على التمويه والتدجيل، أو على وحي الجن والشياطين إلى أوليائهم لصرف قلوب الناس إليهم وتضليلهم بهم. وعلى كل حال يحرم شرعاً القبول منهم وتصديقهم والاعتقاد بما يقولون، بل يلزم الحذر منهم والإعراض عنهم، حتى يشعروا بكساد سوقهم وخسران تجارتهم وضحالتهم في المجتمع. ويكفي شاهداً على ما قلناه، أنه لم تسبق أمثال هذه الدعاوى من أعاظم علماء الشيعة وذوي المقام الرفيع منهم، ممن عرفوا بالعلم الوفير والإحاطة بالضوابط الدينية والعقل الراجح والرزانة في الأمور وشدة الخوف من الله تعالى. ونسأله سبحانه حسن العاقبة”.
الخطاب الحسيني المعاصر في اغلبه وصاحب الصوت المرتفع منه أغرق وعي الجماهير بالخرافة وثقافة الاحلام، وأقصى دور العقل لحساب العاطفة.. حوّل التوكل الى تواكل سلبي، خطاب يلقن الناس ان قدرهم مرسوم في السماء وليس لهم دور في صناعة واقعهم والتأثير فيه معتمدين على قراءات خاطئة للنص القراني او السنة كاستدلالهم بقوله تعالى “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا” (36 الاحزاب) وكأن الانسان كتلة مهملة او ورقة في مهب الريح ليس له الا التسليم لما قدر له.