في التأريخ السياسي المعاصر للمشرق العربي ؛ تُعرفْ العقود الأولى من القرن العشرين بتأريخ تشكل الدول العربية ، فبعد عصر الإمبراطوريات المتوسعة ، تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى الدول الوطنية في هذه المنطقة ، و منذ ذاك التأريخ نشأت مؤسسات الدول في أبرز بلدان هذه المنطقة ، و تعد الدولة العراقية أبرز هذه النماذج في تدشين مؤسساتها ، و على الرغم من السيرورات و الصيرورات المعقدة لمسارات الدولة العراقية الحديثة ، إلا أنها نجحت في تكوين مؤسسات عتيدة انتقلت بالعراق من الا دولة إلى الدولة ، و حققت تطور أجتماعي و إقتصادي و تعليمي كبير ، و بقي التطور هذا إلى حين إغتصاب حزب البعث للسلطة في العراق ، إلا أن رغم السوء الذي مارسه النظام البعثي في هذه المؤسسات إلا أنها بقيت موجودة .
بيد أن الخطر الأكبر الذي تعرضت له الدولة العراقية الوطنية هو بعد العام 2003 ، عن طريق حل الكثير من هذه المؤسسات كالمؤسسة العسكرية و أجهزة أخرى ، و لان المؤسستين التشريعية و التنفيذية تتشكل مواقعها العليا وفقا للنظام الديمقراطي على أساس الانتخابات الدورية ، و بسبب البناء المكوناتي للعملية السياسية تعرضت مؤسسات هاتين السلطتين إلى التشظي و التشرذم ، و كانت نتيجة هذا ، كل الأزمات الأمنية و الخدمية و الاقتصادية التي يعيشها العراق في العقد الأخير من الزمن ، الأمر لا ينتهي عند هذا الحد ، بل أن الأعداء عملوا بكل شرهم على استهداف هذه المؤسسات و رموزها ، و لذا تعرض كبار المفكرين و العلماء و الأكاديميين و الأطباء و الفنانين و غيرهم من النخب العراقية إلى التصفية أو التهديد منذ التغيير في العام ألفين و ثلاثة .
و يمكن القول في هذا السياق ، أن المؤسسة القضائية في العراق هي الأكثر حظا في حفظ بناءها المؤسسي ، و صون أجهزتها من الانهيار و التفكك ؛ و الاستمرار الطردي في جهود التطوير ، ففي الوقت الذي تعرضت بعض مؤسسات الدولة إلى الحل و التفكيك ؛ عمل رجال القضاة بعد العام 2003 على تشكيل مجلس القضاء الأعلى ، و تشكيل السلطة القضائية كأحد أركان النظام الديمقراطي القائم على فصل السلطات ، بعد أن كانت داخل الجسم التنفيذي ، و منذ ذاك اليوم و على الرغم من التحديات الجسام التي لقتها السلطة القضائية من استهداف لرموزها و رجالها ، و مساعي التدخل و التأثير على عملها إلا أنها بقيت السلطة الوحيدة في الدولة العراقية المحمية من خطر التفكك و التشظي .إلا أن هذا المنجز و بكل وضوح يتعرض الأن إلى أشد تحدي و مواجهة ، تتمثل في مساعي بعض الأطراف السياسية إلى تفكيك و تشتيت أجهزة و مؤسسات هذه السلطة ، و ذلك عن طريق التلاعب و التغييرات في مشاريع القوانين الخاصة بالسلطة القضائية ، و لعل أبرز أمثلة هذا الخطر هي المساعي لعزل بعض مؤسسات القضاء عن البعض الأخر ، فمثلا تتسرب عن نية عزل مؤسسات ( المحكمة الاتحادية العليا و هيأة الادعاء العام و هيأة الإشراف القضائي ) عن مجلس القضاء الأعلى ، و هذا الأمر يشكل ضربة لم تنجح بها كل الجهات المعادية و المغرضة و الجاهلة على مدى أكثر من عقد من الزمن و هنا نطرح و بقوة الأسئلة الأتية :
ماذا يريد من يسعى لتفكيك البناء القضائي !؟
ـــ و هل يُدرك الساعون إلى هذا ما فداحة ذلك ؟
ـــ أَيّعرف هؤلاء أن هذه المؤسسات و لجوهرية التخصص و التكامل إن عزلت عن الأخرى ستكون عرضة لإنهيارات التأثيرات السياسية و التدخلات الخارجية ؟
ـــ أيعلم أن السبيل لمحاصصة مواقع هذه المؤسسات سيكون كشربة الماء بعد أن تفصل عن بعضها البعض ؟
ـــ أيفهم من يريد تفكيك مؤسسات القضاء أنه يصيب أعتى مؤسسات الدولة و البقية الباقية من الدولة الوطنية ؟