سئل الحمار قديماً، في قصة المتكلم على ألسنة الحيوانات: لما لا تجترّ؟، قال: أكره الكذب.
والاجترار هو سلوك خاص بالأبقار فقط، فحين تجوع تجتر ما في بطنها وتخرجه إلى فمها ثم تلوكه مرة أخرى وهكذا يستمر بها الحال لتسد بالاجترار جوعها.
إن مشكلة المجتمعات العربية هي مشكلة اجترار للماضي وما نجده يعبر عن حالة تراكمية ومع كل تغيير يخيل لنا أن حاضرنا قد تجدد عن ماضينا بكل ما فيه لولا أن الوضع القائم لا يعبر إلا عن حالة تشبه حال غربال دقيق الخبز حين يمسك الخشار ويفلت اللباب فنتمسك بالعادات والتقاليد المتخلفة من كل ماضي ونقدمها في جلباب حضاري جديد بمزاعم تغيير وثورة أيضا.
مثلا في اليمن ورثنا من العهد الإمامي البائد عادات التمييز العنصري بكل أشكالها في المجتمع وخصوصا والإمام أحمد ينسب له تقسيم الطبقات الخمس في المجتمع، وهي طبقة السادة، طبقة القضاة، طبقة، طبقة المشائخ، طبقة القبائل، وطبقة المزاينة وهم أصحاب المهن الدنيا في المجتمع سواء كانوا يمارسونها هم أو عرف عن أحد أجدادهم أو أنسابهم ممارستها، ورغم حدوث ثورة تفترض اجتثاث كل مفاهيم التخلف التي سادت في عصور ما قبلها إلا أنها لم تفعل أكثر من تغيير غلاف كتاب بغلاف آخر أما محتوى الكتاب ومضمونه فهو ذاته، ففي عصر الرئيس الحمدي مورست أيضا نفس تلك العادات العنصرية المتخلفة وأضيف إليها؛ ومما يروى عن الحمدي تأكيدا لذلك قوله “عسكروا ولو من تعز”، لتظهر عنصرية جديدة قائمة على المناطقية مازالت تتوالد كل يوم أكثر فأكثر، كما نجد القول التصنيفي: أصحاب مطلع وأصحاب منزل في وصف المنطقة التي ينتمي إليها المتكلم عنه، وأكثر من ذلك ما كرس له مسلسل “دحباش”، الذي أنتج وعرض على التلفزيون اليمني في تسعينيات القرن الماضي، من تراكمية أكبر في التمييز العنصري القائم على المناطقية، تضاف إلى سابقاتها فأصبح التعبير هذا “دحباشي” إشارة مناطقية لكل ما ينتمي للشمال وقبل ذلك نجد تعبيرات أخرى تصف مناطق بعينها كتعبير “اللغلغي” و “البرغلي” وغير ذلك؛ والأساس في كل هذا البناء العنصري الطبقي المتصاعد هو التصنيف الإمامي القائم على خماسية طبقية إجتماعية حتى أنها ظلت تتوالد حتى هذه اللحظة، فقامت بناء على فرضية الطبقة الخامسة وهي طبقة المهن المحتقرة نظرة سوداء أكثر مما كان فأصبح “الريمي” نسبة إلى محافظة ريمة مثالا حيويا يضاف إلى مصنفات قائمة المهن المحتقرة لا لشيء إلا لأنه يكسب قوت يومه باجترار “عربة” تجر وتدفع بالأيدي يبيع عليها الخضروات والفواكه أو غير ذلك مثل الخردوات وغيرها، واعتقد أن المشكلة الأولى اتضحت وهي مشكلة التمييز العنصري التي لم تستطع الثورة أن تجتثها، وعليه يمكن التساؤل ماذا ستكون الثورة إذا لم يكن حدوثها من أجل اجتثاث ما ساد من قيم وعادات وتقاليد متخلفة؟ أليست في هذه الحالة مجرد انقلاب عسكري غيّر واجهة النظام السياسية ثم نام عن كل ما عدا ذلك؟
الأمر الآخر والمشكلة التراكمية الثانية التي ولدت بعد عصر الثورة وما تعاقب بعدها من أنظمة هي عادة حمل السلاح والتي مهدت لها نظرية الطبقات الخمس بشدة فعملت هذه العادة على تهميش القوانين وتغييب الدولة وهيبتها وظل حمل السلاح تعبير عن حالة غياب الدولة أو سيادة الدويلات داخل الدولة وهي الدويلات التي بنتها طبقة القضاة والمشائخ التي دعمتها الأنظمة اللاحقة للنظام الإمامي..
واليوم يعيد التاريخ نفسه باجترار كل ذلك الماضي ليكرس من جديد لفرضية الطبقات الخمس في المجتمع ويحيي فعاليتها من جديد لكن مع إضافات جديدة خلفتها الأنظمة اللاحقة لكل تغيير وانقلاب على الحكم.. فكل حكومة جديدة تذهب إلى العزف على وتر الطبقات الخمس ذاتها فتقصي من تشاء منها لتلعب طبقة أو أثنتين او ثلاث الدور المناط بها والذي ترسم مساراته لها الحكومة الجديدة والطبقات التي ينتمي إليها رئيس الدولة وزمرته، فمثلا نجد أن سلطة الشمال في الوقت الحالي قامت بتهميش واقصاء لطبقة المشائخ والقبائل وهما الطبقتان الثالثة والرابعة، وفي الوقت ذاته استغلت السلطة الطبقة الرابعة والخامسة لخدمة أهداف رئيس السلطة، وهو من طبقة السادة، وقد يكون ذلك فعلا إنتقاميا منها نتيجة تراكمات من الماضي؛ وإذا كان التمييز العنصري يعني فيما يشير إليه من معاني الإستبعاد والإقصاء فإن هذا الأخير حين يستخدم كبديل في التعامل مع أي طبقة من طبقات المجتمع لا يخلف سوى الرغبات الدفينة في الإنتقام من المجتمع ومن الدولة، وكل ما حدث من انقلابات في تاريخ اليمن كان سببه استخدام السلطة لبديل التهميش والاقصاء والاستبعاد ضد طبقات من المجتمع، حتى أن السلطة الحالية وجدت في بديل الاستبعاد والاقصاء الذي تم استخدامه مع طبقة السادة منذ ثورة 26 سبتمبر 1962 حتى العقد الأول من القرن الحالي سببا كافيا للنضال ضد السلطة القائمة وعندما تهيأت لها الظروف المناسبة بعد أن فشلت في حروبها الست مع الدولة، من ضعف الدولة وإقالة الرئيس السابق إبان أزمة 2011 أعلنت الانقلاب على الحكم وقد خلف ذلك ثمان سنوات من الحرب… واستغلت السلطة الطبقات والشخصيات المهمشة في هذا الإنقلاب واستخدمتها لصالحها وفي حروبها ضد أعدائها وسيستمر الأمر على هذا المنوال من إنقلاب إلى إنقلاب وفقا لفرضية التصنيف الاجتماعي الطبقي الخماسي ووفقا لرغبات التغيير التي يخلفها الاستبعاد والاقصاء في نفس الطبقات المهمشة من قبل السلطات المتعاقبة.
وعلى سبيل المثال أيضا فإن من أهم اسباب ازدهار الطبقتين الثالثة والرابعة طبقة الشيوخ وطبقة القبائل والحكم القبلي في اليمن في العصور اللاحقة للعصر الإمامي عشوائية البناء وشوارع المدينة وبيوتها غير المخططة، وأراضي ومباني الوقف، ويكفي للتأكد من ذلك زيارة أي محكمة لتجد أن معظم قضاياها مرتبطة بالأرض والبناء العشوائي والبسط وأراضي ومباني الوقف؟
وطبعا فإن البديل الحيوي دائما لعجز القضاء أمام آلاف القضايا هو الحل القبلي واللجوء إلى المشائخ مما عزز بدوره من متانة وقوة الدويلات داخل الدولة، وهنا راجت كثيرا فعل ذلك ظاهرة حمل السلاح كتعبير عن غياب القوانين الحامية وغياب الدولة وتعبيرا أكثر من ذلك عن وجود الدويلات داخل الدولة وصوتها الذي كان يعلو في معظم الوقت على صوت الحكومة والدولة ذاتها، ولسنا هنا ضد القبلية أو المشائخ على الإطلاق لكننا ضد تخلف الدولة وتسيبها ونكوصها عن القيام بواجبها وإنعكاس ذلك من ثمّ على المجتمع.
وهنا نجد أن من الواجب قبل الحديث عن المدنية الحديث عن تخطيط المدينة فالتخطيط للمدينة يسبق الحديث عن تمدن المدينة، وكما يبدو فإنها علاقة طردية فالمدينة المخططة تعني وجود حكم مدني والمدن العشوائية تعني عشوائية النظام والحكم غير المدني..
ومما يجب الإنتباه إليه أن لو كانت الثورة، أي ثورة، قد قامت على مبدأ اجتثاث العادات السلبية والمتخلفة التي سادت في العصور السابقة وإحياء مبادئ العدل والمساواة والحرية والدولة المدنية القائمة على احترام النظام والقانون، لما وجدنا كل هذه المصائب التي يعيشها المجتمع اليوم، لإن كل حركات التحرر كانت نتيجة طبيعية لأشكال التمييز العنصري والاقصاء والاستبعاد التي كرس المجتمع نفسه من أجلها، ومازال كل يوم يدفع الثمن من دماء ابناءه وسلامة حياته وراحة باله.
[email protected]