لمحته قبل أن يدهمنا وباء كورونا المستجد ( كوفيد-19 ) بأسابيع حاملا العديد من معدات وأدوات التنظيف والمعقمات وهو في طريقه الى مكان ما،قد يكون الى محل عمله،الى منزله ،الى دائرته،لا أدري حقيقة ولم اكن بحاجة لمعرفة وجهته مطلقا فهذا شأنه ومن تدخل فيما لايعنيه سمع ولقي ما لايرضيه .
مرت الأيام واذا بي أرصده مرة أخرى وهو بنفس الهمة وبذات الهيئة حاملا أدوات ومعدات التنظيف والتعقيم كما في المرة الأولى يذرع الزقاق سيرا على الأقدام ولكن بإتجاه آخر يعاكس الأول تماما ،وبعد أيام واذا به يعيد الكرة مجددا،ومن ثم وبعد فترة قصيرة أعادها تارة أخرى،فقلت في نفسي”لابد وأن وراء هذا الرجل حكاية ما لا أعلمها” ولكن وبما أنني أكره الفضول فلم أرغب بسؤاله خشية أن يسمعني كلاما جارحا وإن كان عاديا بنظر الكثيرين نحو”وانت شعليك ؟”.
قبل أيام دخلت الى أحد المساجد الصغيرة واذا بالرجل يدخل بعدي بثوان معدودة حاملا معداته ومعقماته كالمعتاد وقال لخادم المسجد “هذه أدوات تنظيف عبارة عن ماسحة + مكنسة + ممسحة +معقمات +صابون+قاصر+زاهي+مطهر حمامات +تايت+سائل لتعقيم وتنظيف اليدين+ معطر جو+ منظف وملمع نوافذ + كمامات + ديتول + مجموعة نعال نايلون مخصصة للوضوء” كل ذلك ثوابا على روح أبويَّ رحمهما الله تعالى ، فماكان من خادم المسجد الا أن شكره وترحم على والديه ودعى له بالأجر والثواب وحسن الخاتمة .
كان بالإمكان أن ينتهي الموضوع عند هذا الحد بالنسبة لي الا أن مسألة خيرية كهذه لن تمر عندي مرور الكرام إطلاقا لاسيما في زمن الشح المطاع والهوى المتبع واعجاب كل ذي رأي برأيه، زمن صار الحليم فيه حيران ، كان لابد لهذا الرجل الطيب أن يتحفني بدوافع هذا العمل واصراره عليه على مدار شهور طويلة وكيف خطر بباله ولماذا للفائدة العامة، فبادرته بالقول” اخي الحبيب،اولا بارك الله فيك وتقبل منك وجعل عملك هذا في ميزان حسناتك،ولكن ارجو منك ان تتقبل سؤالي الذي قد يبدو لوهلة فضولا ممجوجا لتعلمني كيف خطرت ببالك هذه الفكرة الجميلة التي تصلح أن يحتذى حذوها لكسب الأجر من جهة وللاسهام بتنظف بيوت الله تعالى من جهة أخرى، لاسيما ونحن نعيش في زمن الجائحة الوبائية الفتاكة والتي تعد النظافة البدنية والمكانية من أولويات الإجراءات الواجب اتخاذها للوقاية منها ومن شرورها ؟” .
* قال:محاضرة قصيرة على اليوتيوب كانت السبب في كل ما شاهدته بعينيك الان !
– قلت:هل لك أن توضح لي اكثر؟!
* قال:لقد شاهدت مقطع فيديو حدثنا خلاله الداعية وبطريقة محببة ومؤثرة عن قصة امرأة فقيرة سوداء تدعى ام محجن ،أو محجنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تقوم بتنظيف المسجد النبوي من الأذى،توفِّيَت ذات ليلة فقام ثلة من الصحابة رضي الله عنهم اجمعين بغسلها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها ،ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها لأنه كان نائما ولم يشاؤوا ايقاظه من نومه في تلكم الساعة المتأخرة، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم وسأل عنها، فأخبره أصحابه بما كان منهم تجاهها، فقال صلى الله عليه وسلم: “دلوني على قبرها” ثم أتى قبرها حتى وقف عليه وصلَّى عليها.
امرأة فقيرة معدمة كان حرصها واصرارها على تنظيف بيت من بيوت الله سببا في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمعية الصحابة عليها ودعائهم لها بالرحمة والمغفرة،بل قل كان تنظيفها للمسجد سببا لذكرها في جل كتب الحديث والتراجم والسير وهي المسكينة التي لايعلم بحالها أحد ولا يأبه لسيرتها أحد، الا ان مواظبتها على عمل طيب،وخير الاعمال أدومها وإن قل، مع عدم استصغارها لصنائع المعروف والعمل النافع مهما كان ضئيلا مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم “لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق” ولقوله صلى الله عليه وسلم ايضا”صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة ….”،قد ادخلها التأريخ من أوسع ابوابه وعندما اقول التأريخ ، فهو كذلك بالفعل ،اذ لايكاد الاف العلماء وطلبة العلم الشرعي والفقهاء في مجالسهم ومحاضراتهم ودروسهم وخطبهم ومواعظهم ومؤلفاتهم وعلى مدار قرون طويلة يتحدثون ويعظون في باب الجنائز،الصلاة على الميت،فضل عمارة المساجد وتنظيفها،الترغيب في فضائل الاعمال،الا وذكرت هذه المرأة على السنتهم ليترضى ويترحم عليها الجميع من دون استثناء ،الحقيقة لقد أثرت فيَّ هذه القصة كثيرا وقلت ماذا لو سرت على خطى”ام محجن”رضي الله عنها لعل الله تعالى أن يكتب لنا حسن الخاتمة كما كتبها لأم محجن،نظير عمل طيب مقدورعليه ولايكلف شيئا لا من جهد ولا من مال، داعين الله تعالى أن يحشرنا في زمرة من قال فيهم بمحكم التنزل :”إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ” .
اطرق الرجل رأسه هنيهة وقد دمعت عيناه بعد ان تحدث عن امرأة طيبة رحلت عن عالمنا منذ قرون ولكن بقي الاثر،فيما لم اتفوه انا بكلمة واحدة لأنني والحق يقال لم أجد ما يمكنني قوله لحظتها بعد أن تزاحمت الافكار في ذهني وعصفت بي المشاعر من كل حدب وصوب، فلا ادري على اي أعجب ؟ على موعظة الواعظ المباركة الذي سجل حلقة وعظية قصيرة على يوتيوب القاها بطريقة مؤثرة كانت سببا في عمل الخير من بعده وهو لايدري ؟ أم أعجب لهذا الرجل الكريم الذي قرر أن يحول ما يسمعه من موعظة طيبة الى واقع حال فكان من الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه ؟ أم أعجب لأم محجن رضي الله عنها وأرضاها والتي علمتنا دروسا في الايثار وحسن الخلق تتناقلها الاجيال من بعدها كابرا عن كابر ؟
فعقدت العزم على ان اكتب قصته لكم لتكون اسوة حسنة للجميع ، اقيمت الصلاة ، صلينا الجماعة ،الا انه خرج قبلي من المسجد ولم يتسن لي وداعه ولعلي التقيه في مرة مقبلة قد تكون بعيدة او قريبة لأترحم على والديه بعد رؤيته وهو يحمل معداته ومعقماته كعهدي به موليا وجهه شطر جامع جديد للاسهام بتنظيفه وتعقيمه في زمن الجائحة الوبائية ،ولأثني على صنيعه هذا وشخصه الكريم خيرا ..
وبما ان الحديث هاهنا يدور كله عن اعمار المساجد وعن صنائع المعروف وعن مقطع الفيديو الذي كان سببا فيه فدعوني اختم بـ” حكاية مسجد” فقبل اعوام خلت اقترح أحد الإخوة المخرجين اعداد برنامج متلفز بعنوان “حكاية مسجد” في اربعين حلقة ليعرض في رمضان وأول عشرة أيام من شوال وقد راقت لي الفكرة يومها بعد ان كلفت بإعداد الحلقات على ان تتناول كل حلقة منها مسجدا عراقيا قديما،اثريا، تراثيا وتسلط الاضواء عليه عمارة،هندسة ، قبابا ،منائر، ابرز الاسماء التي مرت به على مستوى الامامة والخطابة والتدريس،كذلك اهم الاحداث التي عصفت به،علاوة على (اهم الاوقاف الموقوفة حسبة لله تعالى عليه) وغاية ذلك كله تتمثل باحياء هذه المساجد القديمة من خلال تسليط الاضواء عليها والتشجيع على اعمارها وتأهيلها والمحافظة عليها وأوقافها من العبث والتفريط، فضلا عن تعريف الاجيال الصاعدة بها وبتأريخها وقصصها وحكاياها .
الا ان البرنامج تلكأ وأجل مرتين لأسباب قاهرة اولا،ولأن القنوات الفضائية عموما لاتميل الى هذا النوع من البرامج بدعوى انها خاصة بالقنوات الدينية وبالتالي فهي لاتتحمس لتمويلها وانتاجها ،بالمقابل فإن العديد من القنوات الدينية لاتريد ان تغادر-تقليديتها -ولا أن تطور من أسلوب معالجتها لهكذا مواضيع مهمة تتطلب بعض الحداثة وادخال المزيد من التقنيات والكرافيك والخروج عن المألوف في التصوير والمونتاج والمكساج بوجود الكاميرات الرقمية الحديثة وكاميرات الدرون التي بإمكانها تصوير اماكن لم يسبق تصويرها من قبل وبدقة عالية جدا ،ولابد من تسليط الاضواء على تلكم المساجد التراثية فمن هنا مر اجدادنا وعلماؤنا الافاضل كابرا عن كابر ،ها هنا كتب التأريخ جله أو كله،هنا صلوا ودرسوا وتعلموا واذنوا ودعوا وتهجدوا وسبحوا وكبروا وهللوا رحمهم الله تعالى جميعا واسكنهم فسيح جناته ، وما ترونه من اهمال شديد يطاول تلكم المساجد الاثرية والتراثية سببه بالدرجة الاساس غياب الكاميرا ناهيك عن التوثيق الصوري عنها ،ولو ان الكاميرا رصدتها ووثقتها لتغير حالها كثيرا .اودعناكم اغاتي