23 ديسمبر، 2024 5:54 ص

تحياتي الك وين أنت…رسالة لسجين الانفرادي!

تحياتي الك وين أنت…رسالة لسجين الانفرادي!

كلُّ نوبة حزن، يتسلل صوت رائق من لامكان فيخترق ظلمة وعفونة الزنزانة الانفرادية ليغمره بأمل جديد، الصوت يزفّ له الفرح “تحياتي الك وين أنت موجود”، هل هي مصادفة أم أنّ الشاعر أراد أن يوصل له رسالة؟

(هذه حكاية عاشها صديق ثم رواها لي بلغته، فصغتها بهذا الشكل)
لم يعرف كيف آلت به أخطاء السياسة الى زنزانة لا تزورها الشمس مساحتها 160 سم طولاً و130 سم عرضاً تغمرها رائحة الطلاء الجديد الأصفر الكئيب والعفونة. كل شيء كان يقرأ النهاية إلا صوت ينبعث من مذياع قريب أحياناً كانه صوت الأمل. حين أفاق من هول الصدمة بعد أيام تناهى اليه الصوت قادمأ من غربة لا تريم..
تحياتي إلك وين إنت موجود
و مشاعر يا حبيبي ما إلهه حدود
تحياتي و سلامي
يا أول غرامي
تجي و تروح أسامي
و إسمك فوك الورود
هل يعقل هذا؟ هنا في عمق بلدٍ أعجمي، وفي غربة سجن انفرادي ناءٍ، مستلقياً فوق ملحفة وسخة متهرئة تصله رسائل من شاعر لا يعرفه وكأنّها أنباء تزف له خبر الحياة وهو على حافة المقبرة.
باب الزنزانة قضبان بناء معدنية رصّت في إطار، ولقِصر مساحة القبر الأصفر، تخرج قدماه وبضع ساقيه من باب الزنزانة، وكلما مر الحرس يتخطى بين الزنازين يرفس الأقدام الطالعة، كأنها أطراف زوميبات تخرج من فوهات مقابر معتمة.
وفي صباح بارد ندي من اكتوبر، صدحت بدءا حمامة على سقف الجمّالي الكبير الذي يضم الزنازين تحت سطح الأرض، فأيقظته، ولم يجد ما يسد جوعه، سوى كاسة الماء في الممر، وقد خالط ماءها غبار أحذية الجنود الغليظة، وخيوط العناكب، وبلا تردد، أزاح بضع حشرات نافقة تطفو على سطحه ورشف الماء شديد البرودة على معدة خاوية، لن يصله فطور الصباح قبل 3 ساعات، وعليه أن يتلهى بالماء.
وتعالى من الغيب مرة أخرى صوت حسين نعمة..
تحياتي يا غالي
يا منور الليالي
عليك إنشغل بالي
و أريدك يا وفي تعود.
هل هي صدفة أنّ المذياع يبث أغنية عراقية؟ أم أنّ في الأمر رسالة مشفرة؟ واقترب من باب الزنزانة يحاول أن يعرف مصدر الصوت، فالتقطت عيناه طرف سروال جندي جالس تتسد بندقية ساقه، وفي يده مذياع يبث بصوت رهيف جدا صوت الشوق القادم من وطنه.
تحياتي يا عمري
شكلك و إنت تدري؟
أنا المفضوح سري
متى ما يعزف العود
هل يعزف العود في بغداد بعد كل تلك الدماء؟ ولكنّ غرابة المصادفة اكتسحت مشاعره فبقي ينصت ويردد، وهو يراقب طرف سروال الجندي، عسى أن يتحرك. ولم يتحرك، حتى جاء فطور الصباح، فجاءه الجندي الأسمر القصير يأخذ كاسته المعدنية اليتيمة وهي كل ما يملك في هذه الوحشة، وعاد بها برغيف خبز، وقطعة جبنة وزنها 50 غراماً . الرغيف هو حصته من الخبز لأربعٍ وعشرين ساعة، ويهمس المذياع من بعيد..
أنا المفضوح سري
متى ما يعزف العود..
مفضوح سري، هل أمسكوهم، هل أعدمتهم مفارز الامن والجيش والحشود المجنونة ؟ لماذا يقول كريم العراقي أنا المفضوح سري؟ هل كان يعلم أنّ العراقيين الثائرين المجانين يرقدون في زنزانات الصمت التي أعدها لهم حلفاؤهم، فأراد أن يقول لهم إنّ السر انفضح واقتربت النهاية؟ لا يعقل هذا، ما هي الرسالة اذا؟
تحياتي يا غالي
يا منور الليالي
عليك انشغل بالي
و أريدك يا وفي تعود.
منور الليالي تعني أنّهم يلتقون ليلا، أم تعني أنّ الكهرباء ما زالت مقطوعة والنور شموع؟
عليك انشغل بالي، تعني أنّ أخاه علياً قد اشتغل، وهذا مفرح فقد وجد عملا يعيل أسرته الفقيرة، فاذا غاب هو فعليٌ باقٍ
وأريدك يا وفي تعود..
هل يعني هذا أنّ صديقه “وفي” هو الآخر هارب وغائب…
هل هو مسجون معه قرب هذا المكان؟
تحياتي إلك وين إنت موجود
و مشاعر يا حبيبي ما إلهه حدود
هذا يعني أنهم عرفوا أخباره وأدركوا أنّه قد عبر الحدود، ولكنهم لم يعرفوا قط أنّه في السجن، فبعثوا السؤال عبر الحدود..
مشاعر تعني أنّ الحبيبة قد عقدت شعرها أو قصّرته حتى يعود، أم أنها تبث له شوقها ومشاعرها؟
تحياتي و سلامي
يا أول غرامي
تجي و تروح أسامي
و إسمك فوك الورود
سلامي تعني أنّ الوضع قد عاد الى السلام، كما كان أولا، لكنّ السلطات تبحث في الأسماء، واسمه بين تلك الاسامي، بل هو ..
واسمك فوك الورود
بل هو يتصدر قائمة اسامي المطلوبين..يالخيباتهم التي لا تنتهي، في عصر الغيبيات عليك أن تتعلق بأغنية يبثها مذياع تائه، وعاد الحرس بلا بندقية وهو يبستم وقال له بالعربية” تروح للمراحيض”؟ وكانت صاعقة أن يكلمه الجندي الغريب المكلف بحراسته بالعربية…
وصلت الرسالة اذا، فالناس تعرف أخباره والعالم لم ينسه، وهو ليس وحيدا فالأغاني تذكره وهناك من يوصل له الغناء، وحارس السجن جندي عربي يافع، لن يضايقه وهو يستخلي في المرحاض.
ماذا فعلت به يا كريم العراقي…قد بعثت به الروح بصوت حسين نعمة.
https://www.youtube.com/watch?v=Zx0kxS52zY8