في ظل التحولات التي تشهدها سوريا تحت قيادة الجولاني يستمر المشهد المعقد الذي يمزج بين البراغماتية السياسية والتمسك بالهوية الدينية، ففي الوقت الذي يصدر فيه قرارات بتعديل المناهج الدراسية وإضفاء الطابع الإسلامي عليها يستقبل وزيرة خارجية ألمانيا برفقة نظيرها الفرنسي هذه الخطوات بغض النظر عن وصف المؤيدين او المعارضين لها ومبرراتهم، فإنها تعكس تحولًا عميقًا في الفكر السلفي وسياق الحاكمية مرتبط بنشوء الجماعات الجهادية في المنطقة التي لايزال تأثيرها حاضرا في مسار الاحداث، وسوف يرتبط اكثر في رسم ملامح الفكر السلفي الجهادي في المستقبل ليس في سوريا فقط.
الحاكمية الجهادية
قد لا يتفق معي الكثيرون بأن أسباب الهوس في مسألة تحكيم شرع الله في الفكر السلفي الجهادي تتجاوز الجوانب الدينية، وإنما تتصل بأبعاد نفسية واجتماعية منذ نشأته، فقد برز هذا الفكر بشكل أو بآخر كردّة فعل على الشعور بالغربة والرغبة في مواجهة التيارات العلمانية التي اتخذت مواقف حادة تجاه الإسلاميين، خصوصًا في دول مثل تونس والمغرب ومصر، بينما كانت المواقف في بعض الدول الأخرى أقل تباينًا.
في ظل هذه الأجواء من الاضطهاد والتجريد والتغريب، انغمست التيارات الجهادية في سرديات دينية وتاريخية تتبنى رؤية أحادية لتفسير التاريخ والعقيدة، حيث تم بلورة مشروعها القائم على إقامة الشريعة الإسلامية كخطوة لاستعادة الدولة الإسلامية وإعادة المسلمين إلى الطريق الصحيح الا انه غاب عن هذه الرؤية التعمق في مقاصد هذه المفاهيم وفهم تفاصيلها، مما أدى إلى تركيز هذه الجماعات في نهاية المطاف على الرموز والهوية الإسلامية كأداة لإثبات وجودها، ثم قامت بتصدير هذه الرمزية كأيديولوجية جديدة او مشروع تروج له وتعمل على نشرها في مختلف البلدان برغم الفوارق الجغرافية والتاريخية.
ظهر هذا التأثير منذ بداية نشوء الحركات الجهادية السلفية في المنطقة من جماعة التكفير والهجرة بقيادة شكري مصطفى، وصولًا إلى الجماعات التي فرضت الشريعة مثل الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، وتنظيم القاعدة في المغرب، كما شهد العراق قبل سقوط نظام صدام حسين إعلان إمارة بيار من قبل جماعة أنصار الإسلام، وبعد سقوطه إعلان دولة العراق الإسلامية من قبل تنظيم القاعدة، هذا التأثير امتد ليشمل مناطق أخرى مثل جزيرة العرب مع تنظيم القاعدة ، وأفريقيا مع جماعات مثل بوكو حرام وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، وصولًا إلى الجماعات الجهادية في آسيا مثل جماعة أبو سياف في الفلبين انتهاء بخلافة البغدادي ليجد تجلياته في سوريا.
إجمالاً، لم تكن هذه الجماعات تمتلك قراءة متجردة من سايكو الهوية والاضطهاد لتجارب التاريخ الإسلامي وتحولاته العقدية والفكرية، مما حال دون تمكنها من فهم موضوعي لمشروع الدولة الإسلامية استنادًا عليه تقدم أدوات ترتكز على أسس حضارية أو آليات فاعلة لتحقيق هذا المشروع، بل كانت تحمل ثورية هائجة معززة ببعض الكتيبات الدينية ومحاكاة نفسية للماضي المجيد، نتيجة لذلك عند أول سيطرة لها على أي مساحة جغرافية سرعان ما تعمد إلى أسلمة كل شيء في المجتمع بهستيريا بالغة، فتطبيق الشريعة بالنسبة لهم تجربة نفسية تضعهم في صورة ماضي الإسلام المجيد، تمنحهم شعورًا نضاليًا أو رمزيًا أكثر من أي شيء آخر، حتى لو كان ذلك يكلفهم تكفير وقتل الآخرين أو حتى فشل مشاريعهم وانهيارها، ظنًا منهم أنهم في طريق استعادة مجد ماضي بعيد.
الحاكمية السورية
الحاكمية السورية المتمثلة في الجولاني كانت كما حالها في الحركات الجهادية في المنطقة لم تخرج من فلك هذا الفهم، حتى تمرد عليها -الجولاني – بقرار انفصاله عن مشروع تنظيم البغدادي ليبدأ بسابقة فكرية وعسكرية غير معهودة في تاريخ فكر السلفي الجهادي، فالتحول بين هذه الجماعات أو الانفصال الذي يتسم بالطاعة الصارمة أو بهيمنة رجال الدين أمر صعب خاصة بعد أن استطاع البغدادي ضم أغلب الحركات الجهادية السلفيةفي العالم تحت خلافته المزعومة في اسيا وافريقيا وبالتالي كان قرار الجولاني ومحاربته خطوة جريئة في تاريخ هذا الفكر تنظيماته.
يعود سبب هذا التحول إلى تجربته الطويلة مع الجماعات الجهادية ومعرفته بنشأتها وفشل خطابها، مما دفعه إلى تبني البراغماتية في محاولة للتكيف مع الواقع وإنتاج نموذج جديد لتحقيق أهدافه؛ ورغم أهمية هذا التحول، فإنه جاء بثمن كبير، خاصة بعد صراعه مع البغدادي فقد واصل استئصال جميع التيارات السلفية من منظومته، وأبرزها جماعة حراس الدين التي كانت قد وقفت معه في قتال داعش، فضلا عن تحجيم اخرين، بما في ذلك توجيه اتهامات بالعمالة في عام 2020 طالت العشرات من الشخصيات في إدلب، ومن بين هؤلاء رفيقهميسر الجبوري (أبو ماريا القحطاني)، وهو عراقي من الموصل وأحد أبرز منظري السلفية الجهادية وشرعي سابق في تنظيم القاعدة في العراق انتقل القحطاني للعمل معه منذ بداية نشاط الأخير في سوريا، إلا أنه تم اعتقاله من قبل الجولاني بسبب اتهامات بالتآمر عليه، ثمأُطلق سراحه بعد عدة أشهر ليتم اغتياله في عام 2023 في تفجير انتحاري برفقة يوسف الهجر مسؤول المكتب السياسي لهيئة تحرير الشام.
تشير هذه التحركات إلى أنها محاولات قام بها الجولاني للحد من تأثير التيار الأصولي الأكثر تشددًا وطموحًا من أجل أن يتمكن من قيادة المشهد داخل حركته أو خارجها، إذ أدرك أن وجود هذه الشخصيات يمثل عقبة أمام مساعيه للهيمنة على المشهد ويحول من تهيئة بيئة داعمة لتحركاته لذلك، سعى إلى تصفية هؤلاء الشخصيات من خلال السجن والتخلص منهم، مع خلق تجربة متوازنة في إدارة إدلب تعكس طموحه في تقديم صورة أكثر قبولًا محليًا ودوليًا، ورغم محاولاته لتصفية الأصوليين الأكثر تطرفًا وطموحًا، ظلت التيارات المتحالفة معه متمسكة بمواقفها فيما يتعلق بالأسلمة والحاكميةحيث بالنسبة لهم يعد تطبيق الشريعة ليس مجرد خيار بل ضرورة ملحة وفي الوقت نفسه، يدرك الجولاني أن هناك جمهورًا واسع خاصة أولئك الذين عايشوا ويلات الحرب، يرون في الإسلام الحل الأمثل لمشاكلهم هذا الارتباط العميق بالهوية الإسلامية يعزز فكرة الحاكمية.
من هنا يمكن أن نفهم التحول الفكري الحاصل ليس فقط عند الجولاني، إنما استشراف أثره على مستقبل الفكر السلفي، خاصة مع انهيار غالبية الجماعات في المنطقة، لعل أبرز ملامح هذا التحول هو تقدم صوت القيادة في الجماعة على صوت ما يُعرف بالمفتين أو الشرعيين، وخروجها عن السرديات التقليدية، مما أسهم في تشكيل تيار جديد داخل هذا الفكر والجماعات، ومن خلال هذا التحول يمكن فهم أسباب التناقضات التي أشرنا إليها في بداية المقال، حيث إن هذه القرارات ليست تناقضات بقدر ما هي توازنات داخلية حساسة يحاول الجولاني إجراؤها للحفاظ على توازن بين الأطراف الإسلامية الجهادية التي تمسك الأرض من رفاقه وبين مخاوف المجتمع الدولي او المحلي ومواقف الدول العربية من مسألة الحاكمية الإسلامية، وبين ما يطمح إليه من رؤية غير واضحة المعالم حتى الآن.
ونتيجة لهذه المعطيات فإن هذا النوع من القراراتالمتناقضة سوف يستمر كمحاولات للتوازن يعمد إليها الجولاني عبر الاحتواء المرحلي، أو أنه قد يتجه عبر القمع استنادًا إلى تجاربه السابقة، إذا ما استمرت الضغوط عليه من الرفاق الأصوليين للدفع بالأسلمة المبكرة، أما التحدي الأكبر ضمن الأطر الإسلامية والدينية فهو المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين الذي لازال خفياً، حيث تعتبر نفسها هذه الجماعة الأحق بقيادة سوريا كونها اكثر تحضراً من التيارات السلفية خاصة وتمتلك هياكل اجتماعية واسعة مع طبيعة فكرهم الأكثر مرونة مقارنة بالسلفية الجهادية، إضافة إلى ميلهم لاستقطاب الأطراف الداعمة إقليمياً ودولياً.
هذه التحديات تضع الجولاني أمام معضلات مفصلية، فبرغم نجاحه إلى حد ما في إقناع المجتمع الدولي بشرعيته وتحركاته، يظل إقناع الداخل السوري أكثر صعوبة، هذا الأمر قد يؤدي إلى انزلاق الجولاني في صراعات داخلية حادة، خاصة إذا لاقت دفعًا إقليميًا يسعى إلى تفكيك التوازن الحاصل في سوريا وفي الهيئة خلال هذه المرحلة، أو إذا فقد السيطرة على إدارة هذا التوازن الدقيق.