18 ديسمبر، 2024 7:37 م

تحرير الفكر من سطوة المؤسسات الحاكمة يمهد لحرية التعبير والرأي

تحرير الفكر من سطوة المؤسسات الحاكمة يمهد لحرية التعبير والرأي

إن مسالة تحرير الفكر هي قضية مهمة من ناحية انتاج ثقافة مغايرة للوضع المؤدلج باتجاه قضية معينة اي بعبارة اخرى ان مسألة تحرير الفكر من اشكاليات السلطة والاحزاب السياسية والمؤسسات السياسية او الدينية هي القضية المهمة في هذا الجانب وهي التي تؤسس لمنهجية فكرية متأنقة تسمح لحرية التعبير عن الرأي وايجاد الارضية المناسبة لهكذا تعبير ، والا فان ما تحاوله السلطة في العراق اليوم ومن خلال قانونها الاخير المزمع مناقشته في مجلس النواب انما تحاول تكميم الفكر واسدال حجاب عليه تمهيدا لتكميم العقول والتعبير عن ارائها واتجاهاتها نحو الاديان والعقائد والافكار ،ولكن سيطرة السلطة باتجاهاتها المتنوعة وسيطرة المؤسسات الدينية والسياسية على حد سواء على منابع الفكر المجتمعية هي الاشكالية التي من خلالها يُحبس الفكر كما ان الحركات الاصولية على اختلافاتها هي ايضا المسبب الرئيس لحبس الفكر في هذا الوقت ونقصد بالحركات الاصولية :الاسلاموية التي تتخذ من الاسلام منطلقا لتعصبها وتفسره حسب اهوائها ومنهجياتها وكذلك العلمانوية التي تتخذ من العلمانية مقصدا لنكران الأديان ونكران الأفكار التي تناهضها ويمثل اصحاب المدرستين اي الاسلاموية والعلمانوية الخط الأول في مصادرة الفكر بعد السلطات الحاكمة كذلك فان علاقة المثقف بالسلطة هي علاقة شائكة في اغلب الاحايين وهذه المسألة من الممكن قياسها على الواقع وذلك من خلال الوجود النهضوي للمفكرين في وقت تتواجد الانظمة الحاكمة وتحض المفكرين هؤلاء بمساندة النظام السياسي القائم ودعمه فكريا وهنا يرى المفكر نصر حامد ابو زيد ان العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة اشكالية بصفة عامة في تاريخ الفكر الانساني ويضرب مثلا في موقف سقراط الذي حكم عليه بتناول السم نتيجة اتهامه بافساد عقول الشباب حيث يتبين لنا من حادثة سقراط البعد الزمني للاشكالية القائمة بين المثقف والسلطة وفي مقابل المثقف الذي يعتبره ابو زيد منتج الوعي يقف رجل السلطة القابضة على زمام حركة المجتمع عن طريق التحكم في القرار التنفيذي والقدرة على استخدام ثمرة جهد المثقف وتوظيفها لتكريس سلطته واعطائها مشروعية وهذا البعد يبرز لنا الجانب التأسيسي لعلاقة المثقف بالسلطة والجانب التأسيسي هنا هو حاجة السلطة السياسية الى تأكيد مشروعيتها عن طريق منهج المثقفين والمفكرين وهنا تبرز الحاجة الملحة لدى السلطة لمحاربة المثقف عندما يقف حجر عثرة باتجاه المشاريع السلطوية وتأكيد سيادة تلك السلطة .
ففي لقاء سابق لي مع نوال السعداوي في روما اعتبرت ان السلطة تحاول تسخير المثقف والمفكر لتأكيد شرعيتها وان المفكر الذي يخالف السلطة في هذه المسألة او يكتب فكرا لا تتبناه السلطة الحاكمة فانها تحاربه وتحكم عليه واعطت مثالا لما حدث معها عندما طرحت روايتها التي صودرت من قبل الأزهر والكنيسة لانهما اعتبرا ان ما جاء في روايتها هو ضرب لكل الاديان والحال وصلت الى ان السلطة حاولت التفريق بين كاتبة الرواية السعداوي وزوجها الدكتور شريف حتاته(1)
تتأتى حرية التعبير عن الرأي من اتاحة حرية الفكر فاذا لم يكن الفكر متاحا للجميع ، فمن غير الممكن التعبير عن الرأي بصراحة وواقعية ، وما تحاوله اليوم الاحزاب الاسلاموية هو احتكار الفكر وتوجيهه نحو مصالحها عبر المثقف المأزوم الذي تتجسد فيه اطماع السلطات والاحزاب وشهوانيتها فلذلك سنتحدث عن حرية التعبير عن الرأي فكريا وكيف صودرت عبر التاريخ ومن خلال تحليلات وافكار عديدة في المبحث الاخير من هذه الدراسة
حيث ان لحرية الفكر ابطال في التاريخ تجرّعوا السم ومرارته كي يصبحوا كذلك وكي ينتجوا فكرا حرا بعيدا عن سيطرات السياسة وايديولجياتها ولكن التاريخ –كما يقول سلامة موسى – يثبت ان معظم الذين باحوا بما في صدورهم مما اعتقدوا حقيقة علمية او فلسفية او دينية نالوا من الاضطهاد بالتعذيب او الحبس او القتل الشيء الكثير الذي لم يخل منه قرن منذ اكثر من ألفي سنة .
ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن ما علة ذلك كله؟
العلة الاولى: ان الناس مطبوعون على الكسل والاستنامة الى ما ألفوه من العادات الفكرية والعلمية فالانسان في احوال معيشته لا يخترع كل يوم وانما يجري على عادة أمسه فيسهل عليه عمله وهنا يعلق سلامة موسى قائلا: فاذا ابتدع احد بدعة جديدة في اللباس او الطعام او الفناء او الشعائر الدينية او حتى الاسلوب الكتابي فانه يصدمنا لأول وهلة ويكلفنا تفكيرا او جهدا كنا في غنى عنه لولا بدعته .
العلة الثانية: ان المصلحة المالية والمعيشية كثيرا ما تكون متعلقة بالعادات المعروفة فتبديلها يضيع على بعض الطبقات هذه المصلحة فالغني يكره الاشتراكية لمصلحة واضحة.
العلة الثالثة: الجهل فان الذي يجهل نظرية التطور ويؤمن بان البشر ادم وامهم حواء يكره كل من يقول بنظرية التطور والذي يجهل اللغات الاوروبية من شيوخنا يكره كل من لا يقول بان اللغة العربية أفصح اللغات.
العلة الرابعة: الخوف فان العجوز مثلا قد تؤمن بالأولياء والقديسين وتتشفع بهم ولا يمكن وهي في هذه الحال ان تطالعها بحرية المناقشة فيما يعزى الى هؤلاء الاشخاص من الكرامات لان خوفها بمنعها من ان تطلق لذهنها هذه الحرية(7) وهكذا فان ابطال حرية الفكر قد دفعوا الثمن غاليا عبر التاريخ نتيجة صدمهم بافكارهم وهكذا اضطهد الفلاسفة والكتاب نتيجة الصد بالابتكار والأفكار ومثال على ذلك:كان ابن حزم احد علماء الأندلس وأكثرهم تأليفا اخذ عليه الفقهاء بعض المآخذ وابلغوا المعتضد بن عباد امير اشبيلية ما ينقمونه عليه فجمع كتبه واحرقها وفي ذلك يقول ابن حزم:
دعوني من احراق رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس اذ هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل ان انزل ويدفن في قبري
ومات ابن حزم سنة 456 ويقال انه ألّف 400 مجلد ولا نعرف منها سوى القليل بسبب الارهاب الفكري، وليس يتسع المقام لسرد اخبار العلماء الذين اضطهدوا في حريتهم الفكرية وكان اوضح مثال عليهم ابن رشد في الأندلس بقرطبة والثاني السهروردي في سوريا بحلب ونرى ابطال النهضة الاوروبية ايضا في حرية الفكر ومنهم سوزيني والذي وضع كتابه ((تعليم راكوف)) يقول في جزء منه حول حرية الفكر فلندع كل انسان حرا للحكم على دينه لأن هذه هي القاعدة التي يبسطها لنا العهد الجديد ولأننا نجد تعاليم الكنيسة الاولى تقوم بها . ومن نحن –نحن الاشقياء- حتى نخنق ونطفئ الآخرين نار الروح المقدسة التي اشعلها الله منهم هل احتكر احد منا معرفة الكتب المقدسة ؟ ولم لا نتذكر ان سيدنا الوحيد هو يسوع المسيح واننا جميعا اخوة ليس لاحد منا ان يسيطر على نفوس الآخرين ؟ وليس من ينكر ان يكون احد منا اعلى من الاخرين ولكننا نستوي جميعا في الحرية وفي علاقتنا بالمسيح ….وهكذا نرى المفكر سوزيني الذي توفي في بولندا 1604م قد قدم منهجية رائعة لحرية الفكر الديني على الاقل والذي ينسحب الى حريات كافة العلوم الاخرى لاسيما الفلسفية التي اضطهد بسببها علماء كثيرون في القديم والحديث ومن الأمور التي تقيد الفكر ايضا ولا تطلقه هو الاضطهاد ، اضطهاد الحكومات للناس أو اضطهاد الناس للناس على غرار ما كان يحصل في الولايات المتحدة من اضطهاد للسود من قبل البيض ولا تقوى هنا الحكومات على حماية المضطهَدين من قبل الناس وهذا الاضطهاد قد فلسفه المفكر سلامة موسى واعتبر انه من الأمور التي لا يمكن معالجتها بالقوانين فهو قائم على درجة من الثقافة الفاشية في الأمة ومقدار ما فيها من اعتراض وعصبيات قديمة لأن القوانين تعجز عن تأديب الجمهور اذا لم يكن من ورائها رأي عام يدعمها ويؤيدها فاذا كان الرأي العام يروج الى التعصب ويعود إلى الاضطهاد فان الحكومة بكل ما فيها من نيات حسنة لا تستطيع الاصلاح إلا بنشر الثقافة وقشع غيوم الخرافات من رؤوس الجمهور وهذه طريقة بطيئة ليست فيها سرعة الامر والنهي التي تتسم بها القوانين وهكذا فان هذا التعصب يسبب حكر الفكر واضطهاده وحبسه وذلك لأن المضطهد من قبل الآخرين لا يستطيع ان يفكر ويطرح فكره بسهولة وفي ذلك يقول ملتون الشاعر الانكليزي سنة 1644م اذا كان تيار الحقيقة لا يتدفق ماؤه ويسير قدما فانه يأسن ويستحيل بركة كدرة قوامها التجانس والتقاليد ثم يضرب المثل بالبلاد التي بها رقابة على المطبوعات ويقول ((انظر الى ايطاليا واسبانيا هل هما أحسن حالا بمثقال ذرة او هل هما اشرف او احكم او اطهر بما اكتسبته كل منهما من قسوة محكمة التفتيش في معاملتها للكتب ؟ ))(8)
ان مفهوم تحرير الفكر وتأثيره في معطيات الواقع وحوافز الابداع يتحدد في ان احد اهم حوافز الابداع هو تحرير الفكر و الفيتو الفكري اخطر العقبات التي تقف في وجه تطوير فكر اجتماعي سياسي عربي رصين وقوي وان هناك نزوعا حادا للتشرنق الفكري لدى كل التيارات في الفكر العربي المعاصر وكل تيار يزعم انه وحده يملك الحقيقة وان الصواب حكر عليه وحده .ان فكرا داخل فيتو او شرنقة هو فكر خطر ومدمر ينمو في الظلام بعيدا عن اي ضوء يكشف ما فيه من خطأ او صواب وبعيدا عن اي حوار لحقائق الحياة يثريّه ويمنحه الهوية ومثل هذا الفكر يلتف التفافا اخطبوطيا بالعقول والاذهان وهنا يقول ملتون ((اعطني الحرية في ان اعرف وان اقول وان أناقش كما يملي علي ضميري قبل ان تعطيني اية حرية اخرى )) .
نقلا عن المدى