18 ديسمبر، 2024 8:09 م

تحدي البلاغة (20) الطوي القصصي في القرآن

تحدي البلاغة (20) الطوي القصصي في القرآن

سورة يوسف أنموذجا
و من اعاجيب ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ﴾ الذي ﴿لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ﴾ ، سرده للقصص بطريقة لم يسبق لها مثال ولم يتبع لها مثيل ، والطريقة هذه ليست الاسترجاع ولا التحليل ولا المقدمة والعقدة والنهاية ولا ولا ،، اي من مدارس الادب القصصي والروائي او مذاهبه ، انها الطريقة المعتمدة على قدرة عالي البلاغة على العرض المكثف دون اخلال، ودور رائع البيان في إحاطة الاحداث رغم الاختزال، وإذ البلاغة هي ان تبلغ مرادك من المعنى باقصر الالفاظ فان القصص القرآنية حققت بواسطتها هدف التلخيص دون اضاعة الاحداث ، فأضحى ماترويه كتب التاريخ والأدب المختصة في مئات الصفحات، يضمه ويلمه القرآن العظيم في عشرات الآيات ، ويصل الى مبتغاه من العبرة والتبصرة ، بل ويضيف الاستفزاز العقلي الكبير للتدبر، ودفع النفس مابين الاندهاش والتحير.
وهذا ملموس ثابت في كل امثلة القرآن القصصية والتي ماسيقت الا لغرض نبيل، ولما بين طيات احداثها من خطر جليل، وسنمر عليها باذن الله في طيات هذه السلسلة من سورة اهل الكهف الى ام موسى ونبأ موسى وفرعون الى ولادة عيسى وأمه مريم الى الامم التي عصت انبياءها الى قصص الانبياء مع اممهم وبعثهم والرسل ورسالاتهم -عليهم جميعا السلام- ماوسعنا ذلك .
واشير الى ان نظرنا ودرسنا لتلك القصص مقتصر على تفردها السردي البلاغي وتميزها البياني دون غيرهما مما يختص به اهل العلم ممن اوسعوها بحثا ، واستخلاص عبر وراي واحكام ولازالوا.
وقبل ان نتناول آيات السورة القصصية العظيمة “يوسف” لابد من الاشارة الى ان القرآن الكريم لو كان روى هذه القصص بالطرق الأدبية البشرية المعهودة والمبتكرة لاحقا او التي درج عليها الناس سابقا لما كان كتابا شاملا لكل شأن ولما وجدت صفحاته من يحملها.
فالقرآن العظيم –وهذه ميزته الفنية في السرد القصصي-يطوي من احداث القصة سنين وتفاصيل تستلزم كتبا دون ان تشعر انه فعل ذلك مستجلبا العبرة دونما زلل ومن غير ملل.
قال تعالى في مقدمة السورة المذهلة ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ (١) ولم يقل تلك احداث قصة النبي يوسف او غيره، لانها فعلا آيات بينات قبل ان تكون شيئا آخر، ثم لفت الى لغة القرآن كلها ومنها لغة القصة ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(٢) وهنا سينبه ان ماسيقوله هو من القصص بل انه أحسن القصص فهي من الوحي الذي كان الناس وبضمنهم النبي الموحى اليه غافلين من قبله ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾(٣).
وتنطلق القصة دون تمهيد، وهذا لم يحصل ولن يحصل في السرد القصصي ، أنظر ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾(٤) فلا استفاضة ب ،،كان في احد الازمان ولد اسمه يوسف وكان مقربا لابيه وكان حبه من ابيه حبا خاصا وخوفه عليه خوفا حانيا وكان وكان وكان اخوته وكانوا،، كل هذا مما يتعطش اليه المتلقي قارئا كان او سامعا ليفهم القصة ويستمتع بها لم يرد ولم يذكر ولكنه لم يفتقد ايضا ولم يغيب فالعجيب الذي لايمكن اغفاله الا من خلال الشد الملتصق مع القصة ان كل هذا فهم بل ورسخ في الذاكرة التتبعية القصيرة للقارىء من هذه الاية الافتتاحية التي اختزلت سطورا وربما صفحات كان سيستغرقها الروائي المحنك او القاص المتمرس. فالذي سيأتي يبين ماقفزته الآية مما لابد من تبيانه ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(٥) اذن فهذا الولد كان له اخوة ويحسدونه على مكانته من ابيه و و وضح الامر بدقة ، ثم يلفت القرآن النظر الى ان هذا الامر سيكون له مابعده ، فاستمر ايها المتدبر لتعرف ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ،،،﴾ الامر اذن يتعلق ايضا بهبة تفسير الرؤى وتأويل المنام ، وهذه اشارة الى ان هذه الوقفة والملكة عند آل يعقوب ستكون من محاور القصة بين يوسف و ابيه عليهما السلام ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(٦) فقد كان لإبراهيم عليه السلام رؤيا وعبرة ونعمة تامة من عند الله من قبل.انتهى الفصل الاول كله بالآيات الست السابقات، لا اكثر من خمسة سطور مما نكتب ،
ثم ينتقل القرآن العظيم الى فصل جديد فيه ثلاثة مشاهد لاغير بعد ان أعاد في جملة بسيطة التنبيه الى ان في هذه القصة عبرة واجابة ايضا لمن يتساءل ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (٧) فيبين:
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (٨) وجدوا المبرر وتهمة ابيهم ، بقي المقترح الحل ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ (٩) والعزم على التوبة بعد الذنب، وهذا مايهمسه الشيطان عادة للأخيار المعاندين له ميسرا مشجعا ، اذنب ثم تب ان كان لابد، فكان احد اخوته ارحم به ف ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ (١٠)انتهى المشهد الاول، ودون تفصيل الموافقة والاتفاق الاخير ولا تبيان التشاور على التنفيذ وشكله نقلنا الى المشهد الحاسم ، وقوفهم بين يدي ابيهم ليتخل عن يوسف لهم ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾(١١) وهنا الإشارة التراجعية الى انه في الاصل لم يكن يسمح لهم باخذه للعب معهم شغفا به، فأردفوا ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١٢) ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ (١٣) ﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ (١٤)انتهى المشهد بنجاحهم باستدراج اخيهم.
المشهد الأخير ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (١٥) ﴿وَجَاءُو أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ (١٦) ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ (١٧) ﴿وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾(١٨) انتهى الفصل الثاني في ارض سكناه ونشأته الاولى.
تأمل معي الانتقال السلس الى فصل جديد وبعيد وانتقال مكان القصة و احداثها وشخوصها دون اثارة اي ضجة و دون الحاجة الى اي استنفار وتهيئة ، فقط جملة واحدة تفصل بين مسرحي الفصلين المتباعدين مكانا وزمانا القريبين الى مستوى لحظات بفضل الطوي القصصي،،فيبدأ ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ،،،﴾ وهنا اختزال السطور التي يصرفها الروائيون في التحليل والحوارات والتحركات ، مباشرة الى ﴿،،،قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾(١٩) ثم وصولهم لارض مصر فباعوه ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ (٢٠) وجاءت صفة “الزاهدين به” تلخص امرا عظيما سيعرفه القارىء قريبا ويفهم لماذا ذكرت. ثم انظر الانتقال الى البيت الذي استقر اليه مباشرة ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا،،،﴾ وستاتي جملة اعتبار الان: ﴿،،،وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ،،﴾ ثم التذكير بقدرة الله تعالى ﴿،،،وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٢١). انتهى المشهد الاول من فصل مصر الاول وهو الثاني في القصة كلها.
الفصل الثالث يقفز بنا من مرحلة الطفولة الى الشباب طاويا سنوات لاحاجة للقصة بمعرفة تفاصيلها ويمكن تخيلها بسهولة من استقراء حالة البيت الذي تبناه و مما سيتلو من احداث ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(٢٢) وهنا تكاد وفي خضم توالي السنين التي طويت وانشغالك بمايجري له في مصر ان تنسى اخوته و اباه. يدخلك المشهد الأول من الفصل الجديد الى اهم حدث دون اطالة ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾(٢٣)ثم ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (٢٤) فها هو يوسف عليه السلام شابا نظرا يتعلق به قلب سيدته ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ،،،﴾ انظر كيف اختصر التفاصيل الشعورية التي يهتم بها كتاب البشر ويفصلونها بدقة تثير قراءهم ، جميعها طويت في جملتي “راودته واستبقا الباب” و كان هذا من ارقى مايراعى به أدب الحديث عن تفاصيل كهذه تراعي قدسية القرآن من جهة ورسالته وكذا حياء قرائه ، ثم انتقال آخر دون اسهاب من قبيل-وفي الاثناء كان زوجها قادما فصادف ان راى الموقف واثار الصدمة و تفاصيل ردة الفعل من الاطراف او حين حادثهما وتساءل او استنكر، بل مباشرة (،،،،قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٢٥) اتهمته بالمبادرة فدافع ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي،،،﴾ ثم طوي حدث التحاكم بعد تبادل الاتهام الى الحسم في التحكيم ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (٢٦) ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (٢٧) صار التوافق على هذا الاستدلال فانتقل الى السيد الذي قال خاتما ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ (٢٨) ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ (٢٩) انتهى المشهد.
الآن الى الحديث الذي صار على السنة الناس ولك ان تتخيل القفز على ،،ان الحدث تسرب وبدات الناس تتكلم وتهجم على السيدة والى كل ذلك اختصرت ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (٣٠) و دون انتظار ان يخبرنا ،،انها سمعت ثم حزنت ثم عانت ثم ثم ،،بل الى الحدث في مشهد جديد ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ (٣١) ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (٣٢) وهذا يعني انهن تواطئن ضده واصرت السيدة وحاولت مرة اخرى ومكرت له وهددتوان لم يطعها تدبر له مكيدة فيسجن، فاختصرت كل تلك الايام والحوارات بالنتيجة ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾(٣٣) ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (٣٤) وكان التنفيذ فيه ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾. (٣٥). المشهد التالي انتقال فوري الترتيب والسرد ،ولكنه حسيا اخذ وقته المفترض فاختصر وضمن حدث دخوله السجن ومكوثه فترة وتعرفه على سجناء معه بهذه الاية ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(٣٦) كيف عرفا انه من المحسنين؟ بالمصاحبة في السجن طبعا لفترة طويت قصصيا يشير اليها وصفهم له ولجوؤهم اليه ثقة بعلمه او خلقه فأجاب ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (٣٧) ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ (٣٨) الارشاد والتعريف بنفسه كبيت نبوة ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ (٣٩) الدعوة الى الله ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٤٠)ثم تفسير الرؤيا ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾(٤١)انتهى التفسير بآية واحدة محكمة البلاغة ثم التنبؤ ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ،،،﴾ وانظر الطوي لسنين أخرى ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (٤١).
الفصل الثالث بمشهده الاول نفهم منه دون عرض ان الفتى الاول الموعود خرج فعلا من السجن والتحق بخدمة الملك و ايضا دون تخصيص شرح لذلك ، كيف؟ انظر ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ (٤٣)اجابه الكهنة ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ (٤٤) وها هو فتى السجن الناجي يظهر ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ (٤٥)انتهى المشهد. ثم فورا مشهد الوصول الى يوسف دون ذكر الطريق والحوار بين الفتى والحرس و و و ،، بل سؤاله ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(٤٦) ثم التفسير لهم ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (٤٧) ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ (٤٨) ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ (٤٩) انتهى المشهد ،
انتقال لمشهد بلاط الملك بعدما سمع واقتنع ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ،،،﴾ و باختصار عن تهمته الاولى وسجنه ظلما ﴿قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾(٥٠) اي انه اراد اعادة المحاكمة فجيء بهم عند الملك الذي ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ،،،﴾ ﴿،،،قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾(٥٠)اظهار الحق من فم صاحب المظلمة ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ (٥٢) والاعتراف بالخطيئة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٥٣).
هنا مشهد الافراج هذه المرة وهو الاول من الفصل الرابع وقبل الأخير ويروي تربع يوسف على وزارة مصر او خزانتها ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ (٥٣) والتعيين ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (٥٥) وهذا هو المصداق لقوله تعالى يوم رمي في البئر اذ اوحى اليه انه سيمكنه في الارض ويجتبيه لكن لم يكن يدري كيف آنذاك، وهنا التأكيد ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَالْمُحْسِنِينَ﴾ (٥٦) ﴿وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾(٥٧)
ثم مشهد سنوات القحط التي بينها لهم في تعبير الرؤيا، وقد طوت الآيات سنوات الزرع والتخزين وفق الخطة المرسومة وذلك اكتفاء بالاشارة اليها تفصيلا يوم فسر لهم رؤيا الملك وقت كونه في السجن، واذا فالى المشهد الجديد مع اخوته القادمين للمؤونة ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾(٥٨) ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾(٥٩) تدبيره الجديد للاجتماع باحبابه ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ﴾(٦٠) حوار قصير يكفي لفهم كل الموقف ﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ (٦١) و”نراود” هنا هي نفس ما فعلوه مع يوسف نفسه سابقا، ولذا فانه اصر عليهم عند رفضهم بحجة حب ابيه له وفرقه عليه. ثم دبر ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(٦٢) و العودة للديار والوصول ومخاطبة الاب من جديد ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(٦٣) التذكير بالفعل الاول والعهد القديم الذي لم يصن ﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (٦٤) ومحاولة اخرى ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾(٦٥) هذه المرة هم رجال كبار صالحون وسيلزمهم العهد او الموثق مع الله فاستخدم هذا ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾(٦٦) فأوصاهم حرصا ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾(٦٧) و لأمر آخر في نفسه.وانتهى الفصل بهذا القول.
في الفصل الأخير الذي ندخله الآن يقفز القرآن العظيم تفاصيل الرحلة الجديدة والتجهيز والطريق وفي اول مشهد فيه نجد ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (٦٨) فطوى طريق الصحراء القادم و ايامه ولياليه خلا آية دخول المصر وفورا الى ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (٦٩) ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ،،،﴾ اخذه وبتسريع آخر لتفاصيل خلاصتها ﴿،،،ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾(٧٠) ﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ﴾ (٧١) ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ (٧٣) ويعني ذلك اختصارا انهم اتهموهم بسرقته ولكن الى الجواب مباشرة ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾(٧٣) فحدث اتفاق مع اهل الحكم هو ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾(٧٤) ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾(٧٥) هم حكموا على انفسهم اذن دون وعي ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ،،،﴾ للتمويه (،،، ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ،،،﴾ ليحتفظ باخيه عنده في بلاط الملك ﴿،،،كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (٧٦) وهنا ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾(٧٧) فبدأوا يائسين محاولة اقناعه ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾(٧٨) لكن لافائدة ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾(٧٩) فتكلم اليهم اكبرهم في امر الميثاق ﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾(٨٠) فاقترح ﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾(٨١) ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(٨٢)
وفي المشهد الجديد عودة الى ارض الاب وقد دمج السرد بين قول الاخ الاكبر مقترحا وبين قولهم لأبيهم فعلا وقد صاروا بين يديه، وهذا من روائع الطوي الفريد، ولانه يعلم ان ابنه لايسرق وهو لايعلم الغيب عن تدبير الله ليوسف ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾(٨٣) وهنا وبفقد الشقيقين عمي بصره وانما القصد من طول الحزن والبكاء ولكنها اختصرت ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾(٨٤) وقوله هذا يفطر القلب ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾(٨٥) ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (٨٦).
وفي مشهد جديد و ان كان غير بعيد اي بعد حين وقد زاد شوقه قال ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا ياْيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (٨٧) فذهبوا ووصلوا مصر مرة اخرى ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾(٨٨) وهنا صارحهم ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾(٨٩) ومعنى هذه التذكرة التي لايعرفها احد الا هم انه هو يوسف ﴿قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(٩٠) و انظر ملخص العبرة من ناتج عمل السوء وعمل الاحسان وعظمة بلاغتها: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾(٩١) والتسامح الفوري من قبله عليه السلام ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾(٩٢).
والمشهد ما قبل الاخير ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(٩٣) و طوي آخر للسفر والتوديع والوصول لارض قريتهم ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾(٩٤) وهذه الاية تبكي .﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥)و الذي قال ها هنا هم الناس الذين معه ومن بقي لم يكن في قافلة مصر (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ،،،﴾ اي القميص ﴿،،، فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (٩٦) ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (٩٧) ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (98)
وتطوى الاحداث والتجهيز للسفر والسفر الى لحظة المقابلة المرتقبة والمشهد الأخير من الفصل الاخير ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ﴾(٩٩) ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (١٠٠)
كانت هذه القصة العبرة بكل روعتها وبما يكفي كتبا تكتب عنها ،قد رويت بمئة آية فقط.
وختمت بدعائه عليه السلام قال ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (١٠١) ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾.(١٠٢)
الى قوله تعالى ، يبين الغاية من القصص:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(١١١)ّ
وقد كانت تصويرا حيا لا كلمات مباركات فحسب.
وصدق الله مولانا الخلاق المبدع المصور العظيم
و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين