ان الاحداث المتردية الجارية الآن في منطقتنا العربية تقدم كل يوم ادلة جديدة على وجوب النقاش والحوار واللقاء بين مختلف فصائل ومكونات الجماهير العربية من مثقفين ووطنيين من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية . وليس الصراعات المستعرة في بعض اقطارنا العربية ليس آخر حلقة في سلسلة هذه الاحداث والتطورات المقلقة التي تمر بها امتنا العربية منذ سنوات وما نواجه من اخطار وتحديات ..
واخطر ما في الاوضاع العربية الراهنة المؤلمة والمخاطر التي تواجه كل قطر عربي ، تمزيق التضامن العربي حتى بحدوده الدنيا ، وتحالف البعض مع العدوانات الاجنبية ضد بعض العرب، وانحسار الروح والمنطق القوميين في معالجة الاحداث وفي العلاقات العربية ـــ العربية ، وتراجعها امام المد الشعوبي البارز خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن .. وامام جميع اشكال الطائفية والاقليمية والسلطوية والعشائرية والعائلية وامام تيارات سلفية جاهلية منغلقة وشديدة التعصب تستثمر الشعارات الدينية تستغل المشاعر الدينية لبسطاء الناس ، محاولة مع الشعوبية والطائفية ، وضع اسوار مصطنعة ، وخلق عوامل الصراع بين العروبة والاسلام .. لتتراجع مفاهيم التقدمية والنهضة والتنوير والوحدة العربية .. وتتشوه المفاهيم ومدلولاتها ، وتختلط الاوراق السياسية ، وتزداد الهوة بين ما يجري اعلانه من شعارات واهداف ومبادئ جميلة وبين الممارسات المناقضة لها جملة وتفصيلا .
وتزداد بشاعة سياسة التسلط والقمع واحتواء ارادة الشعب وعمليات التخويف والارشاء ، وتكبيل المثقفون اكثر فأكثر بأغلال مرئية او خفية ، من القلق والخوف واللامبالاة والاحباط او الاستسلام ، الا تلك الفئات الاكثر قدرة على الصمود وعلى استشراف الامل من بين طبقات الخنوع والذل ..
في مثل هذه الاوضاع والظروف ، كم يبدو ضرورياً ومبرراً ومشروعاً وبصيراً كل نداء موضوعي نزيه يدعو الى الحوار واللقاء من اجل التوصل الى مشروع قومي مستقبلي للعمل العربي ، يدفع بهذه الامة الى الامام وينقذها من عوامل التداعي واليأس والتردي والتناحر الى معارج المواجهة الواعية والشجاعة للاخطار وصرعها والانتقال الى مرحلة متقدمة من الحركة والنضال .
ان الحوار المطلوب يتجاوز في حدوده ومداه ، مسألة العلاقات العربية الرسمية والظروف الآنية من التداعي ، الى المستقبل الابعد الى الآفاق الاستراتيجية والى لقاء جميع القوى العربية السليمة في نواياها واهدافها وفي حرصها على أمن الامة وحقوقها وسيادتها ، سواء كانت في الحكم او خارجه ، وتتجاوز بحث الامور السياسية وحدها الى تعميق الفكر وتحديد المفاهيم ومكافحة مظاهر الردة الثقافية والحضارية التي اخذنا نلمسها هنا وهناك منذ سنوات ولاسيما على شكل نزعات تعصبية وطائفية مقيتة وعشائرية وانغلاق عن العالم ونظرة دونية الى المرأة العربية ومحاولة انزالها الى عالم الظلال والجهل .
ولا ينكر ان الردة الثقافية والفكرية والاجتماعية التي نلمسها في بعض الاجزاء العربية وبصيغ واشكال مختلفة ، تفسر لحد كبير ـــ عدا ارث التخلف ـــ وبردود فعل عمياء تجاه عمليات النقل السطحي من الغرب ، وتجاهل الخصوصيات الوطنية والقومية والتقاليد الاجتماعية والمشاعر الروحية ..
ولكن القوى الرجعية الطفيلية ومعها دوائر الدنس الصليبية الامريكية والصهيونية والشعوبية .. تستغل ذلك كله لتكريس التخلف وتعطيل الطاقات ونشر الفتن .. كما ان القوى الدنسة المذكورة تستثمر تجارب الاخفاقات المتتالية في حركة الشعب العربي وتخبطها وحتى فشل كثرة من البرامج والتجارب الوجودية الثورجية من اصناف مختلفة .
ان عدداً من الثورات قد تكشف عن اجهزة قمع وغش وتسلط عائلي او فئوي وعصبيات قطرية ، وازاء الخلط الشائع في الاوراق السياسية تضطرب وتتداخل مصطلحات التقدمي والنهضوي والرجعي المتخلف ، واليساري النقدي ، واليميني المهاون .. فالبون الشاسع بين الشعارات والممارسات الفعلية من بين اخطر الامراض السياسية في الساحة العربية ، ولاسيما في صفوف دعاة الثورة واليسار .. وانظروا استمرار مواقف العبث بالمصير العربي في مناقشات أية قمة عربية ، حيث تحاول انظمة بعينها استبعاد قضايا مصيرية بحجة انه قضية عادية .. هل المطلوب هو ان تتعرض كل ارض عربية الى ما يعكر وضعها حتى يصحو البعض من الحسابات القطرية ويتجاوز البعض الآخر عقدة واحقاده ..؟
وكيف يفكر احدهم بالانضمام الى حلف عسكري اجنبي شرقي كان ام غربي قبل ان ينضم حقاً وصدقاً الى معاهدة دفاع قومي مشترك ؟!
ان النقاش والحوار المطلوبين اليوم يجب ان يستهدفا معالجة المستقبل الاستراتيجي على اساس من التحليل الانتقادي الموضوعي لمختلف التجارب العربية انجازاً او اخفاقاً وتعثراً .
ونظراً للاختلافات الكبرى في منطلقات التحليل وفي التفسيرات وفي المفاهيم ، فأن من الضروري اولاً كما اعتقد محاولة الاتفاق بادئ ذي بدء على تحديد الاتجاه العام او النهج العام والاهداف الكبرى التي يمكن ويجب ان تلتقي حولها سائر القوى السليمة في الشعب العربي على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي وترك التفاصيل الى وقت آخر ، بالرغم من الاهمية الخاصة لهذه التفاصيل . فمثلاً الاتفاق على ضرورة التمسك بالاتجاه او النهج العربي الوحدوي الذي يتعرض الى اخبث محاولات التشويش والتشكيك وضرورة الاتفاق على تصور مشترك للعلاقة بين القومية والدين وبين الخصوصيات القومية وبين الانفتاح العالمي وتجارب الآخرين .
ان الوضوح الفكري في هذه الموضوعات الهامة وما يرتبط بها قد بات من ضرورات الساعة ، وهذا يتطلب مراجعة فكرية هادئة وموضوعية وان كان ذلك بحد ذاته لن يشكل سداً وحيداً او مناعة وحيدة في وجه الممارسات العملية الشاذة . واعتقد انه لابد من بحث الموضوع العراقي والسوري واليمني .. من كل جوانبه وعلى الاصعدة الاستراتيجية والتكتيكية ومع وجوب الاتفاق العام على احترام كل ما تتفق عليه قيادات هذه الاقطار الشرعية من قرارات ومواقف لصالح شعوبها وحقها في سيادة وامن دولهم .
اخيراً ، كم تبرز أكثر فأكثر الحاجة الى وجود مراكز ابحاث فكرية سياسية عربية محايدة تجاه الانظمة او قيام مركز عربي مشترك تسهم في اقامتها وتمويلها مختلف الجهات العربية ذات الحس المسؤول من افراد ومؤسسات ومنظمات ومراكز فكرية واجتماعية وثقافية وسياسية غير حكومية، وايضاً من أية دولة عربية تريد ان تسهم في اقامة هذا المركز او المراكز او ما يمكن تسميته بالجامعة الفكرية بشرط عدم تدخلها في شؤونه الداخلية وبعيداً عن أية ضغوط مباشرة او غير مباشرة ، وذلك ضماناً لتوفير تنظير وتحليل موضوعيين لا تبريريين لصالح حكومات بعينها .