18 ديسمبر، 2024 5:39 م

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

التجلّيات النفسيّة في قصيدة الشاعرة : نعيمة عبدالحميد – خصوبة الشمس – ليبيا .

 

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطئ , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن واستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالاتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطئ كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الإيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الإبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الالآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الإنسانية . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما انتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وانبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الانتشار وانطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية و أوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .

سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .

لكلِّ قصيدة جوّ عام , من خلاله يمكننا أن نتعرّف على الحالة النفسيّة للذات الشاعرة , أنّ لحظة كتابة القصيدة تكون الذات الشاعرة تعيش في حالة نفسيّة معينة , وتحتدم في أعماقها الصراعات النفسيّة , والخلجات الروحية , وتبقى تبحث عن متنفّس من خلاله تفرغ هذه الصراعات والشحنات التي تمور في أعماقها , كأن تكون الذات الشاعرة في لحظة كتابة القصيدة واقعة تحت تأثير حالة نفسيّة خاصة , كأن تكون في حالة من النشوة والسعادة , أو لحظة تشاؤم وحزن عميق , أو تعيش حالة من القلق والاضطراب واللاأمان , والغربة والضياع وسط هذا العالم الفسيح , فتحاول الذات الشاعرة هنا أن تُسقط كلّ معاناتها وهواجسها على الورق , وكأنّها تحاول ان ترسم لنا لوحة تعبّر عن ذاتها النفسيّة وصراعاتها الدفينة , لا شعوريا تنهمر كلّ هذه الهواجس دفعة واحدة , من خلال نسيج شعريّ يعبّر اصدق تعبير عمّا في أعماقها , فالذات الشاعرة تحتفظ باللاوعي بالكثير من الذكريات والمواقف , وفي لحظة التجلّي الذاتي يتهتك الجدار الفاصل ما بين الوعي واللاوعي , فتنهمر كلّ هذه اللحظات دفعة واحدة . بالعودة الى قصيدة الشاعرة الليبيّة : نعيمة عبدالحميد / خصوبة الشمس / , نستطيع ان نتعرّف على الحالة النفسية عندها من خلال جوّ القصيدة , أنّ جوّ قصيدتها هذه مشحونٌ بالقلق والصراعات , هذه القصيدة تشبهُ عيمة رماديّ’ تنذر بالهطول والطوفان , فمن خلال مفرداتها سنعرف الجوّ العام لها , فمفرداتها جاءت هكذا / معتم / البائدة / عبيد / جواري / ملتهبة / تزدري / البالية / يتلعثم / مشوّه / خططه الدفاعية / الادريناليّة / , فكلماتها تشبه العبيد تُشترى وتُباع في أسواق المزايدات , فهي أسيرة تستخدم في تشييد صروح الادب المتردي , والجواري , فجوّ القصيدة العام يتناوب ما بين الخوف والسعادة , أنّ مفردة / الادرينالين / في نهاية النسيج الشعري لدى الشاعرة صنع لنا جوّاً ودلالة على ما تعيشه الذات الشاعرة , فكما أن الادرينالين يرتبط بلحظات الخوف والقلق , فأنّه ايضا يفرز عن الحالة الشعورية المفعمة بالسعادة والافراح , هكذا هي الذات الشاعرة تعيش المتناقضات من الحالات النفسية والصراعات المحتدمة لحظة كتابة القصيدة , لقد نجحت الشاعرة هنا في رسم صورة لما في اعماقها البعيدة , فجاءت صورة واضحة الملامح الحسّية , وأدركنا من خلال جوّها العام ما يتدفق من شلالات جمال وابداع ومقدرة على تطويع اللغة لأجل غاية معينة تريدها الشاعرة .

أنّ للشاعرة باع طويل في كتابة القصيدة السردية التعبيرية , وتاريخ مشرق وبهيّ , اذا نحن أمام متماسك , ولغة شعرية خصبة عميقة غير سطحية , أننا أمام قطعة نثرية متماسكة ينبعث منها الشعر الكثير من دون التفنن البصري والشكلي , أنّها قطعة نثرية من حيث شكل الكتابة والفهم والقراءة , ولكنها شعر على مستوى التحليل والدلالة , أنّها القصيدة الشعرية المكتوبة على شكل نثر , والمحافظة على الخصائص الشعرية من خلال الصور المكثّفة , والزخم والتأثير العاطفي والحسّي , والتشظّي الشعري , فكل جملة شعرية في هذه القصيدة عبارة عن سطر شعريّ جميل جدا , هذه هي القصيدة السرديّة التعبيريّ’ التي تجمع ما بين النثر والشعر ( النثروشعرية ) , من خلال رمز ايحائي زاخر بالتكثيف اللغوي والصور الشعرية والانزياحات , فهذه القصيدة السردية التعبيرية تمتاز بالنثرية حيث الكتابة على شكل الفقرات وبدون تشطير او فراغات وكما في هذا المقطع / إدراك معتم لا يحيد عن صوره البائدة ولا يؤمن بالحبّ المطلق / , وتمتاز ايضا بالسلاسة كما في هذا المقطع / وكيف ان الكلمات عبيد تجرّ جواري الشعور في حضرته تتشكل في أبهى زينتها دون تحفّظ / , وكذلك تمتاز بالبناء المتواصل دون وقفات أو تشطير كما في / تزدري طريقته البالية وتعكس أفكاراً تفيض بداخلٍ مشوّهٍ تشدّ وجهه ضفة أخرى / , وتمتاز ايضا بالزخم الشعوري وكما في / لله درّه حين شدّها بكلماته الادرينالية / , فالقصيدة هذه تمتاز ايضا ببنيتها السرديّة , وبتعبيريتها المتدفقة من أعماق الذات الشاعرة . لقد تمكنت الشاعرة في قصيدتها هذه ان تحفزّنا ان نرى ونتلمس ونحسّ ونشعر بالحالة النفسية التي كانت تعانيها الشاعرة لحظة كتابة القصيدة , وهكذا تتجلّى مقدرة الشاعرة في كتابة القصيدة السردية وتتفنن في إدهاشنا وبثّ حالة شعورية نفسيّة في نفوسنا , وقد نجحت في ذلك أيما نجاح .!! .

القصيدة :

خصوبة الشمس

إدراك معتم لا يحيد عن صوره البائدة ولا يؤمن بالحب المطلق، وكيف أن الكلمات عبيد تجر جواري الشعور في حضرته تتشكل في أبهى زينتها دون تحفظ، تتكاثر بخصوبة ملتهبة، تزدري طريقته البالية وتعكس أفكارا تفيض بداخلٍ مشوه تشد وجهه ضفة أخرى، يتلعثم في وجه الشمس، يقدم خططه الدفاعية، يكوم الأمور في سلة واحدة فسخرت منه وهي وسط هالة من نور أبعدته جهته المقابلة؛ لله دره حين شدها بكلماته الأدرينالية .

 

الأدرينالين الذي يُسمى أيضًا إبينفرين (Epinephrine) هو الناقل العصبي الرئيس في الجهاز العصبي اللاإرادي حيث يتكون الأدرينالين في مركز الغدة الكظرية.