حاول الساسة في العراق، المنخرطون بالعملية السياسية تحديدا ، من خلال تصريحاتهم المعلنة، دون الحكم والتأكد من وعلى توجهاتهم ونواياهم الكامنة، معالجة قضية “الميليشيات” لغرض استتباب الأوضاع السياسية ، كما إن الأمم المتحدة وهي تراقب تطور الأوضاع في العراق ، خاصة بعد أن لوحظ تطور نوعي في استخدام العنف الأعمى. من خلال التراشق بالـ”هاونات”، خلال فترة ما ، وهي علامات على إمكانية بدايات نشوب الحروب الطائفية المحدودة المصغرة بين المحلات السكنية دون تمييز، في بعض مناطق العاصمة تحديداً، فأن الأمم المتحدة، ومعها جهات مدنية عدة حيادية،أوربية، معنية بالسلم الأهلي في البلدان المتوترة، وهي ترى تنامي إمكانيات تلك “المجموعات المسلحة” و”المليشيات” في التأثير على الأوضاع العراقية ، تُحذر من تنامي عوامل ومعوقات تحمل معها بوادر صراع إقليمي يبدو أكثر واقعية بكثير عما مضى. بعد حل القوات المسلحة العراقية ، ومع إعادة تشكيلها ثانية تم دمج(المليشيات) المسلحة التي كانت معارضة للنظام السابق، معها ، و استيعابها في الأجهزة الأمنية بموجب القرار (91 ) الصادر من الحاكم المدني (بول بريمر). إن أداء هذه القوات يتطلب معرفة أن إعادة تأسيسها وتدريباتها كان على يد القوات الأجنبية المتواجدة في العراق، بهدف المساهمة بدعم العمليات العسكرية لتلك القوات، و مساندة الدولة الجديدة ، أما المواطن العراقي وشؤونه الأمنية، القانونية وحقوقه الإنسانية و الدستورية ، فكانت أموراً ثانوية في إعدادها، وتوجهاتها،و حكمت عقيدتها العسكرية الأساسية مواجهة (الإرهاب) بعد أن عُدَ “العراق الجبهة الأساسية للحرب على الإرهاب العالمي”. القوات الأمنية العراقية تفرط في استخدام السلاح من خلال إطلاق النار العشوائي كأفراد و جماعات ،خاصة حمايات المسئولين الحكوميين وعلى جميع المستويات، وكذلك من خلال تفتيش البيوت المصحوب بالعنف المادي و اللفظي. وثمة ممارسات متعددة لهذه القوات منها التعذيب بطرق مختلفة وبوسائل متنوعة ،كشفت عنها تقارير دولية موثقة جعلت الحكومة العراقية، بعد فضحها إعلامياً، تعمد لتشكيل لجان تحقيقيه لم يصدر عنها أي تقرير حول عملها و ما توصلت إليه من نتائج حتى الآن!!.من الصعب في ضوء تعقد الوضع العراقي، التمييز بين دوافع عمليات الخطف والقتل بتوجهات وخلفيات سياسية أو طائفية عن غيرها ، خاصة تلك التي تقف خلفها وتمارسها عصابات الجريمة المنظمة المحلية والإقليمية والدولية،بسبب ضعف سلطة الدولة والقانون. ثمة شتى أنواع الإجرام والمتاجرة بالعراقيين للاستحواذ على ثرواتهم وأغلب شواخص بنيتهم التحتية ، وخاصة آثارهم التاريخية. مؤخراً ذكرت الناطقة باسم “سلطة الآثار الإسرائيلية”: أن عشرات القطع الأثرية قد وصلت من العراق إلى إسرائيل ، وهي تعود لحقب تاريخية مختلفة . وأضافت: أن الآثار العراقية تباع في الأسواق الحرة، خاصة في إمارتي أبو ظبي ودبي، ومنهما تشحن إلى بعض الدول الأوربية، ثم تصل إلى إسرائيل. كما تم استغلال المراكز الحكومية، التي وزعت على أساس المحاصصة والتوافق السياسي ، لأغراض متداخلة منها حزبية و شخصية- نفعية، دون محاولة جادة لمتابعة لصوص المال العام، خاصة الذين ينتمون لكتل فاعلة في مصادر القرار السياسي العراقي المتعددة. كذلك يتم استغلال الواقع الاقتصادي المتردي لبعض الفئات الهامشية، من قبل مافيات وعصابات لها ارتباطات دولية مع دول الجوار الإقليمي العراقي – العربي والأجنبي، وتنشط هذه الجماعات بفعالية وهي تعي ضعف فاعلية الأجهزة التنفيذية في محاربة الممارسات الإجرامية والقائمين بها و المخططين لها ، ناهيك عن التواطؤ من قبل بعض المنتمين للأجهزة الأمنية ذاتها و الخوف من ردود الأفعال العنفية العشائرية لمنتسبي تلك العصابات. ولم يتم توثيق تلك الجرائم دولياً إلا من قبل بعض المنظمات الدولية التي كشفت في تقاريرها الموجزة،عن تهريب شتى أنواع المخدرات إلى العراق ،أو عبره ، لدول الخليج العربي، وكذلك واقع الأطفال المشردين، والأرامل، والمتاجرة بالأعضاء البشرية و النساء والفتيان كـ”رقيق ابيض”. أما ما يخص الحقوق والحريات الفردية فأن قوات (الاحتلال) في العراق وحتى بعد أن تحولت إلى “القوات متعددة الجنسيات”، فهي في مقدمة منتهكي الحريات الفردية وتجاوز الحقوق العامة، وما كُشف من فضائح في سجن “أبو غريب” وأماكن أخرى وممارسات متنوعة ذات طابع عنفي تجاه بعض المنشآت المدنية والعاملين فيها ، وهذه القوات نقضت من خلال سلوكها كل الاتفاقات بشأن حماية المدنيين في الحروب والنزاعات الدولية، وبقيت مستمرة في ذلك بموجب الأمر (17) لسنة 2004 الذي منحها حصانة ضد أي إجراء قانوني عراقي. أما ما يخص الحكومة العراقية ، فأنها تكاد تكون عاجزة عن إيقاف انتهاك الحقوق والحريات الفردية ، وثمة استمرار في حالة القتل خارج إطار القانون مع ملاحظة تزايدها، خاصة مع دخول (الكواتم) في استخدام هذه العمليات. ومن خلال ما تقدم ثمة من ينازع الدولة بصفتها ، حسب التعريف المعروف ، الجهة الوحيدة التي لها “الحق في استخدام القوة”. في وضع العراق ثمة أطراف مسلحة وأحزاب وجماعات عشائرية تملك حصتها في ممارسة “القوة” عبر توجهات تشرعن لها مشاركة الدولة ومنازعتها وحتى إزاحتها ، وقامت بعضها بالاعتقالات المترافقة بالمعاملة اللانسانية والتعذيب ، هذه الحالة سادت واستشرت قبل خطة فرض القانون، والتي لم تصل إلى نهايتها المأمولة. وتغلب على بعض هذه الجماعات توجهات وصفات” طائفية – راديكالية” وتحاول فرض منظوماتها وأنساقها الأيديولوجية على الآخرين وعلى الناس الالتزام بوصفاتها في الملبس ومنع سماع الموسيقى ومشاهدة السينما والمسرح و عدم سماع الغناء، ووصل الأمر حتى القيام بإلغاء مهرجان دولي، اعتمدته جهة حكومية ثقافية مركزية، وعدم التعامل بأقراص الـ (c d) وتفجير محلاتها وقتل الحلاقين والحلاقات، وحتى باعة (الثلج) في بعض الأماكن العراقية، في بلد تتجاوز درجة الحرارة فيه صيفاً ، الـ(45 )درجة مئوي. وتؤكد بعض التقارير الدولية الرسمية والمدنية ، أن واقع المرأة العراقية وموقعها في الدستور وصنع القرار ، يثير المخاوف التي تبرز لدى المنظمات النسوية والقوى العلمانية من بعض مواده المتسمة بـما يطلق عليه فقهاء الدساتير بــ”جدلية الخفاء والتجلي”. فيما يخص حقوق المرأة وحرياتها ، خاصة المادة (41) من الدستور، و سيؤدي هذا لتعطيل البناء المؤسساتي- المدني للدولة العراقية الحديثة و المأمولة، ونقل النساء العراقيات من حالة المواطنة إلى حالة المذهبية والطائفية ، والمادة 41 من الدستور تتناقض مع المادة 14 منه والتي تخص المساواة التامة للعراقيين إمام القانون. وثمة الكثير من التفجيرات ضد أماكن العبادة التابعة لكل المكونات العراقية ،مع اغتيال رجال الدين في كل الطوائف. ويلاحظ أن ثمة ملاحقات وقتل وتعذيب للمتظاهرين سلمياً في كل محافظات العراق وكذلك في كردستان، وثمة محاولات مستميتة من قبل الأجهزة التنفيذية الأمنية والعسكرية الرسمية لخلق حالات ومعوقات تهدف لمنع حريات التجمع والتظاهر السلميين ،المكفولة دستورياً وما شهدته (جمع ساحة التحرير) ، من اعتداءات قاسية قامت بها، ضد المتظاهرين، جماعات ، اغلبها تنحدر من الأوساط العشائرية، والتي تم تشكيلها،رسمياً قبل الانتخابات الأخيرة، على وفق مسميات عدة ، و من المؤكد أنها ستدير وبسهولة (ولائاتها ) لمن شكلها دون سند قانوني ، وتتجه نحو مَنْ سيمسك بالسلطة بعده، بحثاً عن (المغانم والمكارم). وقد شهدت ساحة التحرير ممارسات همجية متعددة ضد متظاهرين عزل يطالبون بالإصلاح، إذ استخدم ضدهم أقسى حالات القسوة ومنها الرصاص المطاطي والحي و خراطيم المياه وحتى الطائرات على علو منخفض، ومداهمات منازل الناشطين منهم والاعتقال العشوائي دون أمر قضائي والتعذيب..الخ . كما شهدت المحافظات العراقية كافة ذات الممارسات التعسفية والقاسية وبلغ الأمر حد (القتل)، وليس من الضروري التطرق لكل جرى ، لوضوحه ورسوخه في الذاكرة العراقية الندية والمعذبة جداً جراء ما حصل، ولم تتوقع الناس أبداً حصادها المر هذا، وهي تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد والمحاصصة والحريات المدنية، والمدهش في الأمر إن هذه المطالب هي جزء من البرنامج الحكومي المعلن. كما يتم محاولة سلب حالات الإضرابات، العمالية، وعدم السماح لتشكيل هيئات نقابية في بعض وزارات الدولة لا بل التنكيل بقادتها ونقلهم إلى أماكن بعيدة جداً عن مناطق سكنهم، كما حدث في بعض الوزارات والمؤسسات الرسمية. وثمة عودة لاغتيال الكفاءات العراقية من قبل “فرق الموت” المتجولة والهجمات المسلحة على مقرات وسائل الإعلام واختطاف الصحفيين والإعلاميين والكتاب ، وتعذيب بعضهم وقتلهم. ويلاحظ اختفاء سطوة الرقيب الذاتي، لدى الباحثين والمحللين السياسيين والمثقفين العراقيين عامة ،وكذلك أغلبية المواطنين العراقيين عقب سقوط النظام مباشرة، وعودتها ثانية كوسيلة دفاع عن سلامة الذات الإنسانية..لابد من التأكيد على أن ثمة ايجابيات في الواقع العراقي، فالعراق ليس نبتة غريبة في هذا الكوكب، فهو من البلدان التي تَعرضَ، عبر تاريخه إلى انتكاسات وهزائم وانتصارات ،وصوره متعددة متنوعة.وما جرى للعراق وفيه.. قد جرى.. فركائز الدولة المدنية العراقية ، قد انهارت، منذ14 تموز 1958، وأجهز على ما بقي منها، في 17 تموز1968،وتم محوها،تماما،على يد صدام حسين، لا بل حتى الخارطة الجغرافية المتوارثة للعراق، ، قد قضمت وتقلصت ، بسببه وفي زمنه. ومع ذلك فالعراق ، صوره غنية ومتنوعة، ثمة-: تاريخ يعتد به شعبه جداً ، وإصرار على وحدة ترابه ، من قبل أغلبيته الساحقة ، وهذا ليس حديثاً إنشائياً أو مجرد أمان شخصية، فثمة وقائع تبدو صغيرة ، لكنها في رمزيتها ودلالاتها وفي هذه الظروف، تعتبر كبيرة جداً ،وقد حدثت هنا وهناك، وهي معروفة، أكدت ما نقول ونكتب، وفيه عبر التاريخ والحاضر، تجانس و تعايش وتصاهر، لأعراقه ومكوناته ، ولغات و لهجات وأديان ، ومذاهب ، وفرق بين المذاهب ذاتها، وثقافات غنية متجددة.. وهو ينطوي على ثروات طائلة، هائلة، متعددة ، لو أحسن استغلالها لتحول العراق تحولاً هائلاً ، وانعكس هذا التحول على حياة العراقيين بوضوح ، وهذا ما يعمل كثيرون جداً في الداخل والخارج ، على إعاقته ، وفيه : مُخلصون مُهمشون، فاسدون و مُفسدون ، مخّتلسون و متَسترون، غادرون و مغدورون، مقتولون و قتلة مأجورون فرحون، و لصوص كبار محميون..الخ. ومع هذا وذاك، يبقى العراق وشعبه،وما يجري فيه ويخطط له، اكبر من كل تلك الصور.