18 ديسمبر، 2024 11:20 م

تجليات الواقع العراقي الراهن

تجليات الواقع العراقي الراهن

منذ 9 /نيسان / 2003 بات العراق وشعبه ومشهده اليومي ووقائع الحياة الجارية فيه في قلب العالم . ومهما نأت بقعة عراقية ما، فان ثمة مَنْ يسلط على ما يحدث فيها الضوء لأسباب عدة. منها ما هو ايجابي للفت النظر لغرض تحاشي مسبباتها دعماً لإقامة نظام سياسي ،اجتماعي ، إنساني عادل واعد، يتسم بشفافية الحياة المدنية وينأى بالعراقيين عن حاضر ملتبس دام، وماض قاسٍ ، عانوا خلاله العذابات والويلات طيلة عقود، ولم يتحصل لهم سوى اكراهات السلطات المتعاقبة وتعسفها المتزايد ، ولفت النظر هذا ليس لأجل العودة إلى الماضي أو اجتراره ، بل للوقوف عنده طويلاً ، وتأمل أسبابه ودوافعها وبحثها ضمن ظروفها ، ودراستها لغرض وضع الضمانات القانونية ، التي لا يمكن التجاوز عليها، عبر المؤسسات الراسخة ، وصلاحياتها المحددة دستورياً، كي لا يتكرر ذلك الماضي التعيس، بأي صورة ما وتحت أي مسمى كان، وكذلك – وهو الأهم -لاستشراف المستقبل وصناعته والعيش فيه، لان إعادة صياغة مستقبل الأوطان المُدمرة والشعوب المُنهكة والمُنتهَكة ، ليس نزهة أو رغبات خاصة تدخل في طور التمنيات الفردية الطيبة والمخلصة. بل هي (معركة ) اجتماعية شاقة وشائكة ومعقدة جداً، ولعل الأجيال التي تخوضها ، قد لا ترى بعض بشائرها، ولن تحصد ثمارها، بل هي تحاول وبشتى السبل،أن تضع الأسس الصحيحة لها و ترسم افقها بمتانة، للأجيال التي سترثها. ولغرض تمتين القيم الديمقراطية الناشئة في العراق ، دون تراث يعتد به، تعمل بعض المنظمات المدنية، والشخصيات الاجتماعية ذات التوجه الديمقراطي ، على وفق هامش الحياة المدينة المتاحة، وتهرؤ جدران العزلة السابقة، على معاينة المشهد العراقي، بكل تجلياته الأمنية والسياسية والاجتماعية. و رصد و دراسة المشهد العراقي، وحراكه الصاخب والقاسي والمرير، بعد سقوط النظام ،محفوف بمخاطر عدة، قسم منها يتعلق بموضوعة الرصد ذاتها والآخر يندرج بالتوصيف وحدوده ودراسته لغرض تحليله واستخلاص نتائجه ، والمخاطر التي تواجه عملية الرصد والتحليل ، في ظل مظاهر تكريس وتفعيل الاس�ني – الطائفي والمناطقي والعشائري. خاصة تلك التي أفرزتها انتخابات مجلس النواب السابق، بشكل أكثر وضوحاً وهيمنةً، مما أدى لكتابة (دستور) أثار ويثير كثيراً من الجدل حوله ، والظروف والعجالة التي كتب بها، على أمل أن يعاد النظر فيه خلال أربعة أشهر، من تاريخ انعقاد أول جلسة علنية لمجلس النواب السابق ، إلا إن اللجنة التي بدأت عملها على وفق النص الدستوري المُعلن، لم تنجح طوال أربع سنوات، خلال عمر مجلس النواب السابق، أن تحسم تلك التعديلات، ‎ويبدو أن مجلس النواب الحالي لم ولن يعالج هذه المسألة, الشائكة والمعقدة ،إذ لم يتم، من قبله ، تفعيل عمل اللجنة الدستورية المعنية في النظر بالتعديلات ومتابعة ما فعلته خلال السنوات السابقة ،حتى الآن ، وقد مضى أكثر من ست سنوات دون أن يلوح ذلك الأفق بالأمل ، ناهيك عن العمل!؟. والمثير في الأمر أن( صقور) كتابة الدستور يطالبون الآن بتعديله، لأنهم لم يتوقعوا أو يحسبوا أنهم سيغدون مصدر القرار في السلطة التنفيذية ، وسيقف (الدستور ذاته) عن تحقيق الكثير من طموحاتهم في السيطرة والتحكم والنفوذ غير المحدود. من المهم هو تعديل الدستور الحالي، بعدالة وشفافية وواقعية تأخذ في حساباتها طمأنة كل المكونات العراقية، مع الالتزام بها قانونياً، وهو سيكون المفتتح الأساس الذي سيبعد كل ما ينتج عن متاهات وإشكالات مستقبل عراق ما بعد 9 نيسان 2003. وكذلك انتخابات مجالس المحافظات ، السابقة واللاحقة، والتي استأثرت بالمنافع ، عبر تواطئات لا حد لها ، وهي معروفة للقاصي والداني و حديث الشارع العراقي دون أن تعبأ-المجالس- أو ما يطلق عليه بـ”الحكومات المحلية” والتي يتميز عملها، وبعض شخصياتها، بالكثير من الطعون ، التي لم تعد خافية على ابسط المراقبين . إن دراسة المشهد العراقي الراهن والقوى المتحكمة بالقرارات الرسمية فيه ، بحيادية وأمانة، تجعل تلك العملية شاقة إلى الحد الذي يضعها في دائرة الشكوك وسوء النوايا والتباسات المقاصد من قبل فئات وجماعات، منتفعة بالتحكم بالسلطة ومغرياتها ومنافعها ،وترى أن وضع الحقائق أمام الرأي العام يحط من توجهاتها ويقلل شرعيتها وسيعدم التفاف الناس حولها، إضافة إلى استغلالها للتوجهات و التحشدات الدينية – الطائفية. والمشقة والصعوبة في رصد المشهد العراقي تأتي من توفر عوامل عدة مؤثرة فيه منها: تواجد القوات الأجنبية، ،مع أن ثمة اتفاقية أمنية تحد من تحركاتها وتواجدها في داخل المدن، إلا أنها تعمد لبعض خروقات بنود تلك الاتفاقية ،أحياناً، بـحجة(الحفاظ على أمنها) أو إسناد القوات العراقية لوجستياً. وطبيعة السلطة وتوجهاتها السياسية ، وتعدد مرجعياتها ومكوناتها السياسية ، ذات التوجهات المتنافرة والمتقاطعة حد الاستعداء ، حتى بين الحلفاء في الكتلة الواحدة، وكثرة وتنوع الجماعات المسلحة،قبل التصدي عسكرياً لبعضها، من قبل الحكومة المركزية، في بعض المحافظات العراقية وبعض مناطق العاصمة. كل ذلك افرز ظواهر وحالات ملتبسة متداخلة ، بعضها لا تاريخ له في الواقع الاجتماعي العراقي وبعضها يُؤوّل لأسباب ودوافع سياسية واجتماعية معقدة ، وبالتالي فان أي توصيف أو عبارة أو تحليل سيعد في ضوء الاستقطابات تلك، قابلا للتأويل بصفته “تحيزاً” ضد طرف ما ، وسيقود إلى الاستنكار و ردود الأفعال،القاسية، غير المحسوبة . وإذا أخذنا محور (العنف) يُلاحظ التباين في التعريفات التي يقدمها المعنيون بعلم الاجتماع له ، ويمكن التمييز بين نوعين منه ، الأول العنف المجتمعي الذي يركز على أسباب عدة منها اجتماعي وثقافي واقتصادي . والثاني ما يسمى بـ “العنف السياسي” وفيه يتم اعتماد وتوظيف العنف لأغراض سياسية وهذا الأمر هو المعني بالرصد، حالياً، لان العنف المجتمعي لا يمكن دراسته آنياً في العراق إلا عبر أبحاث ودراسات تقوم بها مراكز متخصصة تستوجب مسوحات وإحصاءات وبيانات موثقة بدقة للوضع العراقي ، واستطلاعات للرأي العام فيه ، وتعمل عليها فرق بحثية متخصصة لا يمكن توفيرها حالياً أو على المستوى المنظور. يلاحظ أن العنف ومصادره وفواعله الظاهرة والجهات والأطراف المتحكمة به ، منذ سقوط النظام هي:أولاً- قوات التحالف- فمع تمكن قوات التحالف الدولي من النظام وإسقاطه بات العراق بلداً(محتلاً)، و تم شرعنة (الاحتلال) دولياً، عبر قرارات مجلس الأمن الدولي. لقد برز العديد من مظاهر العنف المتمثل بالعمليات العسكرية دون معرفة أعداد القتلى والجرحى والمفقودين من المدنيين والعسكريين ،حتى اللحظة، إذ لم تقم أي جهة ما بعملية إحصاء للضحايا خلال تلك الفترة ، إلا انه يمكن تخمين أعدادهم – بشكل تقريبي- قياسا إلى الوسائل والتقنيات العسكرية الفتاكة المتطورة المستخدمة في الحرب والإفراط في القوة مع الإسراف في استخدام المعدات والأسلحة ، بمختلف أنواعها، وانعدام التناسب بين الفعل ورد الفعل دون أدنى حرص على التفرقة بين الأهداف المدنية والعسكرية. وقد ساد سلوك القوات العسكرية الأجنبية عمليات عنف شديدة غير مبررة بقصد القتل بمجرد الشكوك ، دون محاولة التحقيق من الأهداف، وفي الغالب كان القتل نصيب الأبرياء المدنيين، وهذه القوات تعلن وتتصرف على إنها مخولة بـالرد السريع على أي تهديد تشك به ويصل الأمر حد (القتل العمد) ، مع توفر الحصانة لها على وفق قرار اتخذه الحاكم المدني (بول بريمر). ويمكن إضافة فرق (الحمايات الأمنية الخاصة) لذلك، وما حصل في مأساة شركة “بلاك ووتر ” بساحة النسور في بغداد يعد من أدل الشواهد على ذلك وأقربها للذاكرة العراقية. ثانياً- الجماعات المسلحة- وتوصيفها متشابك ومعقد لحد بعيد كونها متعددة النوايا والأهداف والاتجاهات ، ولا يمكن تصنيفها بدقة ، لكن هذه الجماعات تشترك في رفضها لما تطلق عليه بـ”الاحتلال”، وما تبعه من تحولات أساسية جذرية في بنية الدولة والمجتمع وترفض العملية السياسية الراهنة، وتعتمد لتحقق مشروعها في ((مقاومة)) المحتلين و((معاقبة)) كل من يشترك في العملية السياسية ، أو الذين يقبلون بسلطة الدولة الجديدة ويعملون في مؤسساتها المختلفة وخاصة القوات الأمنية-العسكرية ، والخطاب المعتمد والغالب لهذه الجماعات هو”الاسلاموي المتشدد” لإرهاب الأفراد و المجتمع و تنفيذ ما تراه “واجباً شرعياً” مستندة في ذلك إلى بعض )الفتاوى الدينية (التي تبيح القتل على ابسط الاختلافات الفقهية ، وفتاوى أخر تجيز وتبرر لها قتل الضحايا الذين يسقطوا عرضاً جراء عملياتها، العشوائية. و تائر العنف تسارعت وتغيرت طبيعتها بوضوح بعد تفجير مرقد (الإمامين العسكريين) وتركزت الهجمات على البعد الطائفي، ولوحظ تكاثر أعداد الجثث المجهولة ، خاصة في بغداد وبعض المحافظات ، من خلال استمرار عمليات الانتقام الثأري المتبادل بين جهات مجهولة ، أما أكثر أشكال العنف دموية ومأساوية ودماراً فهو السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية والتي تستهدف مراكز تجمعات المتطوعين للشرطة والجيش، وكذلك المناطق السكنية و في الأسواق والمطاعم ، وأماكن الزحام العامة، وحتى تجمعات بيع الطيور الأليفة!!. وتستهدف تلك العمليات العراقيين – دون ذنب أو آثام أو تمييز- في أماكن سكنهم وعملهم وتجمعاتهم، وهي مناطق رخوة لا يمكن بسهولة في ضؤ ضعف القدرة الاستخبارية لدى الجهات المختصة العمل على توفر الأمن فيها ، والضحايا في الغالب من العمال و الفقراء والمعوزين، تاركين عوائل بلا معيل ، وأجيالاً من الأرامل والأيتام والمشردين ، الذين لا يجدون دعماً من أية جهة ما، مما يهدد بكوارث كامنة في رحم المجتمع العراقي ولا يمكن إدراك نتائجها حالياً. ثالثاً- المليشيات: تعتبر “الميليشيا” بصفتها مجموعات مسلحة تابعة لأحزاب وقوى سياسية كان بعضها معارضاً للنظام سابقاً، وبعد سقوطه شاركت في العملية السياسية. وثمة (مليشيات) أخرى شكلتها مجموعات سياسية برزت بقوة بعد سقوط النظام . والقوى السياسية التي انخرطت في العملية السياسية عمدت وحرصت على تطوير “مليشياتها” المسلحة وصفتها الغالبة هو توظيف العنف للأغراض السياسية ذات الخلفية الحزبية و الطائفية ، واعتمادها ردود الأفعال من خلال القتل على الهوية والتهجير الطائفي المتبادل ، وهو أقسى حالات العنف الذي يهدف خلق مناطق معزولة خالية من النسيج الاجتماعي العراقي المتعدد. ومن حيث المبادئ العامة يمكن اعتبار الميليشيات الدينية و الطائفية والعرقية هي البنية التحتية للحروب الأهلية في أي بلد ما. وبالنسبة للعراق فإن ساحته مشرعة من خلال تدخلات وتأثيرات واسعة لدول الجوار العراقي- فعلية أو بالوكالة- وتعتبر الأرض العراقية الشاسعة عبارة عن أكداس منوعة لمختلف أنواع الأسلحة التي تُركت، في أماكن سرية ، منذ زمن النظام السابق، بعضها لم يمس، أو يستدل عليه بسهولة، وهي مليئة بأنواع الأسلحة الفتاكة الخطرة إضافة إلى ما يُهرب منها إلى العراق. إن توفر أنواع الأسلحة بسهولة ويسر للـ”الجماعات المسلحة والمليشيات” من الركائز الأساسية لاستمرار حالات العنف وتطوره.