23 ديسمبر، 2024 6:30 ص

تجليات التحليل النقدي الابداعي عند رنا صباح خليل

تجليات التحليل النقدي الابداعي عند رنا صباح خليل

يعد إسلوب التحليل النقدي للاعمال الإبداعية الروائية والقصصية ، للناقدة رنا صباح خليل ، من أروع الاعمال التحليلية ، واكثرها قدرة على إستمالة القراء والمتابعين للعمل الابداعي الثقافي والأدبي ، وهي تجمع بين التحليل الفني والنفسي بطريقة تجعل المتلقي يتلهف للدخول في تفاصيل هذا العمل الابداعي ، وربما تيسر عليه مهمة القراءة، ويكون قد أوصلت المتابع الى مبتغاه ودون عناء!!

الناقدة رنا صباح خليل واحدة ممن ولجن هذا الموضوع الحيوي والمهم، من خلال تحليل مضامين روايات نالت اهتماما كثيرا من القراء، ووجدت في روايات الكاتب والروائي والصحفي القدير الأستاذ أمجد توفيق مبتغاها، لتطل علينا بلغة تحليلية ساحرة ومبهجة ، وتنتقي مفردات وصور بلاغية وثيمات ومضامين تبدأ إنطلاقة انبهارها بها ، من عنوان العمل الروائي ، ومن ثم المقدمة والفصول المتتابعة، وهي تدخلك بإسلوبها النقدي الساحر المحبب ، وكأننا أمام ثراء فكري ونفسي وقيمي وفني كبير، تحيلك كل كلمة فيها الى دلالات متعددة ، لم يفكر حتى الروائي نفسه أن مقاصده ربما كانت وفقا للطريقة التي تعرض بها مضامين ودلالات العنوان وشخوص الرواية وترابط وتشابك فصولها ، وما تهدف اليه من مضامين غاية في التصوير الفني النقدي الابداعي، وتبدو وكأنها أمام راو من النوع المحترف، تريد تحويله الى ” بطل إسطوري” أطل علينا من روايات دخلت في مراحل الاساطير والرموز ، وهي تحتاج الى من يفك طلاسمها ، ويعرضها بإسلوب شيق، يسهل فهم مضامين الرواية وكيف تجري عملية تقسيم الادوار بين الشخوص!!

وتبدو الناقدة والكاتبة المبدعة رنا صباح خليل متخصصة في العمل النقدي الروائي القصصي ، بالرغم من أنها لم تنشر صورتها حتى الان، ليتعرف الاخرين على جوانب من شخصيتها، وترى كتاباتها تتعدد وتتوزع بين المواقع الاخبارية والمجلات الثقافية والأدبية ، وهي تتتاول هذا العمل الابداعي او ذاك، وتعطيه حقه من الاهتمام!!

من روائع ما يمكن أن يدخل في الجانب التحليلي لتلك الناقدة ، انها تختار كلماتها ، وتبدو حروفها تتراقص أمامك ، وتسير في إنسجام وتسابق مع الزمن، في القدرة على التعبير عما تطرحه من تفسيرات وتحليلات ، ياخذ الجانب النفسي الكثير من مضامينها، وان لم تتخل عن تجليات العمل الفني القصصي والروائي ومتطلباته، لكنها ، تبدو أمام المتلقي وكأنها تنحت كلماتها من بين الصخور، وتغوص في أعماق البحر وتستخرج منه لآليء ودرر، ثم تستقل مركبا فضائيا لتطير الى اعماق الفضاء ، ومن ثم تستطلع كنوز الماورائيات ، وهي تغلف سطورها التحليلية بما إستطاعت اختراقه من عمق اللغة وجزالة المعنى وبساطة المضمون ، وهي المتمكنة من نفسها ومن ادواتها، وتظهر بين السطور التي تغترف من معانيها الكثير أنك أمام ناقدة ليست سهلة، وقد توغلت كثيرا في عمق المعاني وغزارة الألفاظ ، وكأنها تضعك امام ” سبيكة ذهبية ” هي من وضعتها على النار ، ومن ثم إستطاعت ترويضها لتتخذ أشكالا فنية مبهرة، حتى تبدو الكلمة أمامك وهي تتزين بجماليتها وعطرها الفواح ، وتبدو وكأنها رشيقة القوام، مثل غزال سحر ناظريه، وهو يسبر أغوار الصحراء بحثا عن بقايا عشب أو ماء يروي ظمأه ، وهو يرى الاخطار تحيط به من كل حدب وصوب، والفرسان يتحينون الفرص للإيقاع به، أو كحديقة غناء احاطت به الاشجار المثمرة من كل جانب، وكأنك في إحدى جنات عدن!!

ويبدو إنبهارها بمضامين رواية “الساخر العظيم” للكاتب أمجد توفيق حد الوله بالاسلوب الساخر الذي طبع إسلوب الرواية على مدى صفحاتها التي تجاوزت الستمائة وستين صفحة فتقول : ” ماالذي يفعله فينا الساخر العظيم! حين لا يتركنا بسلام ونحن نجابه لعنة البوح بلا حواجز ، اجد صدى قهقهاته رنين طبل في مأتم، وهو ينظرني انا التي لا اعرف كيف اقارع وحش رتابة ايامي بسطورها السليطة علي ، ولا اجيد اختراع ضوئي الخاص كي ابدد شرارات الكآبة في عالمي، فالساخر العظيم يترصدني ويستخف بي ويزجني في حرائق ضحكاته الهستيرية التي تطيل فيّ أزمنة هواء فاسد .. أزمنة صفراء لا اتمكن فيها من اقتناص سنيني أو حتى ابتكار مساءات متأهبة لصناعة النهار بملامحي، كي ارتشف فيه كوبا لأفكاري ونواياي، اذ لا يبيحها الساخر العظيم فجميعها ليست من طقوسه وتعاليمه وهو المعلم الوسيم حدّ القبح .. هو يريدني دوما ان اصيب اليقين بقلبه، وأمارس الوجع بلفه بخرقة، لكنه لا يعلم اني مصابة باقتراف الاحلام خلسة وعلانية وهو لا يعلم ان لي سياطا تنادي في جلبة الروح ان العذاب خير من الغفلة والغرق ارحم من الطوفان دون مجداف والطمأنينة بالنسبة لي منفية .. اصرخ في وجهه ايها الساخر العظيم.. ”

ما يثير الارتياح والاعجاب الكبيرين ، لدى تلك الناقدة انها تستخرج كلماتها من خزينها المعرفي المتدفق غزارة في اللفظ والمعنى ، وتجمع بين الجناس والطباق وتبحث عن صور البلاغة اللغوية بين السطور ودلالات الرموز وتعبيرات شخوص الرواية وابطالها أو بطلها الرئيس ، لتحلل تفكير ورؤى كل واحد منهم ، وهي تدخل في اعماق الراوي وكانها تريد أن تكون ربما (بديلا) عنه، أو تتفوق عليه في اختيار الرموز والمصطلحات ، وتجعلك تشعر أنها تدخلك قصور السلطة وأبراجها العاجية ، وتستشف عبير ووهج كلماتها المبهرة والمتعمقة في دلالات النص ومضامينه..وكانت روايات الكاتب أمجد توفيق وبخاصة روايتي ” الساخر العظيم ” و “طفولة جبل ” وكانهما لغة حب غاصت في الوجدان وتعمقت بين ثناياه ، وتتركك تتابع كل كلمة وسطر وثيمة تقف عندها ، وتطمع بالمزيد مما تفيض عليك من مخزونها الفكري والابداعي والقيمي والفني، وكانها هي” الراوية الأكبر ” ليس رغبة في اعلان طغيانها ودكتاتوريتها وقدرتها الفريدة على تشخيص دلالات الرمزية الموغلة في تقبل التفسيرات المختلفة، ولكن لتضعك في صورة ان العمل الابداعي عندما يرتقي الى تلك المنازل ، فانه يحتاج الى لغة ورموز وحروف تتلاعب بمفرادتها ، حتى يكون العمل السردي قد اكتمل نضجه ، وحان وقت قطاف ثمار إبداعه!!

وهنا سأعرض نموذج من تحليلها الفني والنفسي لرواية طفولة جبل فتقول :”اما فذلكة السارد فتتجسد لنا في اثبات الفكرة الشائعة لدى الطرح الاسلامي عن طريق رضوخ بارق وتقبله لممارسات مريم الجنسية معه على اعتبار إن المرأة هي صاحبة الغواية الاولى التي تسببت في النزول من الجنة، وكأنه يريد أن يطلق العنان لحواسه كي تكتشف وتفهم السر وتحلل النتائج وهذا لم يأتي صراحة في النص إنما نستشعره عندما نتشرب طريقة عرضه من لدن الروائي ودوال ومؤشرات الجمال الذي يكتنف صوغ الفعل في الممارسة الجنسية التي تبتدأ باستعارات تناغي المسافة ما بين غصنين يتسرب من خلالها ضوء الشمس لينعكس على ثدي مريم وجزء من ساقها وشعرها وهي نائمة في الكوخ الذي يسكنه بارق”!!

ربما كان الروائي والكاتب أمجد توفيق محظوظا ، لان ناقدة بهذا المستوى المتألق ، رهنت نفسها، لأن تغوص بعيدا في اعماق رواياته، وتجد فيها ضالتها ، في إضفاء كل تلك الهالة السحرية بدءا من عناوين روايته التي يختارها بعناية وحتى فصول الرواية وتناسق شخوصها وادوارهم المميزة والتي تمثل كل منها حالة إبداعية متقدمة في الوعي الفني والتحليل النفسي الذي أجادت تغطية نظرياته السلوكية وكانها عالم نفسي قبل ان تكون ناقدة فنية، ويمكن ان نمنح المتتبع بعض ما جرى اختياره من مضامين مقالها السردي للتدلال الى ما اشرنا اليه من رموز ودلالات معرفية وسلوكية غاية في الاهمية..” عند تَلَقينا لرواية (طفولة جبل) للروائي أمجد توفيق كانت أولى غوايات القراءة لدينا متمثلة بعنوان الرواية فهو البوابة التي تمنح قارئها ترحيب الدخول لكشف المخبوء وسبر أغواره، وعلى حد قول رولان بارت” إن العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميائية تحمل في طياتها قيما اخلاقية واجتماعية وايديولوجية وهي رسائل مسكوكة مضمنة بعلامات دالة مشبعة برؤية العالم يغلب عليها الطابع الأيحائي “)”!!

ثم تستعرض لنا تلك الناقدة الانيقة الرشيقة الكلمات جمالية مضمون رواية “طفولة جبل” والعنوان ومدلولاته وكيف يتحول الى العنوان ” طفولة جبل ” الى دلالات تلك الثيمة ومغزاها الفلسفي الرومانتيكي البعيد حيث تقول ” والراوي يساؤلنا كيف يفكر الجبل؟ وما الذي يمنحه الانتماء؟ وتلك تساؤلات تضفي على النص مسحة من التأمل والانبهار إن تماهينا مع فلسفتها وطريقة الكاتب في طرحها بأسلوب رومانتيكي فلسفي ففي صفحة 13 من الرواية” صخرة صغيرة .. صخرة كبيرة.. صخرة عملاقة .. هي أحاسيس الطفل في توحده مع شقيقه الجبل .. كيف تتفتق الصخور؟ قطرات من ندى تفتت الصخرة من العمق الى العمق.. هل يعني ذلك افتقاد الصلابة أو التماسك؟ انه لا يعني غير الاحتفال.. غير القدرة على الحب،..” ومن ثم قام الروائي بتقليد الجبل مقاليد الراوي المشارك للراوي العليم، وذلك ندركه عندما نكمل قراءتنا لرحلة الروي، واظن إن تلك طريقته فقد جعل من الزمن في روايته (الساخر العظيم) أحد الشخوص البارزين الذين كانوا يشاركون الروي ويدلون بآراءهم واحكامهم”.

إنها سطور اردنا أن نعرف بها هذا الوله الابداعي بمضامين روايات عشقتها، الناقدة رنا صباح خليل ، وخصصت لها جزءا كبيرا من اهتمامها ، لانها تدرك في قرارة نفسها نفسها ، أنها بإنغماسها في هذا العمل الفني الابداعي الكبير فأنها تقدم للقاريء غذاء روحيا وفكريا وفلسفيا ومعرفيا ، يشوقه لقراءة المزيد، وان توصل الى المتلقي فكرة أن عملا روائيا كبيرا بهذا المستوى من الحبكة الروائية يستحق أن يدخل مرحلة الخلود في العمل الابداعي، وهي تشجع من يغوص في أعماق تلك الروايات ويسبر أغوارها أن يعطيها حقها من الاهتمام!!