حينما يولد الشعر من رحم المعاناة فلابد ان نتيقن انه صادق اللهجة ، ملخص لقضيته ، بعيد عن التصنع .
والقارئ لمجموعة ــ ودعني كي القاك ــ للأديب الشاعر عودة ضاحي التميمي يلاحظ بسهولة مصداق ما قلناه ، فقصائد المجموعة المذكورة بحسب ما يصفها الشاعر ولدت من رحم الوضع السياسي الذي مر بالعراق في السنوات1990ــ2010 فهي صرخات الم نزفت في هذه السنوات لتؤرخ بالكلمة الشاعرة لحقبة امتدت نصف قرن تقريبا .
فليس غريبا ان يجد القارئ في هذه المجموعة ما يصلح ان يكون وثائق تشهد على تقدم الهامش ليحل محل المتن في زمن تخندقت فيه الجروح واستدرج الناي فيه عشاقه , اذ ان الشاعر لا يصور تلك السنوات بأنها سنوات انكسار بل هي عنده تمثل محطات تحدي لا تخلو من نشوة الامل المرتقب في الخلاص ، لذلك لم يكن الهامش لينام على قارعة النسيان فقد كان عطرا ، وموضوعا تستلهمه الباسقات من النخيل لتقوي عزيمتها , فالهامش عند عودة ضاحي
كان طائرا اسطوريا
بعينين يا قوتيتين
وقامة … عجب
تحلق الفراشات حوله
لتعصر العنب
وبذلك يحاول الشاعر تخطي الضنك المطبق من خلال زرع الامل في كلماته ، فالهامش بيرق كربلائي لا ينتكس ليظل يحاور الرؤيا ليتقدم كالفاتحين .
وعودة ضاحي حينما يعود ليقلَب ذاكرته لا يجد فيها سوى عطر القصيدة غادرته منذ زمن :
لم يبق في ذاكرة المكان
الا ظل امرأة تلفعت بالسواد
وتركت جدائلها تزين الجدار
ومهما يكن من امر فإن الشاعر وعلى الرغم من خواء ذاكرته جراء العتمة التي اطبقت عليها طويلا لكنه يحتفظ ببصيص امل لإشراقة جديدة , وعلى الرغم مما عاناه شخصيا في السنوات العجاف الذي ارهقته كثيرا لكنه مع ذلك يجد ان ما تبقى في ذاكرته يمثل شباباً قد يعود يوما للحياة رغم الانزواء :
والشباب
أودع زهراته الملاجئ
والسواتر والمحاجر
والرصاص
حتى توحلت ملامحه
ويمكن للقارئ ان يضع اليد على تمظهرات التفاؤل من خلف السطور والكلمات ، فالحزن عند شاعرنا ــ مثلا ــ حزن مبجل ليجعله طابعا لمعشوقته ــ كربلاء ــ التي يقول فيها:
تفل ضفائرها
وتعيش طقوس ترملها
ليلا … تتوهج فيه
تكايا الفسحة والجمهور
ويطوف الهودج
في الاسواق المسقوفة
يبعث دفئاً
للمنتظرين
والمتأمل في قصائد المجموعة يجد ان خلف الحزن الذي يصفه الشاعر ثمة فسحة من الابتهاج , فلا بد من ان يكون هناك صباح يشرق من بين نزيف الهامات ولابد لسيدة الحزن المبجل ان تعانق نهراً يزحف مشتاقا ليلقم جوع الرمل .
وفي قصيدة ــ سقوط اسنان المشط ــ قد يجد القارئ نفسه وجها لوجه امام الواقع المعرَى تماما ، امام نزيف التاريخ :
قابيل
يتنكب حقداً
يتطوع في جيش الردة
وكلاب الحوأب
تستعرض عري المذبوحين
فالشاعر ــ في قصيدته هذه وفي قصائد اخرى يحاول ان يضع القارئ امام المشهد الثأري اللا مبرر لعدد من تمفصلات التاريخ بغية الكشف عن زيف طالما صدقناه على انه حقائق مسلمة لكن الشاعر في الوقت ذاته يعلن استهجانه لتلك الوثبات العشوائية , يقول عودة ضاحي في قصيدته (اغنية الحب) :
مذ حاصرني الطوفان الاهوج
صرت نازع مكتوفا … تتقاذفني الامواج .. الحيتان
اغادر مملكتي
تسقط تيجاني … تتلاشى اجزائي
اغرق
اغرق
اغرق
لكن لساني لن يغرق
ومن خلال قصائده المجموعة نجد ان شاعرنا على الرغم من تبرمه من العثرات التي وقف امام سبيله يحاول ان يجد متنفسا للظفر بخيط امل ليحلم من خلاله بحرية فريدة قد تسمو على وجوده المغترب , لذلك يخاطب الشاعر وطنه على الرغم من انه قد يبدو في سنوات العتمة قد تنكر له واشاح بوجهه عنه:
الى وطني المكبل بالحنين
اراك في الحارات المتصاهرة
والشوارع القديمة
ذكرى نبي… يترنم فيه العشاق (63ص)
وقد نجد في قصائد (ودعني كي القاك ) إغراءا بمتابعة ما سنّه عودة التميمي لنفسه من طرائق في القول الشعري من خلال التنوع الذكي في الموسيقى الشعرية الواضحة التي تغلف جمله الشعرية ، ومن خلال ما درج عليه من مناوشة الارث الثقافي المحلي , فقد تطربنا عدد من القصائد بموسيقاها الآخاذة التي من المحتمل ان يكون الشاعر واعيا تمام الوعي لأهميتها في تجسيد غرضه الشعري , يقول الشاعر في قصيدته : ( القصيدة )
وحين يطوف الضوء
بعينيها
تتربص بي
تتهجاني
وتهاجمني
تقتحم الصمت
كطبل
زنجي … اهوج
ولابد من القول اخيرا ان عودة ضاحي اديب متعدد الجوانب يروق له ن يجوس ارض الادب من خلال اللغة الفصحى والمحكية على السواء ، فهو صانع اساطير شعرية قد تتمرد على التخندق بلهجة واحدة ….