لا يمكن وصف ما يجري في العراق من أزاله وهدم واهمال لنصبه وتماثيل ساحاته ومآذنه واشجاره العديدة قديمها وحديثها منذ الغزو واستلام حكومة الخضراء الحكم في العراق الا بالتدمير الممنهج. بعد أيام من الهدم المتعمد مع سبق الإصرار لمئذنة السراجي التي يعود بنائها الى عام 1727 م والتي أثارت وبحق ضجة واستهجان واسعيين ،يغضب العراقيون من جديد اليوم من رؤية أشجار احيائهم التاريخية القديمة تقطع بشكل واسع في مناطق جميلة مثل الكرادة واليرموك، اذ استيقظوا على اختفاء أشجار تعود زراعتها واعمارها الى نشأة وبناء احيائهم وذلك دون ان يكون هناك سبب او مبرر “ظاهر” لهذه الإجراءات المستفزة خاصة ان العاصمة بحاجة اكثر واكثر الى زيادة المناطق الخضراء والمشجرة بشكل اكبر لمساهمتها في تخفيف حرارة المدينة وللميزة الجمالية والحضارية لاي مدينة مع الزيادة السكانية المتسارعة وليس الزحف عليها وتدميرها والقضاء على وجودها.
ان قضية هدم مئذنة جامع السراجي في البصرة تكشف تشابه عمل المحافظة الاطارية في المدينة مع أساليب حكومة المنطقة الخضراء واحزابها التي ضربت بتعهداتها التي عقدتها لتسهيل تشكيل الحكومة مع الأطراف الأخرى عرض الحائط لتكون اللاعب الوحيد في الساحة بدون منازع. لقد اظهر المحافظ انه حاكم البصرة ورجلها الأول وهو من أمر بهدم الجامع وان القاء التهم والمسؤولية على الوقف لا تصمد امام حضوره الشخصي للهدم في حين كان بإمكانه ان يمنع الامر! ان بعض ممثلي الوقف السني يعملون في خدمة المحافظ ودافعوا عن قراره زورا رغم ان تصريحاته في المؤتمر الذي عقده معهم وبالمباشر من القنوات الإعلامية واضحة جدا بتناقضاتها وبروز حقيقية انه قد حنث بوعده وانه يتملص من مسؤوليته في هدم المئذنة واتفاقه مع الوقف على الطلب من الشركات التركية المتخصصة بهذا الميدان تقطيع المئذنة وإعادة نصبها في مكان آخر. لكن وبدل من ان يتحمل المسؤول قراره بهدم المئذنة في الليل وحضوره شخصيا متفاخرا بالإنجاز الذي يقوم به امام الكاميرات التلفزيونية، القى المسؤولية في المؤتمر الصحفي بالكامل على الوقف السني وموظفيه متناسيا اتفاقه معهم! كيف لمن يدعي ان مسؤولية الهدم تقع على الوقف السني ويحضر شخصيا اعمال الهدم ويستدعي القنوات التلفزيونية لتصوير ذلك؟ والاغرب ان المسؤول الحكومي عمد الى تحشيد الاعلام للكلام عن صواب قراره في تهديم مئذنة السراجي لإنها تسبب ازدحام في نقطة من نقاط الشارع الذي تقع فيه علما ان المنطقة المسببة للزحام البسيط هي مساحة قليلة جدا لا تتعدى بضعة أمتار، والتقت قناة المربد باتباع له يشيدون “بعمله هذا وبمشاريعه” للمدينة على عكس مواطني البصرة الذين يتظاهرون منذ اكثر من عقد يتكلمون عن تجاوزات كثيرة وعقبات في أماكن أخرى يغض عنها المحافظ الطرف بسبب علاقاته مع أصحابها ناهيك عن سوء الخدمات في المدينة بالأخص تحول المدينة الى مزبلة كما في بغداد ويشتكون من شحة وتلوث الماء وانقطاع الكهرباء الازلي والبطالة الواسعة وتشغيل العمالة الأجنبية بدل العراقيين وكفاءاتهم وانتشار المخدرات وغرق المدينة، ميناء العراق الوحيد بالفساد المستشري على ارض العراق!
ان هدم مئذنة السراجي يأتي في سلسلة من إزالة مآذن تاريخية وتماثيل ونصب مثل مئذنة المأمون التي بنيت عام 1957 وهي ليست بقدم السراجي لكنها هدمت وبنيت قبل عدة سنوات بحجة توسعة الجامع وشيدت مكانها اربع منارات من الاسمنت بطراز غريب لا علاقة له بالطراز البغدادي ولا بجمالية المئذنة السابقة؛ ولا تزال ملوية سامراء التي دمرت منها اجزائها العليا مهملة تنتظر الترميم دون نتيجة وبين الحين والآخر تخرج دعوات لهدمها وازالتها بحجة ان من بناها يكره ال البيت “الذي يحبه كثيرا أصحاب العملية السياسية” ، ويتأسى العراقيون على اهمال جامع مرجان احد اجمل جوامع بغداد القديمة الذي اصبح مكبا للقمامة ترتع باحاته بالماء الآسن والنفايات مثله مثل كثير من التماثيل كتمثال معروف الرصافي والسياب في البصرة، اما تمثال المتنبي للفنان محمد غني حكمت فقد ازيل وفجٌر تمثال أبو جعفر المنصور وتم تخريب نصب وتماثيل أخرى وتركها دون اهتمام ولا ترميم مثل تمثال كهرمانة ومتحف القوة الجوية ونصب الجندي المجهول ونصب الحرية وتمثال الواثق ونصب ثورة العشرين وتمثال الأم والعقداء الأربعة في ساحة الطيران ونصب اللقاء في المنصور وتمثال محسن السعدون في شارع السعدون. ربما يكون مفهوما ان يزيل حكم جديد نصٌبه الاحتلال الأمريكي بعض معالم نظام يعاديه سابقا لكن ما يحصل في العراق ليس مجرد إزالة معالم نظام سابق بل هو تجريف منظم لتاريخ العراق وارثه الحضاري ولذاكرة اهله الجماعية ولسكانه. وما التهجير الذي اعقب الغزو ومنع عودة المهجرين الى مناطقهم ورفض تشريع قانون العفو العام من الأحزاب الولائية ليومنا هذا واخلاء كثير من المدن والقرى من أهلها واحلال الاف المجنسين من ايران وباكستان وأفغانستان يدينون بالولائية لتثبيت ديمغرافية في مدن معينة أصبحت اشبه بالقواعد العسكرية للحرس الإيراني يجد فيها العراقي نفسه غريبا الا اكبر دليل على ما يحصل. وبينما يٌشغل الناس بما يسمى بأزمة ارتفاع سعر الدولار واخباره اليومية يمضي الاحتلال الإيراني في مشروعه بالسيطرة على ما فوق الأرض العراقية التي يعتبرها منطقة نفوذه بالكامل -حصل عليها من المحتل الأمريكي لقاء خدماته في غزو العراق -وتعزيز وجوده في كل مكان وتكوين كوادر جامعية تابعة له عبر الآف المنح الدراسية من الخضراء التي وبحسب تغريدة لشخصية اسمها “وزير عراقي” نقلا عن المستشار الثقافي الإيراني فأن حكومة محمد شياع السوداني ارسلت سبعة عشر ألف طالب عراقي يدرسون الفارسية في جامعات ومعاهد ايران وارسلت أربعة الآف طالب يدرسون الادب الفارسي وثلاثة الآف يدرسون التاريخ الفارسي وان مجموع من يدرس من الطلاب العراقيين في إيران يصل الى سبع وخمسين ألف طالب.
ان العراق ليس ملك شخص ولا حزب ولا طريقة او اتباع رأي ليحددوا ويفرضوا كيف يكون العراق والى من يتبع ويغير جلده ليلبس جلد غيره. لقد نهض من قلب الأماكن الدينية التي تهيمن عليها الولائية شباب عازم على انتزاع وطنه من براثن الاحتلال الأمريكي الإيراني واعادته لشعبه واغتيل العشرات منهم لأنهم واجهوا قناصي المليشيات الولائية ونضيرتها في الحرس الإيراني بصدور مفتوحة رافعين راية العراق وهم يصرخون بأعلى أصواتهم نريد وطن. لم يكن هؤلاء الشباب جوكريه ولا أبناء للسفارات كما صرح السفير الإيراني قبل أيام بل ان أعداء العراق ومن وصفهم بهذه النعوت هم من أتت بهم دول بعض السفارات ومن يعمل اليوم وبحماس من اجل تسييد الاحتلال الإيراني ويسير بوصايا ايلينا رومانسكي سفيرة الولايات المتحدة لمحو العراق العربي الذي نظٌر له المحافظون الجدد مهندسو غزو العراق بالتعاون مع إدارة بوش والمجمع الصناعي العسكري وبنوك الفدرال الامريكي.
التجريف، حرب وغزو ولم يذكر لنا التاريخ ان شعبا خضع لاحتلال وظلم دون ان يقاوم وينهض من اجل تحرره وحريته، ان صفحات التاريخ مليئة بأحداث محاربة الغزاة والمحتلين سواء في العراق او فلسطين او الجزائر ومصر وليبيا وفي اوربا نهضت الشعوب تقاوم وتحارب الاحتلال النازي والعنصرية الى حين دحره وتخليص اوربا منه. اعطى شباب تشرين عام 2019 للعالم ولكل واحد فينا درسا انسانيا كبيرا هو اننا نريد استرجاع وطننا وهو مطلب كل الشعب العراقي مهما توسعت وتجذرت وكبرت خطط المحتل فهو مرفوض ويسير ضد قانون الحياة والطبيعة.