23 ديسمبر، 2024 4:49 ص

تجربتي مع كورونا- مقال ذاتي لا يخلو من فلسفة

تجربتي مع كورونا- مقال ذاتي لا يخلو من فلسفة

جئنا الى الحياة عن طريق الصدفة، الصدفة فحسب، فهي التي اختارتنا، ولم نختر الحياة بمحض ارادتنا، حيث جئنا للحياة، وأننا فاقدي الارادة. ولم يكن، ايضًا، الاب والام هما اللذان اختارا هذا المجيء المخصوص بنا، بل ولم يفكرا بنا في لحظة من اللحظات. الصدفة هي وحدها التي اختارت ذلك، بمحض ارادتها. الاب ينط على الام في عملية بايدلوجية معروفة، هي سنّة الحياة، كما يحلو للبعض أن يفسرها، أي تفسيرا وجوديًا؛ فنحن ولُدنا كتحصيل حاصل لتك العملية التكاثرية، وحتى الشكل والرسم الهندسي لتقاسيم اجسادنا وملامحنا، هي الصدفة التي حددت ذلك سلفًا؛ وعينت ذلك مع سبق الاصرار. اما اختيار الاسم والمعتقد والاتجاه الديني فهو الذي اختاره الاب والام معًا، وشارك فيه المجتمع والمدرسة ورجل الدين، وسرنا على نهج ذلك الاختيار طائعين مسيرين، نستلم الاوامر عن طوع خاطر، وليس ثمة اختيار لنا.

ومنه، يحلو لبعض المفكرين والفلاسفة، ومنهم البير كامو، أن يحكم على الحياة بأنها “عبثية” حيث لم يكن لنا نحن البشر ثمة اختيار(سلبي أو ايجابي)، او اخذ وجهتنا قبل أن نحل كضيوف في ربوع هذه الحياة، إذ ربما أن نرفض هذا الوجود أو الحضور مجبرين، لا سيما إذا عُرضت لنا صورة فوتوغرافية رُسم فيها لنا ملامح مصيرنا ومستقبلنا، ودورنا في الحياة التي من المؤمل أن نعيشها، بحلوها ومرها، بأفراحها واتراحها، وعلى المنغصات التي ستكتنفها، وعلى مجريات الحياة التي سنعيشها ونتحمل مصائبها ومراتها، فلربما قد نرفض أو ربما قد نوافق، لا ندري.

تواجه حياتنا الكثير من التحديات، التي تدفع بالاتجاه المغاير لمجريات هذه الحياة، واقصد بالمغاير هي المنغصات والمشاكل الاخرى التي تكتنف الحياة نفسها، وتجعل من هذه الحياة صعوبة ومسوغات غير لائقة بعيشها، من حيث المرارة والالم والتحدي؛ ومنها الامراض المختلفة، والمصير المجهول الذي تخلفه تلك الامراض التي تفتك بالجسد الانساني الضعيف، ضعيف قياسًا الى شدة تلك التحديات وافتراسها لذلك الجسد، الذي قليلا ما يصمد امام شدة وبطش تلك الامراض المختلفة، والفايروسات التي هي بالآلاف وربما بالملايين، وهذه الفايروسات معظمها لا يرى بالعين المجردة، بل يرى من خلال مكبرات خاصة، تكبّر حجم الفايروس ملايين المرات. وكل تلك الفايروسات هي عدو لدود للإنسان، تشن عليه حروب ضروس خفية لا تظهر له ولا يعلمها الا بعد أن تبان علاماتها، وذلك من خلال الفتك الظاهر على ملامح ومحيا الانسان، وظهور تغيير واضح على شكله الداخلي وشكله الخارجي، ويبان الهزال والضعف، وتدني الحالة الصحية للإنسان، حين ذاك يتبين أن الانسان ها قد وقع فريسة سهلة لتلك الامراض والفايروسات الخطيرة، كالسرطانات والامراض الاخرى المستعصية المميتة.

وكما قلنا سلفًا، وحدننا بعض هذه الامراض والتحديات الاخرى للإنسان، من فايروسات وغيرها من تلك المخاطر الجسيمة، التي هدفها القضاء على الانسان من خلال شن حروب معلنة واخرى غير معلنة، وبالتالي ستقضي على الانسان شاء ذلك أم رفض. كفايروس كورونا، هذا الفايروس اللعين الخبيث، الذي ظهر قبل اكثر من عام وانتشر في كل بقاع العالم، حتى حصد ملايين من الناس، وخصوصًا كبار السن من الذين يعانون من بعض المشاكل الصحية.

وعلى اعتباري أحد الاشخاص الذين وقعت فريسة سهلة بفم هذا الفايروس، وكاد أن ينهي حياتي ويقضي علي بلمحة بصر، لولا التفاتة ربانية أو محض صدفة أو غير ذلك، لكنت من الغابرين المُودعين للحياة وانا الى ساعتي هذه لم افقه شيء عن الحياة، حالي حال ملايين الناس من فلاسفة ومفكرين وعلماء، وحتى أناس بسطاء، لأن الحياة هي نفسها لغز محيّر غير واضحة المعالم، ولم تفصح عن اهدافها وعن غايتها وعن مكنونها البتة.

المهم، الالم الذي ذقته وتجرعت مرارته، وعايشته بنفسي عن كثب، لا يمكن أن اصفه بالدقة الصحيحة المطلوبة، لأن ذلك في الصعوبة بمكان، وهو تجربة شخصية خاصة، لا يدرك مداها الا من محض ذلك الالم محضًا، وذاق تلك المعاناة الفتاكة بلسان الواقع الذي رسمته له تلك الصدفة التي جاءت بذلك الفايروس وجعلته أن يدخل ذلك الجسد النحيل حتى صار يعبث به كيف ما يحلو له أن يعبث، من دون اعترض او حتى رفض، وانّى للإنسان الضعيف أن يعترض على فايروس بحجم كورونا الذي حيّر العالم برمته حتى عجز الجميع عن ايقافه أو القضاء عليه. وانا اكتب هذه السطور وثمة آلاف من الناس واقعة تحت رحمته، وتعاني من آلامه ومن عذابه.

لا توجد ثمة كلمات ومفردات ادبية او فلسفية يمكن لي من خلالها أن اوصف مرارة الالم وشدته، بحيث توصل كما هي وتدرك غايتها، الا الذي وقع تحت طائل ذلك الفايروس، وخضع لأوامره، فهو وحده من يشاركني الالم، ويدرك مدى المحنة التي مرّت بي كتجربة مريرة صعبة الهضم، حيث ساعتها تمنيت الموت كي اتخلص من تلك الطعنات التي تشبه طعنات الخناجر لجسد ضعيف نحيل، ولروح لم تتعود الآلام.

قبل زيارته غير المرحّب بها لي، أي اللعين كورونا، بثلاثة اشهر كنت قد قررت أن اعيد قراءة اعمال دوستويفسكي البالغة ثمانية عشر مجلدًا، وقد قرأت اقل من نصفها قبل أن اصيب بهذا الفايروس.. وانا على فراش الالم اقاسي العذاب، كان دوستويفسكي هو الضيف الوحيد المرحب به، اذ لم يبرح مخيلتي بل كانت صورته بذقنه الطويل الابيض قبالتي، وانا انظر الى تلك المجلدات البنية اللون، وكأنني أحد الشخصيات التي كتب عنها هذا الروائي الكبير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: كشخصية فيلتشانينوف في “الزوج الابدي” او شخصية ناستينكا في “الليالي البيضاء” أو شخصية “براسكوفيا” الفتاة الطيبة الجميلة في “المقامر” او حتى شخصية الامير موزغلياكوف، في رواية “حُلم العم” والذي اردت ماريا الكسندروفنا، ان تنصب عليه كي تزوجه بابنتها الفتاة الجميلة بهدف أن تستولي على املاكه ومقتنياته، لأن رجل قد تجاوز الستين عامًا، ثم انه يعيش بمفرده بعد ان توفيت زوجته منذ امد بعيد فهو يعيش مع خادمه المطيع، لكن آمال الام قد خابت في النهاية حيث لم يتم ذلك الزواج، الامر الذي قد جعل من الام، بعد اكتشاف امرها، أن تغادر المدينة تحت جنح الليل بمصاحبته ابنتها وتعيش بعيد عن تلك الاحداث، مع ابنتها التي كانت قد رفضت فكرة الزواج من اساسها، وانتقدت والدتها بشدة، ولم تخنع الى غوايات امها الطموحة.

هذا الشخصيات كانت هي عزائي، لأنني انقطعت عن التفكير بعض الشيء، فالفايروس قد جعل بيني وبين أمور أخرى حاجز من ضبابية، الا اعمال دوستويفسكي لأنني قطعت على نفسي عهدًا أن اقرئها بتمامها، قراءة ثانية، أي أن اقرأ دوستويفسكي، هذه المرّة، اقرأه كفيلسوف وعالم نفساني ومصلح اجتماعي، لا كأديب روائي. فكان الالم الذي صوره هذا الروائي الكبير على لسان احد شخوصه، وهو يعاني الم السن، وهذه الشخصية كما صورها دوستويفسكي قد تعايشت مع الم السن، حيث استثمر هذا الالم ايجابيًا، فهذه الفكرة افادتني بعض الشيء، أو قُل حاولت ان أخدع نفسي بهذه الفكرة التي ابتكرها هذا الروائي الكبير من بنات افكاره، فلا انكر بأنني خدعت بها نفسي حقيقة فجاءت نتائجها ايجابية، او استطيع أن اعلم القارئ النبيل، بأنني كنت في حالة من الارباك والهذيان والوضع النفسي المتشظي، والحال البائسة التي امر بها.

لماذا نخاف الموت، طالما أن مصيرنا سيؤول حتما الى ذلك؟. قبل اكثر من 25 عامًا كنت اخاف الموت وارتعد منه حين يخطر على بالي، وهذا حال ملايين الناس، وهو ليس بالشيء الجديد، لكن بعد أن دخلت في عقدي السادس، وكذلك من خلال تجاربي في الحياة، والاهم من ذلك هو تعمقيّ في الفلسفة، وانحيازي الى بعض التجارب الصوفية لكبار المتصوفة كتأثير: من المسلمين ومن غيرهم، وخصوصًا في الديانة الهندوسية، فالهندوس هُم من افاض على معظم المتصوفة بفكرة التصوّف، لأن تاريخ الديانة الهندوسية يربو على الستة آلاف سنة، بمعنى انها ديانة قديمة لا تؤمن بالعنف بقدر ما تؤمن بالتسامح والمحبة، وتسعى الى نشر الخير والسعادة، عن طريق التأمل والفناء بالمعبود، ونبذ كل ما هو يسعى الى تدمير الانسان، من الداخل او من الخارج، بل تسعى الى اصلاح الانسان وجعله بمثابة الاله، لذلك نجد الهندوسية والبوذية تقدّس كل ما هو حي، وترى أن روح الانسان بعد الموت، تنتقل الى بعض المخلوقات الاخرى.

كورونا تجربة شخصية، اعتبرها مفيدة، رغم حجم الدمار الجسدي والنفسي والمعنوي، وبعد تجربته معه استطيع القول أنه جعلني أن اعيد النظر في كثير من القضايا والتجارب الشخصية: النفسية والفكرية والفلسفية، وأن اتأنى قليلا قبل اتخاذ القرارات السريعة، التي قد اندم عليها فيما بعد لتسرعي، وعدم اعطاء نفسي فرصة للتفكير، او لشيء آخر من هذا القبيل. والسبب سنح لي هذا الفايروس ببعض التفكير وبعض التأمل واعادة النظر ببعض القضايا التي لم انوه عليها، بل استطيع أن اقول ان كورونا كان بمثابة الصعقة الكهربائية، التي جعلت مني أن اوغل في التفكير بقضايا الحياة، والتي وصفها البعض بالعبثية كما قلنا بداية هذا المقال، والحقيقية هي ليست كذلك طالما نستطيع أن نساعد الناس، ونسعى الى اشاعة روح التسامح، وان ندل البعض الى طريق الخير لما فيه بث السعادة في قلوب من يستحقون ذلك.

المشهور عن الفيلسوف الالماني الكبير عمانويل كانت، انه كان يقول: إن ديفيد هيوم قد ايقظني من سباتي الدوغمائي- الايقاني. وانا اقول أن كورونا قد ايقظني من امور كثيرة في حياتي، لأن تجربتي مع كورونا دامت بحدود الشهر الا ايام قليلة جدًا، وقد قضيتها ببعض التأمل والخلو مع ذاتي، خصوصًا بعد تماثلي للشفاء.

ربما يسئل سائل: من خلق الفايروسات؟ ومنها كورونا كمثال. هل هو الله أم الطبيعة، أم تجربة الحياة التي جاءت بهذا الشكل؟. فاذا كان الله- والجواب للسائل- لماذا خلقنا ثم خلق معنا خصوم تناصبنا العداء وتدور بنا الدوائر، وما هو الهدف أو الغاية من ذلك؟. او اذا كانت هي الطبيعة من خلق الفايروسات؟. فماذا تريد مننا هذه الطبيعة، وهل ضايقناها في شيء.

والحقيقة، انا لا أدري، ولم أمتلك الجواب لهذه الاسئلة الفلسفية او الوجودية، وانما كانت غايتي من طرحي هذه الاسئلة هي بهدف مشاركة القارئ الكريم معي الرؤية، فحسب. واكيد ان للقارئ جواب أو اكثر من جواب.