تجارب الحياة وسنوات الدراسة والبحث الطويل والخدمة في الجيش إلى جانب السفر والحل والترحال فيما بعد وثم الانخراط بالحياة العملية، جعلتنا نتعرف على أصناف كثيرة من البشر. أناس تختلف معتقداتهم وأديانهم وقومياتهم كاختلاف ألوانهم. كل يحمل فكراً معيناً وكل واحد منهم له رأي يؤمن به والناس أجناس. الكل يدافع عن الفكرة التي يؤمن بها وكل واحد يناقش لإقناع الآخر بإيجابية وجهة نظره وسدادة رأيه وحكمة تفكيره. أحياناً كانت تنشأ مناقشات بين الأطراف المتقاطعة ببعض النقاط. تحتدم النقاشات ويشتد الجدال ويمتد السجال إلى مراحل متقدمة نضطر عندها التدخل بينهم لإيقاف الحوارات المتشنجة قبل أن تتحول إلى عراك لا يحمد عقباه.
كل هذه المناظرات كانت تحدث بين أطراف تؤمن إيماناً مطلقاً بالفكرة التي تنتمي إليها. الأيديولوجية التي يحملها كل واحد منا هو الأصح بحسبه والأخرى وإن كان فيها شيئاً من الصواب فإنها تأتي في مراحل متأخرة.
لا أخفي سروري نوعاً ما وأنا أحضر هذه النقاشات، لأنني أشاهد أناساً يتقاتلون من أجل فكرة أمنوا بها. أناس ينتمون إلى مبدأ ولا يتخلون عنها مهما كان. أصحاب الفكرة يتحدون الجميع في كل زمان ومكان ولا يبالون في الدفاع عما ينتمون إليه تحت أي ظرف كان. إنهم أوفياء لمبادئهم وليس فيهم من يتوانى في الدفاع وليس لهم التراجع أمام من يستهدف النيل من معتقدهم.
أصحاب الفكرة مستعدون للنقاش مع أي كان. لا يتهربون من الأفكار المعادية ولا يهزمون فهم على صواب ولهم إثبات ذلك ومصدر قوتهم الثقة بالنفس. المؤمن بقضيته يقاتل ويستقتل من أجل الفكرة ولا يعطي الفرصة للمقابل للتشكيك به أو التقليل من شأنه. صاحب القضية لن يتراجع أمام كائن من يكون في طرح قضيته والانتصار لها. يسخر جل حياته في سبيل نصرة القضية والدعوة إليها.
هذا الإصرار في الدفاع عن الفكرة كان أمراً مفرحاً حقاً بالنسبة لي. لكن بالمقابل من ذلك كنت أجد من ينخرط في الدفاع عن معتقده لعدم إيمانه أصلاً. هؤلاء كانوا قد زجوا بالموضوع عن طريق الصدفة وليس لإيمانهم المطلق. فهم يجهلون أبجديات الموضوع أو أنّ ما يحملونه من أفكار هي باطلة وضعيفة ولا حجة لهم في الدفاع عنها. هؤلاء ليس لهم الاقتراب من أي جماعة تناقش موضوعاً ما وليس بمقدورهم الإجابة عن أي سؤال يوجه إليهم. هؤلاء غير مسلحين بثقافة الفكرة التي يدعونها وهم ليسوا سوى متظاهرين بالقضية التي تعود إليهم بالأرباح المادية. هؤلاء هم المتاجرين بهموم الشعب والمنتفعين من ألامهم وليسوا أصحاب الفكر الصحيح الذين لا يمكن الاعتماد عليهم. لا يهمهم التلون بأي لون يخدم مصالحهم وتجدهم كل يوم في شأن.
هكذا فان الضعفاء يتهربون من النقاش ولا يصمد ولا يتمكن من الديمومة، إلاّ من كان يرتكز على قاعدة إيمانية سليمة ومبادئ رصينة. فالاختلاف بالرأي يكون منبعثاً من إيمان الأطراف كلاً بقضيته، ودون ذلك فلا يمكن أن تناقش وتجادل وتحاور من يتلون كالحرباء ولا تجد فيه غير الخديعة والمكر.
في هذا الحيز الاخير أذكر بقول الإمام الشافعي:
” وَلاَ خَيْرَ فِي وِدّ امْرِئٍ مُتَلَوّنٍ
إِذَا الريحُ مَالَتْ مَالَ حَيْثُ تَمِيلُ”