هناك أسباب عديدة لتغيير أفكار وأيديولوجيات الاحزاب والمنظمات الكردية تباعاً من الليبرالية الى اليسار أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، يبدو أن أهمها خسارة المانيا النازية بقيادة هتلر الحرب العالمية الثانية، وبروز دور الاتحاد السوفيتي بقيادة جوزيف ستالين (1878-1953م)كقوة عظمى مؤثرة، والتي كان الحزب الشيوعي يقود مقاليد الحكم فيها، فضلاً عن إنشاء الأممية الثالثة– الكومنترن التي تأسست عام 1919م من قبل فلاديمير لينين( 1870-1924م) مؤسس وقائد الحزب الشيوعي السوفيتي، وليون تروتسكي(1879-1940م) مؤسس المذهب التروتسكي الشيوعي بصفته إحدى فصائل الشيوعية الذي يدعو إلى الثورة العالمية الدائمة. لدعم الصراع الطبقي والثورات في جميع أنحاء العالم، لكنه خسر طابعه الثوري بعد المؤتمر الرابع بسبب الحكم الستاليني، ما أدى لإنهاء (الأممية الثالثة) من قبل ستالين في العام 1923م، التي كانت تعمل على نشر أفكار ومناهج الحزب الشيوعي السوفيتي في العالم.
وغني عن القول أن كردستان قريبة جداً جغرافياً من الاتحاد السوفيتي، مما سهل الى حدٍ ما الدعم السوفيتي للقوى الديمقراطية(=اليسارية) في كردستان ايران، لاسيما خلال سنوات الحرب العالمية الثانية بعد احتلال الاتحاد السوفيتي لشمال ايران على حد تعبير السياسي الكردي الايراني( عبد الرحمن قاسملو)، حينما تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني في جمهورية مهاباد في كردستان ايران في 16 أب/اغسطس عام 1945م، وما تلاها من تأسيس الحزب الشقيق له (=الديمقراطي الكردي) في كردستان العراق في 16 أب/اغسطس عام 1946م، حيث كانت مصطلحات الماركسية والاشتراكية واضحة في بنود وبرامج هذه الاحزاب التأسيسية الكردية، التي كانت غالبيتها أو جلها الأعظم ماركسية أو يسارية، لانها تشكلت من تيارات و حركات شيوعية أو يسارية، لاسيما بعد إنتصار الاتحاد السوفيتي على المانيا الهتلرية عام 1945م ، وتأسيس جمهورية مهاباد في كردستان ايران عام 1946م المدعومة سوفيتياً، بعكس الحقبة الاولى قبل الحرب، حيث كانت غالبية الاحزاب والمنظمات الكردية قومية محافظة أو ليبرالية تعتمد على دعم المستَعمَرين البريطاني أو الفرنسي.
كما لا يمكن نسيان دور الحزب الشيوعي العراقي(= تأسس عام 1934م) وفرعه الكردي(= شورش- الثورة) الذي انشق عنه عام1944م، وفيما بعد تأسس على أنقاضه الحزب الشيوعي لكردستان العراق عام1945م، في الترويج للفكر الماركسي- اللينيني(= اللادينية)، ومعاداة الاسلام كدين ونظام معاً، عن طريق التهجم على علماء الاسلام (= الشيوخ والملالي) واعتبارهم سند الرجعية، في حين أن الاحزاب الليبرالية تعادي الاسلام كنظام حياة، وتنادي بفصل الدين عن الحياة.
وتجدر الاشارة الى أن نظرة مؤسس الشيوعية كارل ماركس(1818-1883م) الدينية جاء في مقالته الشهيرة بعنوان (نقد فلسفة الحق عند هيجل):”المعاناة الدينية هي التعبير عن معاناة حقيقية واحتجاج ضدها. الدين هو ألم الإنسان المظلوم وكيان الظروف العدمي الروح، إنه أفيون الشعوب”. إن إلغاء الدين الذي يُعتبر سعادة وهمية للشعب هو المطلب لسعادتهم الحقيقية. إن دعوتهم للتخلي عن أوهامهم المتعلقة بحالتهم هي أن ندعوهم للتخلي عن تلك الحالة التي تتطلب أوهامًا. لذلك، فإن نقد الدين هو انتقاد تلك الحالة التي يكون الدين هو هالتها. لم يعترض ماركس على الحياة الروحية حيث كان يعتقد أنها ضرورية جدًا، جاء في كتابه الآخر (أجور العمل) الذي أُلِّفه في عام 1844م:”لكي يتطور الإنسان في قدرٍ أكبر من الحرية الروحية، يجب أن يكسر الناس عبودية حاجاتهم الجسدية، حيث يجب أن يتوقفوا عن أن يكونوا عبيدًا للجسد. يجب عليهم جعل الوقت تحت تصرفهم للنشاط الإبداعي الروحي والتمتع الروحي”.
أما المنظر الثاني للشيوعية (فلاديمير لينين) فقد أنتقد الدين بشدّة حيث قال في كتابه بعنوان (الدين)، ما نصه:”الإلحاد جزء طبيعي لا ينفصل عن الماركسية وعن نظرية وممارسة الاشتراكية العلمية”، وردد في في كتابه الآخر (موقف حزب العمال من الدين) مقولة كارل ماركس الشهيرة:”الدين أفيون الشعب”.لذا فإن قول كارل ماركس هو حجر الزاوية في كل الأيديولوجية الماركسية حول الدين،لذلك تعتبر الماركسية جميع الديانات والكنائس الحديثة وكل نوع من المنظمات الدينية كأجهزة للتفاعل البورجوازي، وتُستخدم لحماية الاستغلال وسوء الطبقة العاملة لا غير.
لذا فان المراقب والمتتبع يرى بوضوح بأن العَلمانية التي تنادي بها الطبقة الحزبية والمثقفة على الابجديات الماركسية – اللينينية التي مر ذكرها هي علمانية متشددة تكاد تكون قريبة من اللادينية (= الالحاد)؛ التي تحاول استئصال جذور الاسلام من كردستان، بشتى السبل، من خلال إتهام الإسلام وعقائده وتشريعاته بالرجعية والتخلف والظلامية! الى غيرها من مفردات قاموسهم ؟!.
وللأمانة فان الأفكار العلمانية قد غزت المجتمع الكردي مثله في ذلك مثل بقية المجتمعات الإسلامية المحيطة به، لاسباب عديدة قد لا يكون المجتمع الكردي بِدَعاً في هذا المجال، فضلا عن ذلك أن الأحزاب الكردية العلمانية بشتى أصنافها من قومية ويسارية (= اشتراكية وماركسية) كان لها دور كبير في تعزيز القيم المناوئة للإسلام كنظام حياة، خاصة بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في كردستان العراق اعتبارا من سنة 1992م ولحد كتابة هذه الاسطر، وهذا لا يقلل من إيمان العديد من المنتمين للاحزاب القومية المحافظة، الذين يؤدون الشعائر والطقوس المعتادة بإنتظام.
ويبدو واضحاً أن الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني(= حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني(=آوك)، وبعيداً عن صراعهما على السلطة، كانا في مواجهة الاسلاميين منهمكين في نضال خفي حول التوجه الذي يجب أن تتخذه الحركة القومية الكردية، وكذلك حول تحديد هوية وتوجه حكومة إقليم كردستان العراق، فالقيادة الكردية كانت تتباهى دائماً بتزعمها حركة قومية علمانية ديمقراطية، وهذا ما يبدو واضحاً في تعليق أحد الباحثين العراقيين الماركسيين(=فالح عبدالجبار)، بالقول:” … فإن الفكر القومي الكردي كان يتميز بصبغة إثنية علمانية تتناقض تناقضاً صارخاً مع الفكر الاسلامي الذي انتشر في العالم العربي… وأصبحت مقاتلة الاسلاميين المتشددين مشروعاً مشتركاً ل(حدك) و(آوك) للفوز بدعم الكرد من ذوي الفكر العلماني، والنجاح في نفس الوقت، في تحسين صورة الكرد في أعين الولايات المتحدة وتوحيد الصفوف معها عشية حرب العراق”.
وفي عام 2002م أعلن برهم صالح رئيس حكومة إقليم كردستان العراق/إدارة الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية:”أن كردستان ستصبح منارة للديمقراطية في المنطقة”. وعلى السياق نفسه ذكرت صحيفة Kurdish Globe في 9 أيار 2007م :” بدأت في أيار/ مايس 2007م حملة جمع تواقيع دعماً لفكرة علمنة دستور إقليم كردستان(= العراق)”.
وعلى الوتيرة نفسها. تقول ناشطة كردية في مجال حرية المرأة (= هوزان محمود) في لقاء مع صحيفة هاولاتي- المواطن التي تصدر في مدينة السليمانية بعددها في 31آذار/ مارس 2010م ما نصه:” إن قانون الاحوال الشخصية الحالي يحافظ على العادات الأُبوية والدينية المحافظة والتي فيها تمييز ضد المرأة. لقد فشلت الحكومة فشلاً ذريعاً في مجال تحقيق المساواة وحقوق المرأة والحقوق والحريات الفردية. فهم يصرون على تطبيق الشريعة الاسلامية والمحافظة على التقاليد القومية والقبلية والدينية بدلاً من القانون العائلي المعاصر. إن مشكلاتنا الاساسية تكمن في الطبقة الحاكمة التي تقسم المجتمع على أساس الجنس والدين والقومية والعرق”.
وهذه الحملة التي قادتها ناشطات كرديات أخريات بدعم خفي من الاحزاب العلمانية الكردية الحاكمة وغير الحاكمة، بالاضافة الى الجمعيات الغربية المطالبة بحقوق المرأة، وعبر حملة منظمة بواسطة الاعلام المرئي والمسموع والمقروء، فضلاً عن المنتديات الثقافية والمحاضرات الاسبوعية المتنوعة للطبقة المثقفة كاتحاد الادباء والكتاب وغيرهم، التي كانت تتهجم على ثوابت الاسلام دون خوف أو وجل، في الوقت الذي كان الرقيب يحسب كل همسة أو نسمة تخص الاقليات الدينية غير الاسلامية بالويل والثبور وعظائم الامور؛ ما جعل البرلمان المحلي(= المجلس الوطني الكردستاني) يحاول إصدار تشريعات قانونية تتنافى مع ثوابت الاسلام، كمنع تعدد الزوجات التي كانت محل استياء التيار الاسلامي والتقليدي على استحياء، رغم تقاطعه التام قانونياً ودستورياً مع الدستور العراقي الذي أقره حوالي 78% من سكان العراق بما فيه اقليم كردستان، حول عدم إصدار أي قانون يتعارض مع بديهيات الاسلام وثوابته.
كما يجب أن لا ننسى جهود المنصرين (= المبشرين) البروتستانت والكاثوليك في الترويج لبضاعتهم في كردستان العراق، لا سيما بعد حرب الخليج الاولى والثانية. وكانت الحكومة المحلية الكردية تمنح قطع أراضي لهؤلاء المنصرين لبناء كنائسهم ومدارسهم التنصيرية عليها،وتمنح مؤسساتهم الموافقات الاصولية لفتح المعاهد والمدارس والمكتبات وطبع الكتب باللغات العربية والكردية بلهجتيها الرئيستين (الكرمانجية الشمالية والجنوبية) ، وان الكثير من أبناء المسؤولين يتعلمون في هذه المدارس التنصيرية وغيرها من المدارس الاجنبية المتواجدة في الاقليم رغم خطورتها على النشء بحجة تعليم اللغة الانكليزية. حتى وصل الامر باحد المسؤولين الكبار في حكومة الاقليم الى القول:” انه يحب ان يرى كرداً دخلوا في المسيحية على أن يراهم مسلمين متشددين “.
ومن الجدير بالاشارة الى أنه تم فتح جامعتين أمريكتيتين في مدينتي السليمانية ودهوك على التوالي، وتم صرف مبالغ طائلة لانشاء بنايات ومنشآت الجامعتين من ميزانية الحكومة المحلية ومن الهبات والتبرعات التي اغدق عليه بعض اغنياء مدينة السليمانية بخصوص جامعة السليمانية تحديداً، وهاتان الجامعتان تذكران بجامعتي بيروت والقاهرة التي أنشأها المرسلون البروتستانت الامريكيون في العالم العربي، الاولى في بيروت قبل أكثر من قرن، لانشاء جيل جديد يتربى على قيم واخلاق الغرب ولكي يتبوأ مكانه في عملية قيادة المجتمع العربي فيما بعد، والامر كذلك بالنسبة للمجتمع الكردي بعد قرن كامل تقريباً.
وفي الثامن من شهر كانون الاول/ ديسمبر عام2015م تم ولأول مرة على مستوى الشرق الأوسط، إفتتاح الجامعة الكاثوليكية في منطقة عينكاوه المسيحية احدى محلات العاصمة أربيل، برعاية السيد نيجيرفان بارزاني رئيس حكومة إقليم كوردستان..
وتستطيع هذه الجامعة الإستفادة من خدمات( 215) جامعة كاثوليكية والتي تتواجد في أكثر من 65 دولة حول العالم، كما جدد التأكيد على أن هذه الجامعة مفتوحة للجميع ولا تفرق بين أي طالب يدرس فيها.
كما عبر المطران بشارة وردة رئيس أساقفة أربيل عن شكره لرئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني ورئيس حكومة الإقليم نيجيرفان بارزاني والمسؤولين لدعمهم فتح الجامعة الكاثوليكية.
ومن جهة اخرى فان المنظمات والهيئات التبشيرية (= التنصيرية) تحاول بشتى السبل الضغط على المؤسسات التشريعية والتنفيذية ومنظمات المجتمع المدني في اقليم كردستان العراق بقصد تغيير قانون الاحوال الشخصية المبني على الشريعة الاسلامية، للسماح للكرد المتحولين الى المسيحية (المتنصرين) لتغيير هويتهم الاسلامية الى الهوية المسيحية، وكذلك الامر بالنسبة لعوائلهم التي تنصرت، ومن ثم جعله قانوناً ساري المفعول في – اشارة الى حرية المعتقد والضمير- وعدم اعتبارهم مرتدين وفقاً لاصول العقيدة الاسلامية التي لا تزال سارية المفعول في جميع انحاء العراق، بما فيها اقليم كردستان.