” توفر التجربة المعيار الأقصى للحقيقة”1[1]
يبدو أن التطرق إلى الحقيقة في الحياة اليومية وضمن النشاطات العلمية للإنسان لا يستقيم دون المرور بمحك التجارب سواء تعلق الأمر بالأحداث التاريخية أو الممارسات الاجتماعية أو النظريات العلمية.
من البديهي أن يتم عرض مختلف الفرضيات والنظريات على حاكم التجربة بغية تخليصها من الأخطاء وتقريبها من العالم ومن أجل امتحان درجة بعدها عن المعتقدات الزائفة ومدى قربها ومطابقتها للواقع.
لكن كيف نفهم هذا المصطلح: التجربة؟ وما الفرق بين التجربة عند العامي والتجربة في المجال العلمي؟
يدل مصطلح التجربة على معنى عام ومترامي الأبعاد وينطبق على حقل واسع من الإشارات والأفعال والدلالات. لكي يتم تحديد المعنى الذي ينطبق عليه بأكثر دقة يكون من المفيد استدعاء جملة من التمييزات التي تستعمل في إبراز التعارض بين السبر والمعاينة وبين الفرض والافتراض وبين التجريب والاختبار.
إذا كانت الملاحظة تقوم على تتبع الظواهر والإحاطة بها عن طريق الملكات المعرفية للإنسان فإن التجريب يتمثل في إحداث تعديلات في شروط الظواهر بغية تسليط الضوء وتكثيف العناية بأحد أبعادها ويشير أيضا إلى العودة النسقية والصارمة إلى الاختبار لكي يتم التثبت والتحقق لما يتميز به المنهج التجريبي من القدرة على الضبط والتدقيق والمراجعة والإحصاء والحرص على تفادي تكرار الأخطاء.
هذه الفوارق بين المصطلحات المتشابهة لكي تكون نافعة يفترض أن تظل على الأقل في غالبيتها ملتبسة. في الواقع توجد ملاحظات مثارة تظهر من خلالها الظواهر في وضع متحرك ويتغير بذلك موقعها ووزنها وكتلتها واتجاهها ويساعد هذا الاضطراب والتحريك في استبدال الاستنتاج القديم باستنتاج جديد.
إذا عدنا إلى اللسان الفرنسي فإننا نجد التمييز بين التجربة من حيث هي أولية بدئية في المعرفية سواء كانت خاصة أو عامة ، وسلسلة التجارب المختصة التي تتأسس على تتبع بعض من الخصائص الطبيعية.
أما إذا رجعنا إلى اللّسان الأنغليزي فإننا نعثر على التعارض بينexperience التجربة العادية التي تحدث في الحياة اليومية و experimentالتجربة العلمية التي يتم الاعتناء بها والإعداد لها في المختبرات.
فماهو المعنى الذي يمكن إسناده لمفهوم التجربة حسب الاستعمالات العلمية والمقاربات التقنية؟
في البداية يجدر بنا الانطلاق من التجربة الحسية التي تعتمد على الحواس والمعرفة التاريخية والتقاليد الموروثة وبعد ذلك يجوز للفكر الفلسفي توسيعها ووضعها على محك الفكر ومختبر النظر والتطرق إلى التجربة العقلية بالمعنى الممتد والعميق2[2].
يراهن الموقف التجريبي ضديد العقلانية على إخضاع فلسفة العلوم أو الإبستيمولوجيا إلى نظرية المعرفة ويجعل من نقاشه مع الميتافيزيقا الباب الذي يدفعه لإعطاء التجربة مكانة إبستيمولويجة هامة في العلوم بالرغم من اختلاف أدوات التغيير في الميتافيزيقا عن المشاكل والانشقاقات في تاريخ العلوم وفلسفته.
لكن كيف يمكن تحديد مصطلح التجربة بحيث يصير مصطلحا رئيسيا في العلوم؟
يبدو من الجلي أن مفهوم التجربة يشكل موقعا رئيسيا ودورا مفضلا في العلوم التجريبية ويدخل في علاقة تكامل مع الرياضيات في معارف أخرى لكي يقدم الإضافة ويحقق نجاحات هامة في مغامرات كبيرة. في هذا السياق يجدر بنا الرجوع إلى النقاش حول تحليل المنهج التجريبي الذي انخرط فيه بيير دوهام في بداية القرن العشرين واستعادة الموضوع من طرف كوين في منتصف هذا القرن وإبدائه ملاحظات هامة.
تتنزل المراقبة التجريبية ضمن تحليل النتائج التي يوفرها الاتجاه الوضعي الجديد الذي يحتل المشهد راهنا ويطرح مسالة النموذج ومجموع النظريات الرديفة التي تقود لإعادة النظر في مفهوم التجربة وامتحانها.
لقد شهد العلم الحديث نقطة انطلاقته، حسب التصور الكلاسيكي الذي صاغه الموسوعيون لتاريخ العلوم، عند اكتشاف المنهج التجريبي الذي ساهم في إنتاج معارف يقينية وثابتة وأفضى إلى تفجير ثورة معرفية.
ينحدر التطور العلمي من النظرة التي تستلهم المنهجية المتبعة من تلاميذ نيوتن في صراعهم مع الديكارتيين وتتمحور حول أساليب البرهنة وطرق الاستلال على النجاح الذي قوبلت به الفيزياء النيوتنية.
يحرص دالمبير في “الخطاب التمهيدي للموسوعة”على تجنب التخمينات في بناء مبادئ من الظواهر:لا نستطيع البتة أن نأمل في معرفة الطبيعة عن طريق فروض فضفاضة واعتباطية، وإنما بواسطة فن اختزال إلى أقصى حد ممكن العدد الكبير من الظواهر إلى واحدة فقط تقدر النظر إليها كمبدأ…يمثل هذا الاختزال الروح النسقية الحقيقية التي ينبغي الاحتراس من معاملتها باعتبارها روح النسق”3[3].
ينصص كانط على فاعلية الفكر أثناء التجربة العلمية بقوله: ” الفيزياء هيredevable من الثورة التي أجريت لو بشكل نفعي في منهجها فحسب في هذه الفكرة التي ينبغي البحث عنها في الطبيعة- وليس تخيلها بشكل خاطئ – بالاتفاق مع نقله إليها العقل في حد ذاته، وهذا ما ينبغي أن يتناوله منها حيث لا تقدر على أن تعرفه لوحدها ” 4[4] ما يلاحظ هو اتفاق التقاليد العقلانية والتجريبية على الصورة التاريخية العامة.
المسألة الأخرى تطرح: العلاقة بين العلم والحس المشترك وبين العلم الحديث والفلسفة الطبيعية التقليدية. لم يتشكل تاريخ العلوم من حيث هو علم صارما في أواخر القرن التاسع عشر ولقد قام برفض التبسيط الموجود في هذا الصورة وتناول العديد من النقاط حول التصور الكلاسيكي وأثار جملة من التساؤلات: هل وجت أمثلة عن ممارسة التجريب قبل القرن السابع عشر؟ ماهي المنزلة التي يمكن أن تمنح لفرنسيس بيكون الذي كان قد أعلن عن برنامج بحثي دون أن يقوم هو بنفسه بوضع أسس المنهج التجريبي؟ هل كان غاليلي نفسه باحثا تجريبيا أم تنظيريا ومفسرا للطبيعة باللغة الرياضية؟ هل تابع نيوتن المنهج الذي نحته؟ كيف تعامل المؤرخون مع التطورات المعرفية والتغييرات المنهجية التي حدثت عند الإغريق وغاليلي؟
حدثت مناظرة بين كارل بوبر وكيرك فيما يتعلق بتحديد أصول العلم الحديث وقدما الباحثان رؤية ابستيمولوجية متعارضة في تاريخ العلوم : إذا كان تاريخ العلوم مبحثا تقليديا يعود إلى العلم الضارب في القدم من جهة المصادر والأصول زمن التشكل الأول ويدرس نظريات الحكماء الطبيعيين ما قبل السقراطيين وتصوراتهم الخالية من الملاحظة فإن الابستيمولوجيا التجريبية تعتمد على المقاربات الكلاسيكية وتنطلق من أعمال حديثة، ولكنهما يشتركان في تعظيم الأسطورة البيكونية التي تعتبر ولادة العلم الحديث مرتبطة بالقيام بتكديس الملاحظات والدخول بصورة بطيئة في عملية صياغة النظريات5[5].
يحاول جوفراي لوي تخطي هذا التعارض بين تاريخ العلوم والابستيمولوجيا التجريبية بالتمييز بين مقولتي الملاحظ والفاعل ويكف عن إسقاط صراعات القدامى على الحاضر أو النظر إليها من منظار المعايير العلمية الراهنة ويقر باستحالة إيجاد معادلة مطابقة بين ملاحظاتنا الحالية والتصورات الإغريقية.
لا يحوز مصطلح الظاهرة على نفس المعنى عند الإغريق وفي العلم الحديث إذ يشير عند أرسطو إلى ما يظهر بالنسبة إلى الحواس بل أيضا بالنسبة إلى الرأي الجاهز وما يسلم به ضمنيا من عناصر ميثولوجية.
يمكن أن نكتشف في المدونة الطبية لأبيقراط مجموعة من الدراسات الجزئية التي تبرز قدرة الأطباء على استكمال أبحاثهم التجريبية بطريقة نسقية ودقيقة دون امتلاك نظرية متكاملة تكون قادرة على الإلمام بكل الأمراض من جهة التشخيص الدقيق والتمييز بين الأنواع المتداخلة وتقديم الدواء الشافي والعلاج التام .
في مجال علم الفلك يمكن القيام بحالة مماثلة من العمل التجريبي من خلال الانتباه والمتابعة وبالتوصل إلى نتائج حاسمة بالاشتغال على وعي واضح بالعلاقات بين الملاحظة والنظرية وبين الفروض والوقائع.
الضعف الذي تعانني منه هذه العملية المعرفية في تلك الحقبة يتمثل في تباين العرض الهندسي للنموذج الذي يتميز بالبساطة والإشعاع مع اختزال المقارنة بين النظرية والمعطيات التجريبية إلى حده الأدنى6[6].
لم يتم الرجوع إلى كتب غاليلي ولم تعرف البشرية قيمة العمل التجريبي الذي قام به في تاريخ العلوم إلا سنة 1930حينما انتبه ألكسندر كوريه إلى دور التجربة في الفيزياء إلى جانب الرياضيات في بناء الحداثة.
” ليس للتجربة في معنى التجربة الخام أي دور، على الأقل دور العائق، في ولادة العلم الكلاسيكي، في حين أن التجريب، التساؤل المنهجي عن الطبيعة، يسلم ضمنيا، واللغة التي يطرح من خلالها أسئلته والمنجد الذي يسمح بتأويل الأجوبة…لكن العلم الكلاسيكي لا يتساءل عن الطبيعة إلا في اللغة الرياضية. هذه اللغة ، أو بأكثر دقة قرار استخدامها، لا يمكن بالمقابل أن تكون مملاة إلا بالتجربة التي تشترطه”7[7]
لقد دوّن غاليلي الكثير من الصفحات التي يرفض فيها بوضوح تام التعاليم التي استخلصها أرسطو من التجربة اليومية والخبرة العادية ووضع التجربة بالمقراب مكان الملاحظة الطبيعية بالحواس المجردة ودشن بهذا التبديل مرحلة جديدة تلعب فيها أدوات التجربة دورا ثوريا وتكون نظرية العالم مرتبطة بالأداة. يذهب كورييه إلى حد القول بأن تمشي غاليلي قد عكس حضور نزعة قبلية أفلاطونية مضادة للعلم الأرسطي ولقد سمح ذلك الإقرار لعدة شرّاح آخرين بإعادة بناء العلم الغاليلي من زاوية تقديرية للتجريب.
إذا كانت العودة إلى أفلاطون تظل موضع سجال لاستحالة الاعتماد على الحدس للتثبت من البعد القبلي فإن الأبحاث المتأخرة التي كشفت بوضوح عن علاقة التجاور بين المنهجية الغاليلية والمنهجية الأرسطية.
من الضروري اعتماد الأطروحة التقليدية التي تشيد معرفة جديدة بواسطة المنهج دون تحركها ضمن عناصر معرفية قديمة ووسيطة لما شرع غاليلي ببلورة حوار العقل مع الواقع وأسس م كلافولين العقلانية.
من جهة أخرى خصص بيير دوهام تحليلا معمقا للتجربة في حقبة عرفت نقاشا مكثفا بين هنري بوانكاريه وأدوارد ليروي لم يتم ادراك أهميته وتعقبه ردودا جدية سوى في فترة لاحقة ، ولقد ترتب عن هذا التحليل مساءلة جذرية للمنهجية التقليدية التي ساهمت في تأسيس النظرة التقليدية لميلاد العلم الحديث.
هذا التحليل يتضمن الأطروحة التالية:” التجربة في الفيزياء لا يمكنها أن تلغي فرضا معزولا، وإنما المجموع النظري كله فقط”8[8]. بعبارات أخرى تخضع الفرضيات في الفيزياء إلى مراقبة تجريبية جماعية.
إذا كانت العبارة اللفظية التي تنقل هذه الأطروحة بسيطة فإن نتائجها واستتباعاتها متعددة ومتنوعة وكثيرة. إن التأويل الذي يتعرض له أثر التجربة هو الذي يسمح بالمراقبة التجريبية المعقدة وإن طبيعة القانون هي التي تمنع النموذج الاستنباطي المحض. إن أطروحة بيير دوهام تتمفصل حول صور مختلفة على غرار إلغاء الفرض والقول بالتجربة الحاسمة واعتماد الطريقة النيوتنية في استخلاص الاستقراءات.
المشاكل التي اعترضت الوضعيون المنطقيون في سعيهم إلى تشييد منطق استقرائي احتمالي والانتقادات التي وجهها لهم كارل بوبر لتشبثهم باستخدامهم الاستقراء في نظرية المعرفة وتفسيرهم للطبيعة وسعيهم إلى فهم علاقة اللغة بالواقع بالأمر الذي يجعلنها حذرين من التعويل على النموذج الاستقرائي في التطور العلمي.على هذا النوح تعتبر صور الاستدلال الاستنباطي هي مصدر المشاكل وسبب فشل المنطق الاستقرائي، ويظهر ذلك في صياغة الفروض والاستنتاجات، إذ كيف يتم دحض فرض معين واستبداله بآخر يشبهه؟
ربما يتم الاستغناء عن الاستقراء إذا ما تمكن أحد الفزيائيين من إثبات زيف الفرض إستدلاليا دون القيام بالاختبار وإنما عن طريق الحساب الرياضي أو البرهنة الهندسية أو من خلال حله لعملية جبرية أو معادلة رمزية أو بالانطلاق من قضية نظرية يشتغل على بيان ضعفها بالاستناد إلى تحليل قضية نظرية مرتبطة بها. علاوة على ذلك يمكن استنتاج تخمين معين من هذه القضية وذلك بالقبول بان يكون مراقبا ويمكن بلورة آلية تجريبية تتثبت من هذا التخمين وتجعل من بلوغ الخطأ عن طريق التجريب وسيلة للفيزيائي لكي يلغي القضايا النظرية الزائفة.
يرتكز هذا الشكل من الاستدلال على منطق معروف tollens modus يراوح بين الاستنباط والاستقراء ويعول على الفرض من أجل صياغة التخمين وعلى التجريب من أجل امتحانه والتثبت من صدقه أو كذبه.
إن تطبيق هذا النمط من البرهنة على الفيزياء حسب بيير دوهام هو في حد ذاته عمل مفرط في التبسيط وفي المقابل يمكن التثبت من درجة الصدقية في القضايا النظرية بصورة معزولة عن المراقبة التجريبية ودون البحث عن مطابقتها مع الواقع المادي ودون اختبار مدى اتفاقها مع العالم الخارجي أو تكذيب ذلك.
في حين أن التحليل المتأني للتجريب يظهر المسألة على غير ما ظهرت عليه في السابق وذلك لأن الفيزيائي حينما يريد أن يستنبط تخمينا معينا ويعمل على إخضاعه للتجربة فإنه يقوم باستدعاء قضايا نظرية أخرى. في الواقع يبلغ التأييد التجريبي سلسلة من الافتراضات ولا يتوقف عند فرض معين وإنما يستدعي الفروض الزائفة ويصل إلى تكوين نظرية من خلال عدد طويل من الفروض الممتحنة وعدد كثير من الفروض المستبعدة.
ما يلفت الانتباه أن فكرة التجربة الحاسمة التي نظّر إليها بيكون ومارسها نيوتن تقوم على دحض الفروض الزائفة بالتحقق التجريبي وبناء آلة سلب تطور صورة ايجابية عبر اختزال الفروض إلى الخلف المنطقي. ما يجعل نظرية صائبة هو غياب تجربة تفندها وما يجعل التجربة آلة داحضة هو غياب النظرية الداعمة بل إن افتراضين يقودان إلى تخمينات متعارضة ناتجة عن غياب تأييد واقعي والبرهنة الرياضية الكافية.
هكذا يساعد التجريب على استكمال مساءلة الطبيعة ويظهر الفيزيائي ملزما بإجبار الطبيعة على الإجابة.
بعد ذلك يأتي كارل بوبر لكي يؤسس تصوره العلمي على تناظر بين التحقق والدحض ويرى أن عبارة كونية لا يتم التثبت منها من خلال عبارة جزئية ولكن يمكنها أن تتعرض للدحض بواسطة عبارة جزئية.
إذا كان التطبيق يطرح بعض المشاكل فإن النموذج المعياري يمنح الشكل المنطقي وهو ما لا تقدره عليه التجربة الحاسمة ولا طريقة نيوتن. على هذا النحو يرفض بوبر الاستقراء ويتمسك بالدحض كآلية للبحث.
لكن كيف يتم التفاعل مع الاعتراضات التي أبداها بيير دوهام في مواجهة الأشكال الاستنباطية؟
” يرفض دوهام إمكانية التجارب الحاسمة لأنه يستخدمها كتحققات بينما أنا أقر بإمكانية التجارب الحاسمة الداحضة”9[9]
من الصحيح أن دوهام يعارض النزعة الواقعية السائدة عند معاصريه ولكنه لا يرى في الدحضانية التي يمثلها كارل بوبر القدرة على تقديم الحجج الكافية للرد عليها وبالتالي ينتصر للنزعة الاسمية المواضعاتية.
ليس الدحض التجريبي موحدا والفيزيائي يجد نفسه أثناء مسيرة بحوثه العلمية يتمتع بهامش في الحرية ويمكنه أن يسعى إلى إنقاذ نظرية من خلال تغيير فروض رئيسية أو أخرى ثانوية. إن البحث عن تجنب التكذيب التجريبي هو موقف مزهر في البحث العلمي يساعده تبديل التوافقات وتجنب المواضعات العقيمة وإضافة مجموعة من الفروض الملائمة واعتماد آليات قادرة على الإفلات من النتائج التجريبية القاصرة.
لا يجب إضعاف النظرية حسب بوبر بل يجب أن يبحث الفيزيائي عن تقوية المضمون التجريبي لها بتحقيق المواءمة مع العالم الخارجي وتبني بعض القواعد المنهجية التي تسمح ببلورة القدرة على الدحض.
القول بأن امتحان شامل في الفيزياء يكون صالحا للبحث يفيد استحالة التجربة الحاسمة ومنهجية نيوتن. فإذا كان بوبر يقبل النقد الموجه للمنهجية الاستقرائية ويرفض التجربة الحاسمة فإن الوضعية المنطقية مع كارناب تقبل جملة وتفصيلا الصعوبات التي يعاني منها منهج الدحضانية دون تأييد النقد لمنهج الاستقراء.
لقد تبنى كواين بعمق أطروحة دوهام وكشف عن وجود نوعين من الوثوقية في النزعة التجريبية بقوله:
“أقترح أن يتم الحكم على عباراتنا حول العالم الخارجي بواسطة حاكم التجربة الحسية، ليس بشكل فردي، وإنما بصورة جماعية”10[10]
من المفروض أن يتم التمييز بين تصور دوهام في علاقة بالفيزياء وتأثير نظرية كواين على كلية معارفنا بما في ذلك الرياضية والمنطقية. لقد حرص كل الوضعيين المنطقيين على قبول أطروحة دوهام-كواين مهما كانت التأويلات التي أعطيت لها وخاصة المفهوم الأصلي للوحدة الدلالية الأكثر اتساعا من النظرية.
كما تبنى الوضعيون بصورة أو بأخرى فكرة التطور المتقطع للعلم ويتم استعمال مفهوم الثورة العلمية والقطيعة الجذرية مع الماضي والانكسار التام للتقاليد والتحولات العميقة والمنعطفات التاريخية اللافتة.
لقد ولدت حركة مضادة للوضعية المنطقية منذ الستينات تسمى ما بعد الوضعية المنطقية مثّلها كل من توماس كون ولاكاتوس وفايربان ولودان الذين اتفقوا حول أساس مشترك يسميه كون بالنماذج الإرشادية ويطلق عليه تسمية برنامج البحث عند لاكاتوس والنظرية العامة عند فايرباند وتقليد البحث عند لودان.
يعتمد كون على مفهوم النموذج الإرشادي وينتج تصورا فريدا حول تاريخ العلوم بالاستناد إلى تحليل عميق للثورة الكوبرنيكية يجمع بين الأفكار الميتافيزيقية والعناصر المنهجية والاكتشافات العلمية داخل الاختصاص ضمن جماعة من الباحثين ويفرق بين العلم المعيار وأزمة التفسير والانتقال إلى نموذج جديد.
لقد وقع استثمار الإمكانية التي وفرها بوبر في استخدام العبارات الأساسية في مراقبة الفرضيات العلمية وبينت حركة مابعد الوضعية المنطقية أن هذه العبارات لا تمنح فقط تفسيرا لحالة تطور المعارف العلمية وإنما تختبر درجة اندراجها ضمن تقاليد البحث وتبعيتها للنموذج الإرشادي الذي تتوخاه الجماعة العلمية.
أثناء الثورة العلمية يؤثر توجيه العبارات بالاقتراب أكثر نحو الملاحظة على المعنى الحسي بشكل لافت ويترجم الباحثون ضمن تصور مابعد وضعي منطقي تأثرهم بالأطروحة التي صاغها كل من دوهام كواين بإعطاء معنى جذري لهذه الأطروحة ليس بتبديل تأويل الملاحظة وإنما بتغيير معطيات الإدراك.
لقد كشف كون أن الأرسطيين والمحدثين قد تصارعوا حول نفس المعطيات ولكنهما لم ينظروا إلى نفس الشيء ، فالمعطيات نفسها لم تكن تعني نفس الشيء عند كلا الطرفين وبالتالي نظرتهم للظواهر مختلفة نتيجة استخدامهم لنموذجين إرشاديين متغايرين وانتمائهما لتقاليد بحثية وجماعتين علميتين مختلفتين11[11].
ما يلفت الانتباه هنا أن كون يرفض قطعيا فكرة ايجاد كلام من خلال القيام بملاحظات محايدة وتجارب خام والقدرة على التكلم عن معطيات خالصة وفق صرامة وموضوعية ويقر حضور البعد الذاتي للتجربة.
لا يمكن الاعتقاد بأن اهتزاز القاعدة التجريبية لا ينجر عنه عدة تبعات على تصور المراقبة التجريبية وفي هذا السياق رفض كل من لاكاتوس وكون إمكانية التجربة الحاسمة حتى في صورة دحضانية لكارل بوبر.
في المقابل يصرح كون التالي:” يمكن أن يتم رفض كل تجربة سواء من جهة الأهمية أو من جهة الدقة”12[12]
من هذا المنطلق لا يتخلى رجل العلم عن نظرية معينة بمجرد التقائه بصعوبة تجريبية في مسار بحثه وإنما دراسة التطور الواقعي للعلم يكشف أن تشييد نموذج إرشادي جديد يتضمن حقلا واسعا من الظواهر يدشن مسارا معقدا ويفتح إمكانيات عديدة من أجل العودة إلى الفرضيات المختلفة والملاحظات المتنوعة.
إن رجل العلم لا يتخلى عن نظرية سائدة إلا إذا تمكن من تشييد نظرية علمية جديدة أكثر قدرة تفسيرية ولقد أظهر التحليل التام للمسار العلمي على أن العمل الابستيمولوجي يتم بالانتقاء بين النظريات المتنافسة.
لكن كيف تغيرت الإشكالية في البحث العلمي من المراقبة بواسطة التجربة إلى التنافس بين النظريات؟
لم يعد امتحان صلاحية النظرية في العلوم يتوقف على مقارنتها بنموذج موحد عن الطبيعة وبالنتائج الحاصلة بالنظر لمعطيات الملاحظة وإنما بالتنافس بين النماذج الإرشادية واتفاق الجماعة العلمية حولها.
إن المشتغل بالعلم يصدر حكما معياريا شاملا ويأخذ بعين الاعتبار خصوبة وثراء مجموع برنامج البحث في مواجهته للبرامج المتزاحمة ويعمل على إيجاد الطريقة التي يحسن بها الاختيار بين العديد من البرامج.
لقد كشف توماس كون عن وجود صعوبة عند الاختيار بين النظريات ناتج عن تعذر إجراء القياس13[13] بين النماذج نتيجة الفوارق في المناهج والأدوات والمشاكل والمعطيات وفرضيات البحث ومسلماته.
لقد ترتب عن ذلك تحول مفهوم التقدم العلمي إلى تجربة إشكالية حسب كون وفايرباند ولاكاتوس ولتجاوز ذلك اقترح كون عدد من المعايير عند الاختيار وهي البساطة والتناظر والانسجام والتساوق والدقة والصرامة. في حين قام لودان بالتمييز بين المشاكل المفهومية والمشاكل التجريبية وأظهر أن التطابق بين مختلف أقسام النسق المعرفي يترجم بقوة الفعالية العلمية وأوضح أن هذه المعايير ليست ثابتة بل تتطور بالتطبيق. في المجمل، إذا كان ما بعد الوضعيين يقللون من دور التجربة فذلك لما تتصف به المراقبة التجريبية من تعقيد وصعوبة ويستبدلون ذلك بالدراسة التاريخية والاستشهاد بأمثلة عديدة وحالات متنوعة تتميز بالقرة على الإضافة والإبداع في مستوى معالجة المشاكل وإيجاد الحلول وتقديم أجوبة علمية عن أسئلة الواقع.
في هذا الصدد يبني ما بعد الوضعيين رفضهم للأطروحة الوضعية المنطقية على الانطلاق من نظرية في المعرفة متكونة بصورة أولية ولذلك يسعى هذا الاتجاه الابستيمولوجي المعاصر إلى القيام بتحليل معمق وبطيء للتطور التاريخي والواقعي للعلم بغية أخذ الحيطة والحذر من إغفال الأهمية التي تحتلها التجربة.
لقد أشار توماس كون إلى أن المنتصر في العلم إلى البعد النظري يستعمل الحرية التي يتمتع بها في الأخذ بعين الاعتبار للقوانين المنجزة ويدفع النظرية التي يشتغل عليها إلى الكشف عن هذه القوانين وإيجادها.
إذا كان كل ماخ ودوهام إلى جانب كل الوضعيين المنطقيين قد حرصوا على تطوير منطق للقيس فإن مابعد المنطقيين قد جعلوا القيس محددا بالانطلاق من النموذج الذي يتحكم في مختلف النظريات العلمية في تلك الحقبة والتي تم ضبطها والاتفاق عليها من طرف أعضاء الجماعة العلمية وقاموا بتنسيب القيس بالتقريب الإجرائي بين الخصائص الفيزيائية والمفاهيم النظرية واستثمارها لحسابها الخاص.
في نهاية المطاف يتخذ مصطلح التجربة دلالة واسعة ويحوز على معنى شامل يتضمن ذاكرة النجاحات والإخفاقات النماذج العلمية وبهذا الاستخلاص يتسنى لنا القول بان التجربة ليست غير مؤثرة في وضع معايير العقلانية وإنما العقلانية العلمية لا يمكنها أن تتفق على جملة من المعايير الا بالرجوع إلى التجربة.
لكن ماهو دور التجربة الحاسمة في صياغة النظريات العلمية؟ ولماذا يجدر بالمؤرخ أن يرسم لها حدودا؟
الهوامش والاحالات:
[1] Anastasios Brenner, expérience, in Dictionnaire d’histoire et philosophie des sciences, éditions PUF, Paris, 1999, p400.
[2] Mach Ernest, 1938-1916, analyse des sensations, 1886, et la connaissance et l’erreur 1905 ;
[3] D’Alembert, Discours préliminaire de l’encyclopédie,1759, édition Vrin, Paris, 1984, p30.
[4] Kant E, critique de la raison pure, 1781, édition PUF, 1968, p17-18.
[5] Popper karl, Conjectures et réfutations, pp208-209.
[6] Lloyd, magic , reason and experience, p192.
[7] Koyré a, études galiléennes, p13
[8] Duhem Pierre, la théorie physique, son objet et sa structure, 1906, édition Vrin, Paris, 1981, p278.
[9] Popper Karl, la logique de la découverte scientifique , éditions Payot, Paris, 1973, p76.
[10] Quine W.V, les deux dogmes de l’empirisme, p107.
[11] Kuhn Tomas, la structure des révolutions scientifiques, édition Flammarion, Paris, 1983, pp167-168.
[12] Kuhn Tomas, la structure des révolutions scientifiques, op, cit, p376.
[13] Incommensurabilité des paradigmes