(2)
الهيكل كلمة يقابلها في العبرية ( بيت همقداش)أي (بيت المقدس) أو (هيخال) وتعني البيت الكبير في كثير من اللغات السامية. والبيت الكبير او العظيم التعبير الذي كان يشار به الى مسكن الاله، ومن أهم اسماء الهيكل ( بيت يهوه) لانه اساساً مسكن للاله وليس مكاناً للعبادة، وهو أهم مبنى للعبادة اليسرائيلية، وبعد هدمه عام 70م على يد القائد الروماني تيتوس، لم يحل محله مبنى مركزي مماثل، وقد كان اليهود يحجون اليه في اعياد الحج الثلاثة: الفصح، والاسابيع، والمظال، وبعد العودة من بابل عام538ق.م كان السنهدرين(= سندريون – المجلس اليهودي الاعلى) يجتمع في قاعة ملحقة به.
ومع استقرار العبرانيين في بلاد كنعان كان العبرانيون يقدمون الضحايا والقرابين للالهة في هيكل محلي يعبر عن استقلالية كل قبيلة. ومع هذا ظل تابوت العهد مركز العبادة اليسرائيلية. وبعد تدمير شيلوه (= المكان المقدس عند اليهود غير اورشليم) عام 1050ق.م واستيلاء الفلسطينيين عليه أحضره داود وبنى له خيمة في اورشليم، وقد ظهرت أماكن العبادة اليسرائيلية في اماكن مختلفة، لكن أياً منها لم يفلح في أن يصبح مركزاً دينياً لكل القبائل العبرانية المتناثرة. ولذا فمع تركز السلطة في يد الملوك ( داود وسليمان) تركزت العبادة القربانية في مكان واحد هو الهيكل في اورشليم التي كانت تقع على الحدود بين العديد من القبائل، كما أنها لم تكن تابعة لأي منها. لكل هذا أصبحت اورشليم مركزاً دينياً للقبائل العبرانية، ومن ثم لعبادة يسرائيل القربانية، وتاريخ بناء الهيكل هو ايضاً تاريخ تحول عبادة يسرائيل (البدوية المتجولة) الى العبادة القربانية المركزية (المستقرة).
يشغل الهيكل مكانة خاصة في الوجدان اليهودي، فقد كان يتصور أنه يقع في مركز العالم، فقد بني في وسط اورشليم(= القدس) التي تقع في وسط الدنيا، فقدس الاقداس الذي يقع وسط الهيكل هو بمنزلة سُرة العالم. والهيكل كنز الاله مثل جماعة يسرائيل، وهو عنده أثمن من السماوات والارض، بل إن الاله قرر بناء الهيكل قبل خلق الكون نفسه.
فالهيكل يذكر عند الميلاد والموت، وعند الزواج يحطم أمام العروسين كوب فارغ ليذكرهما بهدم الهيكل. ويرى منظرو الحركة الصهيونية أن ظهور الصهيونية يعود الى اللحظة التي هدم فيها الهيكل وفرض الشتات على اليهود. ويقوم الصهاينة بالتأريخ لوقائع تاريخ العبرانيين وتواريخ أعضاء الجماعات اليهودية في فلسطين بمصطلحات مثل (الهيكل الاول) و (الهيكل الثاني)، ويشير أول رئيس وزراء لاسرائيل (ديفيد بن غوريون المتوفى سنة1973م) وكثير من الاسرائيليين الى دولة اسرائيل باعتبارها الهيكل الثالث.
أولاً: هيكل سليمان
اشترى النبي والملك داود(1004-965ق.م) أرضاً ليني فيها هيكلاً مركزياً، ولم يبدأ هو نفسه في البناء، حيث جاء في العهد القديم أن داود كان يرد أن يبني هَيكلاً للرب في اورشليم، ولكن النبي (ناتان) أبلغه – من لدن الرب ِ- بأن يترك هذا المشروع لابنه سليمان(صموئيل الثاني7). فقام بالمهمة ابنه النبي والملك سليمان(حوالي 965-928ق.م) وأنجزها بين 960 و953ق.م، وكان قد شرع في بنائه في السنة الرابعة لملكه، وهي السنة الاربعمائة والثمانين لخروج بني اسرائيل من مصر(الملوك الاول7:1)، بينما استغرق بناء قصره وملحقاته ثلاثة عشر عاماً؛ ولذا يسمى (هيكل سليمان) أو (الهيكل الاول).
وحسب التصور اليهودي، قام سليمان ببناء الهيكل فوق جبل موريا – جبل بيت المقدس- أو هضبة الحرم التي يوجد فوقها المسجد الاقصى وقبة الصخرة. ومن الصعب الوصول الى وصف دقيق لهيكل سليمان، فالمصدران الاساسيان لمثل هذا الوصف هما كتاب (الملوك الاول 6:1-38)، و(الاخبار الثاني2:4)، وهما يقدمان صورتين تختلفان في كثير من التفاصيل، كما أن المصادر الاخرى تعطي تفاصيل أخرى تتناقض مع المصدرين الاساسيين.
وهيكل سليمان ليس بناءً واحداً إذ يضم قصر الملك ومباني أخرى. وكان ملحقاً بهذا المركب المعماري المذبح الصغير الذي يضم تابوت العهد، وكان يحيط بهذه المباني جميعاً فناء واسع، وقد أقيم هيكل سليمان مكان المذبح الصغير يحيط به فناء مقصور عليه يفصله عن المركب المعماري الاكبر.
كان للهيكل عدة بوابات، وتبلغ ابعاده 90 قدماً و30 قدما عرضاً و45 قدماً ارتفاعاً، وهو لا يختلف كثيراً في تقسيم الثلاثي ( المدخل- البهو المقدس- قدس الاقداس) عن الهياكل الكنعانية. ونظراً لحياتهم البدوية، كان العبرانيون يجهلون فنون العمارة والهندسة على خلاف الحال في البلاد المجاورة بلاد الرافدين ومصر، ولذا فقد جلب سليمان البنائين والمهندسين من مدينتي صور وصيدا، كما تم استيراد القسم الاعظم من مواد البناء من جبال فينيقيا(= لبنان).
وقد كرس سليمان جزءاً كبيراً من ثروة الدولة والايدي العاملة فيها لبناء الهيكل، ولذا فإن ثورات وانقسامات عديدة حدثت بعد اتمام بنائه، وانتهت هذه الثورات بانقسام الدولة العبرانية المتحدة وتساقط العبادة القربانية المركزية.
وعند انقسام مملكة سليمان بعيد وفاته عام 928ق.م فقد الهيكل كثيراً من اهميته، إذ شيد ملوك المملكة الشمالية (= اسرائيل) بقيادة يربعام مراكز مستقلة للعبادة. وقد هجم فرعون مصر شيشنق على مملكة يهوذا في ربيع عام924ق.م ونهب نفائس الهيكل، كما هاجم يهواش ملك المملكة الشمالية(= اسرائيل) المملكة الجنوبية (= يهودا) في عهد ملكها(إمصيا) وهدم سورها، وأخذ ما في هيكل سليمان من الذهب والفضة والاواني ونهب قصر سليمان واخذ بعض الرهائن وعاد الى السامرة العاصمة (الملوك الثاني14:14)، وفي عام 586ق.م هدم نبوخذنصر الكلداني هيكل سليمان وحمل كل أوانيه المقدسة الى بابل.
وعلى أية حال فعلم الاثار يعطينا معلومات بأنه لم يبق من هيكل سليمان ولا من أسواره حجرواحد، وجل ما بقي قائماً الى اليوم هو جزء من أساسات سور هيكل زرو بابل(= الهيكل الثاني) الذي أقيم بعد العودة من المنفى في بابل عام520-515ق.م، وما يدعى خطأً ببرج داود، الذي يرجع الى فترة المكابيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وأجزاء من سور الملك هيرودس(37ق.م -4م) بما فيها حائط المبكى(= حائط البراق) التي تعود الى القرن الاول قبل الميلاد. وتؤكد عالمة الاثار السيد (كاثلين كينيون)، التي كشفت عن كل ما يمكن كشفه في موقع القدس(= أورشليم) القديمة، عدم جدوى البحث عن هيكل سليمان لأنه قد ضاع الى الابد.
ثانياً: هيكل زروبابل
مع هدم هيكل سليمان قام (زروبابل- احد كبار الكهنة) الذي سمح له الملك الاخميني الفارسي بالعودة الى فلسطين باعادة بناء الهيكل من جديد (520- 515ق.م)، ويذكر العهد القديم أن الهيكل الثاني بني بأمر من إله يسرائيل وبأمر من أباطرة الفرس(= كورش – سايروس الاخميني559-529ق.م)، ولذا كانت تقدَم فيه يومياً قرابين لصالح الحاكم الوثني حامي صهيون، وكانت خارطة العاصمة الاخمينية الفارسية (سوسه – شوشه) مرسومة على مداخله، ولا توجد إشارات كثيرة الى معمار هيكل زرو بابل ولا تقسيمه، ويميل معظم الباحثين والمؤرخين الى أن نبوخذنصر لم يهدم الهيكل الاول بل أحرقه ونهبه، فاستخدم العائدون اليهود من بابل بناءه دون تغيير.
وفيما يتصل بالمحتويات فإن قدس الاقداس كان فارغاً لان تابوت العهد اختفى، وقد لعب هذا الهيكل دوراً اساسياً في إسباغ شرعية على فئة الكهنة التي صارت الفئة الادارية الاساسية في مقاطعة يهودا ( = يهودا الاخمينية الفارسية)، وقد تعرض هذا الهيكل للنهب عدة مرات.
ثالثاً: هيكل هيرودس (= الهيكل الثاني)
هيكل هيرودس هو الهيكل الذي بناه الملك هيرودس الكبير (37ق.م-4م) الذي عينه الرومان حاكماً رومانياً يحمل لقب (ملك) ويشار اليه بأن باني (الهيكل الثاني). واحياناً يستخدم هذا المصطلح للاشارة الى الهيكل الذي أسسه زرو بابل، وبهذا يكون هيكل هيرودس( الهيكل الثالث)، وإن كان مصطلح الهيكل الثالث يستخدم للاشارة عادة الى الهيكل الذي سيُشيَد في آخر الايام مع بداية العصر المشيحاني، وحينما اعتلى هيرودس العرش وجد هيكل زروبابل متواضعاً فقرر بناء هيكل آخر لارضاء اليهود، ولكنه قرر في الوقت نفسه بناء هيكل لالهة روما لارضاء الامبراطور الروماني( أغسطس)، ويبدو أن الهيكل الروماني لم يختلف عن الهيكل اليهودي في معماره.
بدأ هيرودس البناء في 19 -20 ق.م فهدم الهيكل القديم واستمر العمل في البناء وقتاً طويلاً، ومات دون إتمامه، استمر البناء حتى عهد حفيده أجريبا الثاني 64م، بل كانت تنقصه بعض اللمسات عندما هدمه تيتوس في9- 10/8/ 70م.
بني الهيكل على الطراز اليوناني – الروماني السائد، وقد وسع هيرود نطاقه ليضم مساحة واسعة وكانت له عدة بوابات وأربعة جسور.
ويذكر الباحث (حسن ظاظا- زازا) أن حائط البراق (= حائط المبكى) كان على الارجح جزءاً من جدار هيكل هيرودس الغربي، أو جزء من السور الخارجي الذي بناه هيرودس على حد تعبير الباحث المصري المختص باليهودية ( عبد الوهاب المسيري). واليهود يحرصون على تسميته حتى الان ( الجدار الغربي)، ويعتبر من أقدس الاماكن عند اليهود في الوقت الحاضر، يبلغ طوله مائة وستون قدماً وارتفاعه ستون قدماً، سمي باسم حائط المبكى لأن الصلوات حوله تأخذ شكل عويل ونواح. وجاء في الاساطير اليهودية أن الحائط يذرف الدمع في التاسع من آب/ اغسطس يوم هدم الهيكل على يد القائد الروماني تيتوس، والتاريخ الذي بدأت اقام فيه الصلوات بالقرب من الحائط غير معروف. وحتى القرن السادس عشر نجد أن المصادر التي تتحدث عن يهود القدس تشير الى ارتباطهم بموقع الهيكل فحسب، ويبدو أنه أصبح محل قداسة بدءاً من سنة 1517م بعد الفتح العثماني لفلسطين على يد السلطان سليم الاول(1512-1520م) وهجرة يهود المارانو(= الاندلس) حَمَلة النزعة الحلولية المتطرفة في اليهودية، فالنزعة الحلولية تظهر دائماً في شكل تقديس الاماكن والاشياء. كما أن وجود اليهود داخل التشكيل الحضاري الاسلامي ترك أثره العميق فيهم، فشعيرة الحج الى مكة المكرمة والطواف حول الكعبة المشرفة وجدت صداها في تقديس حلئط المبكى.
وقد قام الاثريون الاسرائيليون بعد حرب حزيران/ يونيوعام1967م بعمل حفائر في اساس الحائط، فكان أقصى ما عثروا عليه في الحجارة تحت الارض آيتين من سفر النبي أشعيا محفورتين بخط يجعل نسبة هذه الحجارة لداود أو سليمان مستحيل، ويرجح العثور على هذا النص الى الشهور السابقة لاحراق المسجد الاقصى في سنة 1969م
رابعاً: الهيكل الثالث
الهيكل الثالث مصطلح ديني يهودي يشير الى عودة اليهود بقيادة الماشيَح(= المسيح المنتظر) الى صهيون لإعادة بناء الهيكل في نهاية الايام، والهيكل الاول هيكل سليمان الذي هدمه نبوخذنصر، والهيكل الثاني هيكل هيرودس . والهيكل الثالث مرتبط بالرؤى الأخروية لا بالتاريخ الانساني، ومع هذا فقد صبغ الصهاينة هذه الرؤية بصبغة علمانية وجعلوا الاستيطان الصهيوني هو العودة المشيحانية، وبالتالي فإن الدولة الصهيونية (= يسرائيل الحالية) هي الهيكل الثالث.