” أبدا لن يقدر الإسرائليون أن يدفعوا الفلسطينيين أبعد أو يقذفوا بهم إلى الليل، إلى النسيان”
جيل دولوز
مواقف بعض الفلاسفة الموالية لأوطانهم والمنتصرة لبعض الأنظمة الشمولية على حساب القضايا العادلة وبالتصادم مع المبادئ الكونية الإنسانية مشهورة ومعروفة ولا تحتاج إلى تعليق وذلك لخضوعهم إلى عقدة التفوق العرقي والتمركز على الذات ولنا في قصة ماركس مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر والاستعمار الانجليزي في الهند الذي اعتبره نوع من التنوير ومساعدة على التحديث وكذلك حادثة هيدجر مع الحكم النازي خير مثال. ولكن مواقف فلاسفة آخرين وكتاب وفنانين ورجال سياسة وقانون كانت مشرفة وجديرة بالاحترام وضد التمييز العنصري وضد الشمولية والاستعمار وهي ما يجب التوقف عنده وقراءتها بتمعن خاصة وأنها جاءت على حساب المصالح القومية لأوطانهم وضد مجرى الرأي العام الغربي ولنا في بعض مثقفي الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حربها على الفيتنام وفي روجي غارودي وتكذيبها لحجم المحرقة وتفكيكه أساطير الصهيونية وفي نعوم شومسكي أثناء عدوانها على العراق أحسن برهان قاطع على صدقية هؤلاء الأحرار. ولعل فيلسوف الاختلاف الفرنسي جيل دولوز أحد منظري فكر1968 إلى جانب ميشيل فوكو هو واحد من الذين ناصروا القضايا العادلة في العالم ودافعوا على حقوق الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها حتى وان تناقض ذلك مع الموقف الرسمي للنظام السياسي القائم في بلده. إذ تمثل مناصرته لقيام دولة فلسطينية وإعجابه الكبير بالانتفاضة الأولى والمنزع السلمي الكوني أمرا ملفتا للانتباه ومشجعا على قيمة الشخصيات الفلسفية وتأثيرها على مجرى الأحداث التاريخية وهو ما ينبغي الإشادة به والاعتبار منه خاصة هذه الأيام بعد تحول الحوار بين الشرق والغرب إلى لغة التهديد والوعيد وحلت لغة العسكر والسلاح والحرب محل لغة التواصل والتفاهم والحكمة، فما الذي دفع فيلسوف غربي مثل دولوز إلى مناصرة القضية الفلسطينية في ظل ثقافة اخترقتها الدعاية الصهيونية؟ أليس المبادئ الكونية التي تناضل من أجل الانتفاضة الفلسطينية الأولى والوسائل المشروعة التي اعتمدتها وكسبها التعاطف الدولي خير مثال على نزاهتها؟ لماذا فقدت النخب الفلسطينية البوصلة وتقلص التعاطف الفكري والإعلامي معهم؟ أليس ذلك ناتج عن تخليهم عن مطالبتهم البسيطة في حق الحياة والأمن والتعلم والصحة والاعتراف الدولي بهم ككيان قائم الذات؟
من الواضح أن النص الذي كتبه دولوز حول أطفال الانتفاضة فيه انبهار كبير بالملحمة السلمية التي خطها المناضلين دون ضجيج وفي صمت مع مجموعة من الأشبال الذين أرادوا لوطنهم فلسطين أن يكون حرا ولكن الأمور بعد ذلك جرت بما لا يرغب أحد وحب التسلط فاق كل تقدير وفوت الأبناء في ما كسبه الآباء بعرق الجبين فهل يستوعب قادة الكفاح الفلسطيني هذا الدرس الرائع الذي قدمه جيل دولوز في هذا النص الشهير الذي ترجمته على ما أظن مجلة الكرمل بعنوان:”حيثما يستطيعون رؤيتها” والذي عثرت عليه بالصدفة بعد أن خلت أنني فقدته.
يقول جيل دولوز:
“لم تشرع أوروبا بتسديد الدين اللاّمتناهي الذي تدين به لليهود وإنما جعلت شعبا آخر بريئا –الفلسطينيين- يسدده عنها. لقد بنى الصهاينة دولة إسرائيل بالماضي الحديث لعذابهم وعلى الرعب الأوروبي المتعذر على النسيان- ولكن كذلك على معاناة هذا الشعب الآخر وبأحجار هذا الشعب الآخر. لقد سمي “الأرغون” إرهابا لا لأنه كان يفجر مراكز القيادة الأنغليزية العامة فحسب وإنما لأنه كان يدمر قرى كاملة ويزيل “دير ياسين” من الوجود أيضا. صنع الأمريكان منها إسرائيل صناعة كبرى على الطريقة الهوليودية: كانوا يعتبرون أن دولة إسرائيل ستقوم على أرض خالية تنتظر منذ زمن بعيد الشعب العبري العريق مع أشباح بعض العرب الآتين من أماكن أخرى حرسا للأحجار النائمة. كانوا يقذفون بالفلسطينيين إلى النسيان. يأمرونهم بالاعتراف قانونا بدولة إسرائيل، في حين لا يكف الإسرائيليون عن أن ينكروا على الشعب الفلسطيني واقعه المشخص. وحده خاض الشعب الفلسطيني حربا لم تنته إلى الآن ليدافع عن أرضه عن أحجاره وعن حياته: هذه الحرب التي لا يتحدث أحد عنها لفرط ما يهم الإيهام بأن الفلسطينيين هم عرب آتون من أماكن أخرى ويمكنهم الرجوع إليها. فمن يفصل بين جميع هذه الأردنيات؟ ومن سيقول لهم أن الوشائج بين فلسطيني وعربي آخر يمكن أن تكون قوية لكن ليس أكثر ما بين بلدين أوروبيين؟ وأي فلسطيني سينسى ما كبده إياه عرب آخرون إلى جانب إسرائيل؟ ما عقدة هذا الدين الجديد؟
مطرودين من أرضهم يقيم الفلسطينيون حيثما يستطيعون مواصلة روايتها على الأقل والاحتفاظ برؤيتها كصلة أخيرة مع كيانهم المغيب في الأحلام. أبدا لن يقدر الإسرائليين أن يدفعوهم أبعد أو يقذفوا بهم إلى الليل، إلى النسيان.
تدمير القرى، نسف المنازل، طرد السكان واغتيال الأشخاص: كان تاريخ مرعب يبدأ التشكل على حساب أبرياء جدد. يقال إن الاستخبارات الإسرائيلية تستحوذ على إعجاب العالم كله ولكن ماهي هذه الديمقراطية التي تمتزج سياستها بأكثر مما يلزم معه نشاط استخباراتها؟ كيف ستخرج إسرائيل من هذا ومن الأراضي المحتلة ومن مستوطنيها ومستوطناتها ومن حاخاماتها الموتورين؟
احتلال، احتلال إلى ما لانهاية له: إن الأحجار المقذوفة لهي آتية من الداخل، آتية من الشعب الفلسطيني للتذكير بأنه في مكان من العالم، مهما كان صغره، قد انقلب الدين. إن ما يقذفه الفلسطينيون هو أحجارهم، الأحجار الحية لبلادهم. إن رجالا يولدون منها. لا أحد يقدر أن يسدد الدين بجرائم القتل،1، 2، 3، 7، 10 يوميا ولا بالتفاهم مع آخرين. إن الآخرين يتخلصون ولكن كل ميت يستدعي أحياء ولقد توغل الفلسطينيون في روح إسرائيل وهم يشتغلون على هذه الروح كشيء يسبر غوره ويخترق كل يوم.”
يثبت دولوز في هذا النص رؤية استراتيجية بارعة يحول فيه الصراع بين الإسرائليين والفلسطينيين من تصادم خارجي إلى اختراق داخلي لواحد للآخر وينصف فيه الفلسطينيين لأن الغرب أراد أن يكفر عن ذنبه فارتكب حماقة جديدة وساهم في ظلم وتشريد شعبا آخر لا ذنب له وبالتالي فانه حاول أن يصلح خطأ بارتكاب خطأ آخر أشد فظاعة. فهل قدر للفلسطينيين ومن ورائهم العرب أن يتحولوا إلى يهود التاريخ أم أن حركة التاريخ نفسه هي التي ستقود الفلسطينيين إلى استرداد حقوقهم المشروعة؟