19 ديسمبر، 2024 12:47 ص

تأملات في مسارات الشك واليقين

تأملات في مسارات الشك واليقين

إن ما سيطر على ديكارت وهو يصوغ عبارته المشهورة والتي عرفت بالكوجيتو “أنا أفكر أنا إذن موجد” ما سيطر عليه ليس شكا، وإنما هو ثورة في اتجاه اليقين، إلا أنه أراد أن يتطهر من كل القبْليات المعرفية، الحسية والحدسية، لكي يتجه نحو اليقين، فالمسير إلى اليقين، إنما هو بمثابة صلاة مقدمتها التطهر

  لكن حال ديكارت هو حال كل دعاة التنوير من فلاسفة ولاهوتيين، ومفكرين وأدباء، فقد توهم أن أوربا تلبست روح نبي يجب أن يبعث، ويجب أن يكون الكون كلة أُمة لذلك النبي، فقد كان التنوير مخاضا كبيرا، إلّا أنه انحرف لينجب مسخا، لا هو عقلاني يمكن أن يرمم المثل الموروثة، ولا هو تجريبي يمكن أن يتعامل بموضوعية مع تلك المثل.

   علاوة على أن ذلك الحراك قد رافقته موجة حداثية، ومن ثم ما بعد حداثية، دعت إلى الانقطاع، بحثا عن لحظة مطلقة، قد تعيد صياغة الإنسان في الزمن، أو تعيد صياغة الزمن للإنسان، وقد تمحورت دعوة الانقطاع تلك حول ضرورة التخلص من الذاكرة، ومن ثم التخلص من الأمس بكل امتداده الزمني، وهذا الموقف جاء مترتبا على ما صدر من انتهاكات عن الكنيسة ورجالها، فانسحب على العبادات، وكان الإسلام أكثر الأديان تضررا مما يجري، على الرغم من أنه كان يمكن أن يشكل منظومة تستوعب المفردات العقدية والفلسفية واللاهوتية، لأية مسيرة تنوير، وبالخصوص إذا ما اتجهت من الشك إلى اليقين.

   إن النص الإسلامي قد تكلم عن حتميات يقينة، ولكنه قدمها بسرديات أسطورية، لا يؤطرها واقع ما، ولكنها يمكن أن تنفتح على كل واقع من خلال حالات متناثرة على مساحة النص كلها، كان لها صدى واقعي هنا وهناك، قد تجتمع في مقطع الزمني وعلى صعيد واحد، فتكون في اجتماعها هذا تماما كباقات الورد، ولكن إساءة جمعها، لن تبقيها باقات ورود ابدا، قد تحيلها، بل تحيلها حتما إلى ضمة ألغام متفجرة، وهذا ما حدث في كثير من الأوقات، مع شديد الأسف.

   إن اليقين في الإسلام حقيقة راسخة في الوجدان، إلّا أن وجودها في الواقع لا يمكن أن يكون إلا هلاميا، معبرا عن الممكن، إنه وجود بالقوة، يتعذر أن يكون وجودا بالفعل، لأن تحققه بالفعل يعني نهايته، فهو الممكن الذي يستحث خطى السائرين، إلّا أن تحققه بالفعل ليس مستحيلا، إنما هو منوط بإرادة الله سبحانه، لأنه يعني تغيرا كيفيا، وقفزة من الموجود، ربما إلى الوجود.