عادة عندما يتحدث العلماء عن أسماء الله الحسنى يتحدثون عن الرحمن، الرحيم مع بعضهم البعض وهذان الاسمان الكريمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة وهي الرقة والتعطف وإن كان اسم الرحمن أشدُّ مبالغة من اسم الرحيم لأن بناء فعلان أشد مبالغة من فعيل، وبناء فعلان: للسعة والشمول. واتفق أهل العلم على أن اسم الرحمن عربي لفظه وفي الحديث القدسي: {أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي}، فقد دلَّ هذا الحديث على الاشتقاق، وكانت العرب تعرف هذا الاسم، قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوۡ شَآءَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مَا عَبَدۡنَٰهُمۗ }[الزخرف20].
وجاء في أشعارهم قول الشاعر:
وعجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقد فرَّق بعض أهل العلم بين هذين الاسمين الكريمين بالفروق التالية:
أولاً: أنَّ اسم الرحمن هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة، وأما اسم الرحيم، فهو ذو الرحمة للمؤمنين كما في قوله تعالى: {وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيما}[الأحزاب 43]، ولكن يشكل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوف رَّحِيم}[البقرة: 143]، وقوله تعالى: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[الإسراء: 66].
ثانياً: إنَّ اسم الرحمن عائد على الرحمة الذاتية والرحيم دال على الرحمة الفعلية، يقول ابن القيم رحمه الله: إن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه وتعالى، والرحيم دال على تعلقهما بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالأول دال على أنّ الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ولذلك رحم آدم عليه السلام وحواء، وإذا أردت فَهمَ هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيما}[الأحزاب: 43]. وقوله تعالى:{إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوف رَّحِيم}[التوبة: 117]. ولم يجيء قط أنه رحمن بهم فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة والرحيم هو الرحيم برحمته.
ولذلك يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً كقوله تعالى: {ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ}[طه: 5]، وقوله تعالى:{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَسَۡٔلۡ بِهِۦ خَبِيرا}[الفرقان:59]. فاستوى على العرش باسم الرحمن، لأن العرش محيط بالمخلوقات، وقد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡء}[الأعراف: 156]. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده موضوع على العرش: إنَّ رحمتي تغلب غضبي}. فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة، ووضعه عند العرش وطابق بين ذلك وبين قوله تعالى: {ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ}[طه: 5]، وقوله تعالى: {ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَسَۡٔلۡ بِهِۦ خَبِيرا}[الفرقان: 59]. يفتح لك باباً عظيماً هي معرفة الرب تبارك وتعالى.
ثالثاً: اسم {الرحمن} من الأسماء التي لا يجوز للمخلوق أن يتسمى بها، قال تعالى: {قُلِ ٱدۡعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُواْ ٱلرَّحۡمَٰنَۖ أَيّا مَّا تَدۡعُواْ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ }[الإسراء: 110]، فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره وهو الله جلَّ جلاله، وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {حرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم}[التوبة: 128] . قال ابن كثير: والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها مالا يُسمى به غيره كاسم الله، الرحمن، الخالق، الرازق، ونحو ذلك، ولهذا بدأ باسم الله الموصوف بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم ولأن التسمية أولاً تكون بأشرف الأسماء، ولهذا ابتدأ بالأخص فالأخص.
– رحمة الله لعباده نوعان:
الأولى: رحمة عامة: وهي لجميع الخلائق بإيجادهم وتربيتهم ورزقهم وإمدادهم بالنعم والعطايا وتصحيح أبدانهم وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم ومساكنهم ولباسهم ونومهم، وحركاتهم وسكناتهم وغير ذلك من النعم التي لاتُّعد ولا تحصى. قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعۡتَ كُلَّ شَيۡء رَّحۡمَة وَعِلۡما }[غافر:7].
الثانية: رحمة خاصة: وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين فيرحمهم الله عزَّ وجل في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم ويثبتهم عليه ويدافع عنهم وينصرهم على الكافرين ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيما أعطاهم ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب ويغفر لهم ذنوبهم ويكفرها بالمصائب، ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخولهم الجنة ونجاتهم من عذابه ونقمته وهذه الرحمة هي التي جاء ذكرها في قوله تعالى: {وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيما}[الأحزاب: 43].
– من آثار الإيمان باسمه سبحانه الرحمن الرحيم:
يتضح ذلك في قوله تعالى: {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِيم}[آل عمران:31]. فهي تزرع في العبد عبودية الرجاء والتعلق برحمة الله تعالى وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، فإن الله عزَّ وجل قد وسعت رحمته كل شيء وهو الذي يغفر الذنوب جميعاً كما أنَّ الرجاء والنظر إلى رحمة الله الواسعة وآثارها ويثمر الأمل في النفوس ويمسح عليها الرَّوح وحسن الظن بالله تعالى، وانتظار الفرج بعد الشدة ومغفرة الذنوب. قال تعالى: {قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ}[الزمر:53]، وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرا}[الشرح:5-6]، وقال تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَآءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَٰه مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ}[النمل: 62].
وقد حضَّ الله عزَّ وجل عباده على التخلق بصفة الرحمن، ومدح بها أشرف رسله فقال: {لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُول مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم} [التوبة: 128].
ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه “نبي الرحمة”، ومدح الله تعالى الصحابة رضي الله عنهم بقوله: {رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ}[الفتح: 29]، وخصَّ أبو بكر رضي الله عنه بالكمال البشري في الرحمة بعد الرسل، حيث قال فيه صلى الله عليه وسلم: {أرحم أمتي بأمتي أبو بكر}. وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرحمة تنال عباده الرحماء فقال: {إنما يرحم الله من عباده الرُحماء}.
وأعظم رحمة بالناس هدايتهم إلى التوحيد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم عزَّ وجل ثم الرحمة بهم في أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم ودفع الظلم عنهم، وتفريج كروبهم والإحسان إليهم وتعزية مصابهم وقضاء حوائجهم وأولى الناس بهذه الرحمة الوالدان والأقربون.
– التعرض لرحمة الله تعالى بفعل أسبابها:
ومن أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى، فعل ما يرضيه ويأمر به، واجتناب ما يسخطه وينهى عنه باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيب مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ }[الأعراف:56].
وقال سبحانه وتعالى: {وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡء فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ}[الأعراف: 156 -157]، وامتثال قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ}[النور:56]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ يَرۡجُونَ رَحۡمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِيم}[البقرة: 218].
ومما نستجلب به رحمة الله تعالى الرحمة بالخلق والإحسان إليهم. وتدبر القرآن والإنصات إليه، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ ٱلۡقُرۡءَانُ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ}[الأعراف: 204]. وكذلك الاستغفار من أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى، قال تعالى: {لَوۡلَا تَسۡتَغۡفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ}[النمل:46]. وقد أرشدنا الله عزَّ وجل إلى سؤاله سبحانه وتعالى الرحمة لأنفسنا وأقاربنا وقد أثنى سبحانه على أنبيائه بذلك وذكرهم للتأسي بهم.
قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ}[الأنبياء: 83]، وقال عزَّ وجل عن موسى عليه السلام ودعائه لنفسه وأخيه: {قَالَ رَبِّ ٱغۡفِرۡ لِي وَلِأَخِي وَأَدۡخِلۡنَا فِي رَحۡمَتِكَۖ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ}[الأعراف: 151]، وقال سبحانه: {وَقُل رَّبِّ ٱغۡفِرۡ وَٱرۡحَمۡ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلرَّٰحِمِينَ }[المؤمنون: 118].
إن الإيمان باسمه سبحانه الرحمن الرحيم، يروث للعبد محبة الله عز وجل المحبة العظيمة وذلك حينما يفكر العبد وينظر في آثار رحمة الله عزَّ وجل في الآفاق وفي النفس والتي لاتُّعد ولا تُحصى، وهذا يثمر تجديد المحبة لله عز وجل والعبودية الصادقة له سبحانه وتعالى، وتقديم محبته عز وجل على النفس والأهل والمال والناس جميعاً والمسارعة إلى مرضاته، والدعوة إلى توحيده والجهاد في سبيله وفعل كل ما يحبه ويرضاه.
المراجع:
* محمد محمود النجدي، النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، صفحة 1/75-76.
* علي محمد الصلابي، مسودة كتاب قصة الخلق وآدم عليه السلام، قيد التأليف.
* ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، صفحة 1/24.
* عبدالعزيز بن ناصر الجليل، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، صفحة 121-128-129-140-144-145.