وأنَّ البَيانَ هُناكاَ, وأنّي لأراه مُتّكِأ على ارِيكَة من خشب هُنالكَا, في مَوضِعٍ حَذو البَيتِ العَتيقِ مُحاطٍ بالأخشَبين, فرُشُهُ الرَّملُ وسقفُه سَماء.
ويكأنّي بصَخرِ الأخشَبين قد تَشَقَّقَ بلاغةً و فَصاحةً عَلَت فَطَغت ذانك الموضعَ فَبايعها قاطِنوه, فأمسى كلُّ إمرؤٍ منهمُ (كأنَّ كلامَ النَّاس جُمِّع حولَه * فأطلق في إحسانه يتخيَّرُ)!
فَوَقَّرَتْهُمُ عُيُونُ الأرضِ في بيانٍ وَحدهمُ مَلكوُهُ.
ولئن كانَ بَيانُ فتىً مِنهمُ –عمرو بن كلثوم- قَد سَحَرَ حُقَبَ الآخرينَ تَلَوهُ من بعدهِ وَكلَّ بيانٍ تَلَوهُ وجَمَعوُهُ, فكيفَ الأمرُ هوَ إذاً مع سَادتهم في بيانٍ عَلِموُهُ !
فهاهو ذا الفتى (عَمرو بن كلثوم) يَسبِرُ أغوارَ الحَرفِ, فيَنقشَ وَبثلاثةِ أبيات لاغير, مَلحَمةً لحرب عُرْف, تامةً غير منقوصةٍ, وكيفَ البدءُ كانَ فيها, وكيفَ النَزفُ, وكيفَ الحَماسُ مِن قَبلُ, ومَن كَرَّ على الطَرف, وكيفَ الختامُ والنصرُ وكيف المغنمُ والصَرف..
وَنَحْنُ الحَاكِمُـوْنَ إِذَا أُطِعْنَـا وَنَحْنُ العَازِمُـوْنَ إِذَا عُصِيْنَـا
((وَكُنَّـا الأَيْمَنِيْـنَ إِذَا التَقَيْنَـا وَكَـانَ الأَيْسَـرِيْنَ بَنُو أَبَيْنَـا
فَصَالُـوا صَـوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْهِـمْ وَصُلْنَـا صَـوْلَةً فِيْمَنْ يَلِيْنَـا
فَـآبُوا بِالنِّـهَابِ وَبِالسَّبَايَـا وَأُبْـنَا بِالمُلُـوْكِ مُصَفَّدِيْنَــا)).
مُذهلٌ انتَ يا عَمرو!
يا لعلوّ بيانٍ في مَعانٍ زَخَخْتَه !
ويا لسموّ كَلِمٍ في بلاغةٍ نَضَخْتَه !
ويا لغلوّ شجنٍ في قافيةٍ ضَخَخْته ! أنّى تَسنّى لكَ إلآنةَ ذاكَ البيان وكيفَ طَوَّعْتَ نمر الفصاحةِ فنَخَخْتَه! لقد تَسَّمَرَ البيانُ مِن بَعدِك يا عَمرو مَهابةً من سحرٍ فَخَخْتَه! مَنْ عَلَّمَكَ هذا وأيُّ فَجرٍ من زمانٍ وأيُّ مَسمَعٍ أنصَتَ لعطر نَداك ونِداك حين بَخَخْتَه !
إنِ البَيانُ – يا عمرو – الّا شهابٌ في سَماء بَرِقَ – طَرفةً عَينٍ – فَما حَازَ رِئيَّهُ الّاكُمُ.
وعَجبي لأمَّةٍ وَسْمُها ” العربُ” وإن هي الّا انتُمُ!
ماذا دهاكَ يا ٱبن المُغِيرةِ !
ويحكَ أبا الحَكَم، وعَتَبي يا عُتبة, أوَليسَ عَمرو هذا فتاكُمُ و ربيبكُمُ, جاءُكم ببيانِهِ ليَحظى بثَنائِكُمُ, فكيفَ اذاً هوَ البيانُ في وِعائِكُمُ ؟ وكيفَ نَبَذتمُ وراء ظهوركم ذؤابةَ البيانِ ومُهيمنِاً عليهِ لمّا اتاكُمُ ! وأنتمُ من أنتمُ؟ لِمَ كنتم تَستَرِقونَ السمعَ من وَراءِ جُدُر شَغفاً بِه وعَجباً، وحَذَراً مِن أحَدٍ الّا يَراكُمُ , ثمّ تَنطَلِقونَ مُتواصِّينَ بصَبرٍ على آلهةٍ خَلَقَتْها أياديكُمُ .
إنّها {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر} يا عتبةُ, وكانَ حقيقاً عليكَ أن تَتقَيَّأَ التَّكبُّرَ وتَتَفَيَّأَ ظِلالَها غَراماً ببيانِها وخشيةً يومِ التناد!
وقِمنٌ لكَ – أبا الحَكم- أن تَتَهَيَّأَ لِهِلالِها و تَتَبوَأَ مَوطِئاً خَلفَها فتلفظ وسم الجَهلِ وتنعُمَ بالرشاد.
ولقد فَكَّرتَ وقَدَّرتَ يابنَ المغيرة، وعَرَفتَ السِرَّ فَلَم تَلزمْ ، فَنَظَرتَ فعَبَستَ وبَسَرتَ ثم أدبَرتَ واستَكبرتَ فَفاتَكَ الضادُ والزادُ .
ولقد عَلِمتُمُ..
أنَّ في آياتِ صاد ألَقَ إعجاز وذُروةَ بيانِ الضاد !
وأنَّ في راياتِ صاد حَلَقَ فصاحةٍ وعِلمَ الجَوامِع والاضداد.
وأنَّ في غاياتِ صاد فَلَقَ بلاغةٍ وسؤددَ القرى والأفراد.
ولكن..
مَن يُضللِ اللّهُ فما لهُ من بيانٍ يُغنيِهِ, ولاحُلمٍ يُدنيهِ, ولا حُكم يثنيهِ, ولن يكونَ له مجدٌ يَبنيهِ, ومالهُ من اللّهِ من هاد.
مُذهلٌ انتَ يا عَمرو !
لا عجَب يا عمرو ! فإن الضاد لمَن جاد وحاد وكان الرمح الضّادّ لكل ضاد, وإن من نطقها عشقها وحاز بواطنَ الحكمة بين العباد وقاد الأمم وساد .
لا عجَب! فإن الذِكرَ عليكُمْ اُنزِلَ وأَنَّكم اُمَّةُ سَيِّدِ البيانِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم .
سَيَّدُ امّةٍ وَسمُها ” العَرَبُ” .
واَسَفٌ مَكنُونٌ انْ يُجِلَّ جُلُّ أعدائِها شَدا بيانِها ويُقِلَّ ابناؤها صَدا كِيانِها!