ظهر الإسلام في القرن السابع ميلادي, حيث بدأ المجتمعات العربية بتغيير أفكارها وتوجهاتها ومبادئها جذرياً عما كانت عليه في السابق؛ فتحولت عن طريقه اللغة العربية إلى لغة مقدسة ومحكمة, وتبدلت الأهداف الدنيوية إلى أهداف الأخروية, وترقت الحضارة العربية إلى أمبراطورية إسلامية. وقام الإسلام بوضع قوانين دول العربية وأخلاقيات شعبها وأفعال وأقوال لأفرادها. كل هذه التبنيات أنشأ للرجل عربي والمرأة العربية مساراً جديداً وتحفيزاً مثيراً ظهرت معالمها على طول التاريخ. وقبل ذلك كانوا لا يأملون من الحياة سوى ما يشتهيه عواطفهم البدائية كالبقاء والجنس والفخر, أي بمعنى آخر, مبادئ العرب قبل الإسلام كانت ضعيفة وهشة كمبادئ الروم قبل أعتناق المسيحية. كان هدفهم الوحيد في الحياة هو المتعة والشهوة, وجميع ما سواها كانت وسيلة لبلوغها ؛ الشعر الغزلي لبلوغ الجنس بسهولة, إكرام الضيف من أجل البقاء وتمني المنفعة من مصادقته, إكرام المجتمع وإقامة الولائم لبلوغ أعلى الرتبات الأجتماعية, ومصارعة العدو لتبني مبدأ الشجاعة. لو تخيلنا عدم ظهور الإسلام عند العرب لكان تاريخهم متغير تماماً عما هو عليه اليوم, وكان سيظهر عنصراً بارزاً في هذا التاريخ الخالي من المبادئ الإسلامية, إلا وهو خمول العرب وتقيدهم في الصحاري, والانخراط في ملذات المشاعرية حتى الممات من دون اللجوء إلى المنطق ومن دون أتخاذ دستور غير دستور الذي يشبع رغباتهم النفسية ويغطي ذلتهم بين الشعوب آنذاك. دساتير مثل الشجاعة والفراسة وإجادة الأشعار كانت تملي عليهم أقوالهم وأفعالهم وتنقش قوانينهم العشائرية والمدنية.
بتعميم, نقول إن جميع التطورات التي حدثت عبر التاريخ البشري كانت تتبع دستور ما أو مبدأ ما, متبني لسبب ما, من قبل مجتمع ما. فيمكن التنبوء بالمستقبل البشري وكذلك بالأحداث التي يتورط فيه الإنسان من خلال معرفة مبادئ الذي تبناه. كمثل الزهرة التي نتنبأ بألوانها وطريقة أفتتاح بتلاتها التي توسعت ونضجت على وفق منهاج الجيني المتبناة من قبل النبات. كذلك الأمر بالنسبة لتاريخ تطور الفكر البشري, فإنها كانت وما زالت تخطو يوماً بعد يوم خطوات أضافية للوصول إلى مثالية الدستورية التي تبنته. ما أقصده هو إنه يمكن توقع تاريخ حضارة ما والتنبوء بمستقبله وكذلك تخيل مسار ماضيه عن طريق تحليل مبادئ الذي تبنته مجتمعاتها.
على ضوء تلك النظرية, نعود لنلقي نظرة جديدة على تاريخ العرب الذين تبنوا دستور الإسلامي وأخلاقياته. فنقول أولاً إن ترتيب المجتمعات القبلية آنذاك قد أضمحلت وأنحلت تحت ترتيبات أجتماعية دينية, فنرى إن القتال بين القبائل بعد أعتناق الإسلام تلاشت وضعفت, بينما أزدادت العداء على غير المسلمين بشكل شرس, وهذا يدل على التنظيم الراقي الذي جاء به الإسلام حيث وحد بداخله صفوف العرب ومنعهم من مواجهة بعضهم البعض لأسباب مادية, بينما غير أتجاه تلك القوة القتالية نحو غير المسلمين. وهكذا يمكننا توقع أحداث التي حصلت بعد تبني العرب تلك التنظيمات الأجتماعية والسياسات الدبلوماسية ؛ من دون معرفة التاريخ, نتوقع أجتماع قبائل عديدة تحت راية الإسلامية لفتح أراضي غير إسلامية, وهذا ما حصل بالفعل وما يحصل داخل مجتمع متبني لمبادئ الإسلامية الصحيحة. أما من ناحية قيادة السياسية, فلم يتحدث القرآن والسنة كثيراً عن آلية تنظيمها, لذلك أصبح القيادة ذات تنظيمات متنوعة, فلم نعلم إن كان الخلافة من نصيب الأقرب إلى الرسول (ص) أم من حظ الورثة أو من حصة الأئمة العلماء بشؤون الدين (جميعها كانت تصلح بنظر الإسلام). ومع ذلك, فقد انكر الإسلام المجتمع الفوضوي التي لا قيادة فيها ولا نظام حكم (اللاسلطوية). بالنسبة لمعالم الهيكيلة للحضارة الإسلامية, فيمكننا توقع ظهور بنايات كالمساجد والدواوين وأماكن لإلقاء الشعر (المساجد بسبب الدين, والدواوين بسبب بقاء تلك المحفزات الجاهلية حتى بعد ظهور الاسلام). النظام الأقتصادي في الحضارة الإسلامية أعتمد بشكل شبه جزئي على ضرائب المأخوذة من غير المسملين وعلى غنائم الحرب, في حين حرم فيه تواجد البنوك الإستثمارية المالية التي تضيف فوائد على قروضها.
أما بشأن اللغة العربية, فإن تأثير الشعر الجاهلي وتحفيز القرآن الإسلامي جعل علماء المسلمين ينكبون بكامل طاقتهم على إتقان اللغة العربية ودراستها درساً مفصلاً لعقود طويلة ووضع قواعد ومقاييس لها وعلى عنونة جميع زواياها. بدأ جميع العلماء آنذاك في الحضارة الإسلامية بدرساتها وترتيبها وتنظيمها وأصبح محض أنتباه العرب, عادةً إلى حد مبالغ حيث جعلهم مشتتين ومشغولين عن العلوم الأخرى والقدرة على المساهمة فيهم (يستثنى من هذه الندرة). نجد أن هناك الآلاف من الكتب القديمة مؤلفة عن اللغة العربية وعلومها وآدابها من الشعر والنثر. ثم يأتي بعد هؤلاء العلماء جيل آخر لينتقد أفكارهم وأعمالهم عن اللغة العربية والقواعد النحوية التي ساروا على نهجها. وما زالت هذه دوامة تدور إلى يومنا هذا, فنحن لا نزال مشغولين باللغة بدلاً عن العلوم الأخرى.
لو نسينا جميع ما نعرفه عن تاريخ الإسلامي, وأخذنا القرآن والأحاديث النبوية كدستور أساسي لمجتمع بشري ما, وطبقناه على الواقع لمعرفة الأحداث وردات الفعل التي سوف تنتج من قبل ذلك مجتمع الإسلامي لرأينا قدرتنا الخارقة على تنبوء مستقبلهم وتصرفات أفرادهم وأقوال رؤسائهم ومسؤوليهم. وعلى العكس تماماً, إذا جهلنا مبدأ المتبناة, فإننا سوف نخطأ كل مرة في توقع ردة فعل الأشخاص المسلمين وتاريخ الإسلام.
إذاً, المبادئ والقيم هي كالجينات تماماً, فعندما يعرف العالم الوراثي شفرة الجينية لكائن ما, فإنه سوف يكتسب القدرة على معرفة مستقبل ذلك الكائن بالإضافة إلى معرفته لماضيه. بإستطاعتنا اليوم إدراك نهاية الحضارات وعمل تخطيط مفصل حول الأحداث التي ستحدث في ذلك المجتمع التي تجري داخل مسار دستوري معين. كالرياضيات تماماً, بمجرد معرفة قوانينه, يمكننا توقع الخطوات التي سوف تنفتح مع تطبيق القوانين عليها. وكالعلوم بالضبط, التي تَنبأنا بمستقبلها الأحيائي والفيزيائي والكيميائي بعد ان أكتشفنا نظرياتها. كالفلسفة تماماَ, بعد فهم منطقها, أصبحنا نعلم ما الذي سوف يضاف على مدارسها ويختزل من مذاهبها.
فلنجهد أنفسنا لتخيل مستقبل مجتمع الإسلامي, أو بالأحرى فلنحلله على وفق منهاجه : سوف نقول وبثقة إن النظام السياسي سوف يقفز بين الديموقراطية والملكية. أما النظام الأقتصادي فيظل معتمداً على التجارة الحرة وسوف يضم الحكومة الزكاة تحت سلطتها. بينما نظامها الأجتماعي سوف يوحد المتبنين لمبادئها ويعادي المخالفين لها إلى الأبد, وكذلك سوف يتوسع الفصل بين الرجال والنساء. وسوف يكثر فيها بناء المساجد وإقامة مسابقات شعرية ومدارس دينية, سوف يرتبط الطرق من جميع الدول العربية الإسلامية مع المكة والمدينة ويسهل للحجاج قصد الحج أكثر وأكثر.