أخطر ما يواجة المجتمع العربي اليوم هو إشكالية الطائفية والجدّل البيزنطي الدائر حولها فيما لو كانت نتاج ديني أو سياسي, والأخطر من ذلك يتبلور حول عدم التمييز بينها وبين الطائفة, إذ غالباً ما يُفهم في السيّاق العربي المتعارف عليه هو إن الطائفة تعني الطائفية أو العكس, وهذا غير صحيحاً ولا مقبولاً, ليس لأن الطائفية فهم مرتزق ومشين لكن لأن الطائفة فخر عز وانتماء, فالطائفة شيء والطائفية شيء أخر, وكلاهما صنوان, والطائفة ليس عيباً أو منتوجاً سلبياً, لكن المعيب هو توظيف تلك الطائفة وتحويلها إلى الطائفية تحمل مشروع دنيوي سياسي مضلل.
وأن الطائفية هي وجود جماعة أو فئة من المجتمع تحاول عزل نفسها بسياج أو سور غالباً ما يكون سياجاً مقدساً, أو بالأحرى يتخذ صفة القداسة والهيبة لنفسه, من خلال خداع الناس وإيهامهم بأنهم “الفرّقة الناجية”, وإنهم الأولى بالخلافة الإسلامية وبالحكم, وإنهم “أولياء الله”, وإنهم هم “حزب الله” الغالب, وإنهم نواب الرب ومن هنا بدأت رحلة الطائفية والحديث عن إشكاليتها بعد تأليه رّجسها, وقداسة دناستها والأرتفاع بها من حضيض السياسة إلى قمة الدين, أي بمعنى إن الطائفية هي ناجمة عن خلط للدين في السياسة وهي ليست كُل الدين وإنما كُل السياسة وفعلها الدنيوي الذي غالباً ما يعتمد على الحيلة والكذب والمراوغة, وخداع الناس وإيهامهم من خلال الكذب عليهم والكذب على الدين, من خلال تسييس الدين وتديين السياسة وهذه هي الأثداء الكاملة الدسم لبلورة الطائفية كمشروع تقسيمي في العالم العربي يهدف إلى “تقسيم المُقسم”, و”تجزئة المُجزء” تحت الرعاية الأمريكية وفَوُضّاها الخلاقة.
أي إن الطائفية تتأشكل من خلال إخضاع الدين للسياسة واستخدام ما تبقى من العصبية الماضوية في سبيل تحقيق اهداف مادية دنيوية لا علاقة لها بالدين أو المقدس, لكن لها علاقة في توظيف ذلك المقدس واستثمار رصيده الحضاري وبذخه في تجارة خاسرة اسمها السياسة, وبهذا فأن خطر الطائفية يتفاقم وبتأجج عندما يكون الشعب هنا مُخيراً بين طريقين حق وباطل, ناجٍ وهالك, مؤمن وكافر, خير وشر, وسوف يكون كل خصم للطائفة هو الطرف الأخر من هذه المعادلة الصعبة (باطل, هالك, كافر, شر), وهذا هو الخطر الذي سينسحب على قيم المواطنة السلم والتجانس والتعايش السلمي, وسيُصيب اللحمة الوطنية في الصميم, لأنه بلا شك سيشق وحدة الوطن أو المواطنين إلى طائفتين ناجية وهالكة, مؤمنة وكافرة وفق معيار الولاء للطائفة, الأمر الذي سيطيح بكل قيم المواطنة التي هي أساس الحياة المدنية.
وبهذه “التأليه” المفبركة والكاذبة فإن الطائفية سوف تصبح المطلب الوطني والمحلي والمذهبي من أجل صون العقيدة الدينية والحفاظ على هوية الطائفة ومكانتها, زوراً وتضليلاً, من خلال شراذم الطائفيين ودُعاة الفتنة في مساجد ضرار اليوم التي تحاول شد نظر الناس وجوارحهم إلى طائفتها من خلال أستمالتهم بخطابات دينية مبطنة ببطانة سياسية وحزبية فئوية تلامس الحس العاطفي وتشدهم إليها وتسترخي مشاعرهم وتجذبها ليتحولوا إلى مجرد بيادق شطرنجية فاقدة الوعي ومخدرة مجذوبه إلى كل ما يقولوا أو يستنطقوا, بل الأنكى تجعلهم يعتبرون خطبها (الجمعة أو المحاضرات الدينية) بأنها مقدسة أكثر من المقدس نفسه, أي تقديم التفاسير والاجتهادات والخطب المتلفزة والمرئية والمسموعة على القرآن الكريم السنة النبوية وهذا هو أصل الطائفية.
كون حقيقة الطائفية تعتمد بشكل وثيق على فنتازيا التأويل القطعي والتفسير التراثي للنصوص الدينية, دون إعادة تمحيصها وصبها بقوالب الحاضر, بمعنى إنها تستحضر الماضي دون أن تراعي الحاضر أو تنظر للمستقبل, بل هي غالباً ما تستنسخ تجارب الماضي وتعيد صبها بطريقة فجة لا تختلف عن طريقة (Copy Pest) في برامج الكومبيوتر, وهذه هي أصل الإشكال العربي اليوم, كون العقل الطائفي المريض يبني تصوراته بالعودة إلى الماضي والقدامْة, لكن عودة بواقع واحد وعشريني وإنما فقط العقل عقل القرن الرابع الهجري, لتؤسس حيثيات الطائفية وبضراوة أشد وأضحل, كون الطائفية لا تحمل خطاباً سياسياً معاصراً في حين إنها تخاطب الناس بلغة القرن الرابع الهجري وبثقافة الفتنة الكبرى.
أي بمعنى إن الطائفية متنوج للمزج الخاطئ الديني في الحقل السياسي أولاً, ذلك لأعتمادها على تفسيرات ماضوية مبتسرة أكدت جمود الفكر والعقل العربي ثانياً, واستحضار التاريخ السلبي للامة وتغييب تام لأمجاد ونهضة الأمة ثالثاً, وهذه الأسباب بمجملها بلورت شكل الطائفية الأنموذج, وعززت مواقع الطائفية في الشغور العربية, وأصبحت أحدى أهم إشكاليات الفكر العربي المعاصر.
اذن فما نود قوله هو إن الطائفية منتوج سياسي ناجم عن توظيف قيم الدين في حقل السياسة, من خلال “تسييس الدين” أو “تديين السياسة”, فهل أعطى هذا التوظيف الحجة الدامغة في أيدينا لقبول فكرة العلمانية؟