18 ديسمبر، 2024 7:12 م

تأسيس قاعدة البحث في العقائد 3/7

تأسيس قاعدة البحث في العقائد 3/7

3) هل نحن – إذا كنا عقليين – إلهيون أم ماديون؟
الإلهيون يؤمنون بعالمين، عالم المادة، وحسب المصطلح القرآني عند المسلمين عالم الشهادة، وعالم ما وراء المادة، أي عالم الميتافيزيك، أو حسب المصطلح القرآني عالم الغيب. وإن كان لا يمنع من أن يكون من الإلهيين غير الدينيين من هم مثاليون، باعتبارهم يؤمنون بعالم المثال وجوبا أو إمكانا، وفي نفس الوقت يمكن أن يعتقدوا بوجود خالق لعالم المثال هذا. أما الماديون فينكرون عالم ما وراء المحسوسات، أي ما وراء المادة، وبالتالي ينكرون وجود الخالق كعلة أولى للوجود، أي كعلة لا علة لوجودها، كونها واجبة الوجود، وبالتالي وبالضرورة أزلية الوجود. كما يمكن للمادي الملتزم بالمادية الفلسفية أن يكون في الأخلاق مثاليا، فلا تلازم بين كل من المادية والمثالية الفلسفيتين منهما والأخلاقيتين.

والقول بإمكان الجمع بين أن يكون الإنسان ماديا وعقليا في آن واحد، ففيه تأمل، وإن كان لا يمكن القطع باستحالته. فالعقلية يُفترَض أن تؤدي بالضرورة إلى ثبوت واجب الوجود، ولكن لا نستبعد وجود طريق استدلال عقلي لا تؤدي إلى هذه النتيجة، وإن كنت أعتقد أن ذلك المنهج العقلي المفترَض لا بد من أن تكون فيه ثغرة ما، لأن العقل لا يملك تفسيرا للوجود، إلا بوجود علة أولى واجبة الوجود، وذلك على ضوء قانون العلية الذي ناقشه هذا الكتاب. وفي كل الأحوال ليس هناك في هذا المضمار ما هو من غير ثغرة استدلالية بالمطلق، ولكن تبقى حسب تقديري ثغرة المدرسة المادية أكبر أضعاف المرات من ثغرة المدرسة الإلهية، أعني بالطبع الفلسفية منها لا الإلهية الدينية، إلا إذا افترضنا ثمة مدرسة دينية عقلية لا تتقاطع مع المنهج الفلسفي، لكني على يقين أنها عندئذ لم تعد تمثل الدين الذي ينتمي إليه القائل بها، بل تمثل فهمه وفلسفته للدين، مما يعني أنه في الوقع مؤمن فلسفي لاديني، من حيث يشعر أو لا يشعر، أو من حيث يشعر ولا يُفصِح.
4) هل نحن – إذا كنا تجريبيين – إلهيون أم ماديون؟

الجمع بين التجريبية، بمعنى حصر مصادر المعرفة بالتجربة، والإلهية لا يكون إلا عبر وقوع التجريبي الإلهي بالتناقض من حيث لا يشعر، حيث يجمع بين التجريبية التي يفترض أنها مادية لا تعترف بما وراء المحسوس، وبين الوحيوية التي تفترض وجود عالم الميتافيزيك. وربما يمكن أن يُعَدّ الإلهيون الوحيويون – ولو مجازا – تجريبيين وحيويين، إذا ما أنكروا العقل كمصدر للمعرفة، فهم إذا ما عتمدوا الوحي حصرا كمصدر للمعرفة الدينية، لا بد من أن يعتمدوا التجربة حصرا كمصدر للمعرفة العامة، لكنهم يقعون في التناقض، عندما يصطدمون بحقائق علمية أثبتتها التجربة والعلوم الطبيعية بنصوص دينية تناقضها. لكن هؤلاء كأني بهم رفضوا العلم والعقل، التجربة والفلسفة، ليتقصروا على المعرفة الدينية الوحيوية، مصدقين بانفراد الوحي المدعى أو المتوهم بمصدرية المعرفة، ودليلهم على ذلك نفس ما يفترضون أنه وحي إلهي، مثلهم كمثل المتهَم الذي يقدم للمحكمة شاهدا على براءته، وإذا بذلك الشاهد هو نفس المتهَم.