ترافق نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسته الدينية مع نشوء المجتمع الشيعي والتأسيس لهويته العقدية والفقهية والثقافية والسياسية والاجتماعية شبه المستقلة عن هوية الدولة، وذلك بعد وفاة رسول الله وإنجاز واقعة السقيفة في المدينة المنورة في العام 11 للهجرة (623م) مباشرة، وهو تاريخ وضع أساس النظام الاجتماعي الديني الشيعي على يد الإمام علي بن أبي طالب. أي أنّ الحدث التأسيسي لهذا النظام هو مخرجات واقعة السقيفة، وتحديداً حدث إبعاد الإمام علي عن حقه في رئاسة الدولة الإسلامية وقيادة أُمّة الدولة واجتماعها السياسي والديني، والذي تسبب في فصل رئاسة الدولة عن إمامة الدين، وهو أيضاً الحدث المفصلي الأهم والأخطر في تاريخ الإسلام على الإطلاق. ولم يكن هذا الحدث حدثاً سياسياً من وجهة النظر الشيعية؛ وإن كان مظهره سياسياً؛ بل هو حدث مركب، ينطوي على بعد عقدي أساس، عنوانه: «الحق الشرعي»، المستند إلى وصية الرسول للإمام علي في خلافته، أي أنّه حق ديني وليس حقاً سياسياً، وهو العنوان الذي لا يزال ركيزة النظرية السياسية الإسلامية لمدرسة أهل البيت، والتي تعطي للحاكم الشرعي بعداً تأصيلياً دينياً وليس سياسياً وحسب (1).
وكان نشوء النظام الاجتماعي الديني الشيعي الرديف للنظام السياسي واجتماعه الحاكم؛ نشوءاً تلقائياً وليس قراراً سياسياً اتخذه الإمام علي؛ لأنّ شيعة علي بن أبي طالب لم يكونوا جماعة سياسية ولا كتلة منظمة تهدف إلى الوصول إلى السلطة؛ وإن كان هدف الوصول إلى رئاسة الدولة هدفاً مشروعاً لهم وبديهياً، بل هم كيان اجتماعي ديني وثقافي وسياسي يستند إلى موقف عقدي. وحينها بدأ يتبلور نظامان في داخل الأُمّة، الأول يقف على رأسه إمام الأُمّة وخليفة رسول الله، ممثلاً بالأئمة الاثني عشر، وهو نظام اجتماعي ديني، والثاني نظام سياسي يقف على رأسه رئيس الدولة والحاكم السياسي، ممثلاً ابتداءً بالخلفاء الراشدين الثلاثة ثم سلاطين بني أُمية وبني العباس ومن أعقبهم.
وحتى خلال خلافة الإمام علي للدولة الإسلامية، والتي وحّدت الإمامة الدينية بالخلافة السياسية في شخصه، لم تتوحد هويتا النظام الاجتماعي الديني الشيعي والنظام السياسي للدولة؛ لأنّ الاجتماع السياسي الذي أفرزته فترات حكم الخلفاء الراشدين الثلاثة، ظل رافضاً لإمامة علي وخلافته للدولة، وظل يعتقد بأنّه صاحب الحق السياسي التاريخي في السلطة. ولذلك؛ لم يسمح لسلطة الإمام علي بالاستقرار وإعادة البناء، وشنّ عليه كل أنواع الحروب السياسية والعسكرية والدعائية والمخابراتية، وكانت معارك الجمل وصفين والنهروان جزءاً من هذا التدافع بين الاجتماعين (2).
وإذا كانت هناك شخصيات سياسية وعسكرية وعلمية محسوبة على الاجتماع السياسي لفترة الخلفاء الراشدين الثلاثة، قد بقيت تعمل في إطار مؤسسات الدولة التنفيذية والقضائية والمالية والعسكرية في عهد خلافة الإمام علي، بمن فيها التي شاركت في الحروب إلى جانبه؛ فإنّها لم تصبح جزءاً من النظام الاجتماعي الديني الشيعي الخاص، أي أنّها لم تنتم إلى الهوية الخاصة للاجتماع الشيعي؛ بل ظلت تنتمي إلى الاجتماع السياسي الموروث للدولة، وتمارس عملاً وظيفياً في الدولة، سواء في ظل عثمان أو علي أو معاوية.
وتكرّست هويتا النظام الاجتماعي الديني الشيعي والنظام السياسي للدولة بعد إسقاط حكم الإمام الحسن بن علي وواقعة كربلاء واستئثار آل أُمية بالدولة ومقدراتها، وتحويل النظام إلى حكم مركب ثيوقراطي ديني (3) وعلماني سلطاني، متشبه بالنظام القسطنطيني الروماني المسيحي (4). وعملت السلطة الأُموية على الاحتفاظ ببعض المسوح الدينية لتضفي على سلطتها شرعية خلافة رسول الله، وحاولت إيجاد منظومة عقدية فقهية اجتماعية تحت عنوان «التسنن» أو «الاجتماع السني»، في مقابل «النظام الاجتماعي الديني الشيعي»، من خلال تحشيد الروائيين والمحدّثين والكلاميين والمؤرخين، لصياغة تلك المنظومة، عبر أدوات الوضع في الحديث الشريف والابتداع في سنة رسول الله (5). والهدف هو حماية النظام السياسي العلماني الذي يقوده السلاطين الأمويون؛ بمنظومة دينية اجتماعية. وبالفعل نجح الأُمويون في إيجاد هوية عقدية اجتماعية شبه موحدة للاجتماع السياسي للدولة، تقابل النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وهكذا، ظلت المؤسسة الدينية التي تقود النظام الاجتماعي الديني الشيعي ولا تزال، مستقلة عن المؤسسة الدينية الرسمية للدولة التي يصفها الفقه السياسي الإسلامي الشيعي بغير الشرعية. ففي عصر الأئمة الاثني عشر كان الإمام هو رأس هذه المؤسسة، وكان مسجده أو بيته هما حوزته العلمية ومقر مرجعيته الدينية والدنيوية، وفيهما يحضر تلاميذه، ويأتي إليه شيعته للتقاضي ولحل مشاكلهم العامة والخاصة، وتسليم أموالهم الشرعية وتبرعاتهم وتسجيل موقوفاتهم، ومنهما ينطلق الإمام في رعاية الشأن العام للأُمّة. وكان للإمام وكلاء ومعتمدون في جميع بلاد المسلمين، وعبرهم كانت تصله الاستفتاءات والأسئلة الدينية أو الأسئلة ذات العلاقة بالشأن العام، كما ترسل إليه الأموال الشرعية من أتباعه؛ لتكون القوام الاقتصادي المستقل لمدرسة أهل البيت ونظامها الاجتماعي، بعيداً عن الدولة وسلطانها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية.
وبعد انتهاء عصر الإمامة الظاهرة، بغيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي المنتظر في العام 260 ه (874 م)، استمر النظام الديني الاجتماعي الشيعي، بقيادة زعماء الشيعة الدينيين في بغداد ابتداءً، ثم في النجف لاحقاً. وبات الفقيه المتصدّي هو الزعيم الديني والمرجع الاجتماعي والسياسي والقضائي للشيعة. ويمارس هذه الزعامة والمرجعية عبر الفتاوى والأحكام، وعبر مؤسسة الحوزة العلمية وفروعها، وعبر الكتب والدراسات، وعبر شبكة الوكلاء والمعتمدين والمبلغين في جميع بلدان المسلمين، وعبر دكة القضاء، وعبر شبكة مصادر الأموال الشرعية التي يمثلها تجار الشيعة غالباً.
هذه المنظومة المستقلة المتكاملة علمياً ودينياً واجتماعياً ومالياً، هي التي حفظت الشيعة كأفراد وكجماعة على طول التاريخ، كما حفظت تراث أئمة آل البيت، وخلقت للشيعة كياناً اجتماعياً دفاعياً منظماً، بالرغم من كل محاولات الاجتثاث والتمزيق والقمع والتصفية التي قام بها الحكام الطائفيون، منذ سقوط حكم الإمام الحسن بن علي، ولا يزالون حتى الآن.
وإذا كان هناك فضل لزعماء وفقهاء في تأسيس وتطوير النظام الاجتماعي الديني الشيعي في عصر نيابة الإمام (عصر غيبة الإمام الثاني عشر) وترشيده؛ فلا بد من الإشارة إلى ثماني شخصيات مؤسِّسة، تميزت بذكائها الاجتماعي الفائق، وعبقريتها الإدارية والتنظيمية، فضلاً عن مستواها العلمي المتفرد، وهم:
سفراء الإمام المهدي الأربعة: الشيخ عثمان بن سعيد العمري (مؤسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي خلال عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي)، ومن بعده ابنه الشيخ محمد بن عثمان العمري، ثم الشيخ الحسين بن روح النوبختي، وأخيراً الشيخ علي بن محمد السمري، وهم تزعموا النظام الاجتماعي الديني الشيعي مدة (70) عاماً، وهي فترة الغيبة الصغرى (260 ـ 329هـ = 874 ـ 941م).
الفقهاء الأربعة: الشيخ الصدوق محمد بن علي، والشيخ المفيد محمد بن محمد، والسيد المرتضی علي بن الحسين، والشيخ الطوسي محمد بن الحسن، وقد استمروا بعملية وضع الأُسس وترشيد النظام وزعامته خلال الفترة (329 ـ 460هـ =941 ـ 1068 م).
وكان الحكام البويهيون يدعمون مسيرة الفقهاء الأربعة المذكورين، وخاصة ركن الدولة البويهي ومعز الدولة البويهي وعضد الدولة البويهي والصاحب بن عباد(6)، والذين حكمت دولتهم البويهية إيران والعراق في الفترة من (324 إلى449هـ = 936 ـ 1057م).
وعليه، يمكن القول إنّ المرحلة الأُولى من عملية التأسيس التي قادها السفراء الأربعة استمرت حوالي (70) عاماً. أما مرحلة التأسيس الثانية، والتي تمثل فترة الظهور الذهبية الاستثنائية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، فقد استمرت حوالي (125) عاماً، وخلالها كان الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي يتزعمون الشيعة، ويتلقون الدعم والحماية وتسهيل أعمالهم الدينية والعلمية والدعوية والاجتماعية من الحكام البويهيين الشيعة. أي أنّ مجموع فترة تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي في مرحلة ما بعد الإمامة، استمرت ما يقرب من (195) عاماً.
الزعماء الثمانية المذكورون (السفراء الأربعة والفقهاء الأربعة) هم خمسة عراقيين وثلاثة إيرانيين، ولولا جهودهم الاستثنائية وحماية الأُسرة البويهية الشيعية الحاكمة في العراق؛ لربما لم يستطع النظام الاجتماعي الديني الشيعي عبور مرحلة خطر التصدع والتشظي. ولذلك، عندما سقطت الدولة البويهية في بغداد في العام (449هـ = 1057م)، ثم هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف وأسس حوزتها العلمية المركزية، ثم توفي في العام (460هـ = 1068 م)، كان النظام الاجتماعي الديني الشيعي قد تبلور وتجذّر وقوي بناؤه، ولم يتأثر بسقوط الدولة البويهية ووفاة شيخ الطائفة الطوسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) أُنظر: السيد محمدباقر الصدر، «الإسلام يقود الحياة». والشيخ محمدمهدي شمس الدين، «الاجتماع السياسي الإسلامي». وعلي المؤمن، «النظرية السياسية في الإسلام»، مجلة التوحيد، العددان 31 و32، 1987 و1988.
(2) أُنظر: طه حسين، «الفتنة الكبرى». السيد جعفر مرتضى العاملي، «الصحيح من سيرة الإمام علي». السيد محمدحسين فضل الله، «أسباب الحروب التي خاضها علي في خلافته»، http: //arabic. bayynat. org/ArticlePage. aspx? id=14172
(3) أُنظر: علي المؤمن، «بين الاستعمار الديني الأُموي والاستعمار الديني القسطنطيني».
www. Almothaqaf. com/a/qadaya2019/942843
و«الأُموية المعاصرة» https: //almasalah. com/ar/news/197440
(4) أُنظر: المصدران السابقان.
(5) أُنظر: علي المؤمن، «من المذهبية إلى الطائفية: المسألة الطائفية في الواقع الإسلامي»، ص14 ـ 27. أسد حيدر، «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة»، ج2.
(6) أُنظر: الشيخ الصدوق، «عيون أخبار الرضا». الشيخ محمدجواد مغنية، «الشيعة في الميزان»، ص۱۳۸ ـ ۱٤۸. الشيخ رسول جعفريان، «الشيعة في إيران»، ص280 ـ 281. السيد محسن الأمين، «أعيان الشيعة»، تراجم الشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الصدوق والشيخ الطوسي وركن الدولة البويهي ومعز الدولة البويهي وعضد الدولة البويهي والصاحب بن عباد. آدم متز، «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري»، ج1، تعريب: محمد عبدالهادي أبي ريدة.