مقدمة
تصدّرت الأضواء التي سلّطتها وسائل الإعلام الأمريكية على الطائرات الخفيّة على الرادارات –والمصطلَح عليها إعلامياً بـ”الشبح”—وأُبرِزَت صورها وجملة المعلومات والأخبار المتسارعة عنها لدى معظم وسائل الإعلام العالمية المكتوبة والمسموعة والمرئية ذات الإهتمام بالأمور العسكرية والإستراتيجية وتكنولوجيا الطائرات.
ولكني عند تصفّحي لمواقع الإنترنت تلمّست بإنقضاء الأيام أن الكثير من المعلومات المنشورة في العديد منها تُربِك القارئ لدى بحثه عن ماهيّة طائرات “الشبح”، سواء بصورها الخاطئة ومبالغات الكُتّاب بتأثير مشاعرهم وتوجّهاتهم السياسية والدينية في كيل المديح لهذه الدولة أو قدح تلك، ناهيك عن عدم كون البعض من الكتاب والمترجمين ضليعين في علوم الطيران وتأريخه لدى تعريبهم لصفحات من مصادرها… لذلك إلتجأتُ بإستخراج قدرات هذه الطائرة وإمكاناتها المتاحة لأستقي كل ما يخصّ الأبعاد والقياسات والأوزان والمَدَيات والقُدرات والتواريخ من المجلّد الرصين (MODERN MILITARY AIRCRAFT) الصادر من مؤسسة (CHARTWELL) ذائعة الصيت.
فما هذه الطائرة الأعجوبة؟ ولماذا أُنتِجَت؟؟ وما أنواعها؟؟؟ وما بصماتها في عالم الطيران؟؟؟؟؟
أستفسارات أحاول تسليط بعض الضوء عليها في هذه الدراسة المختصرة.
الرادار الخصم للطائرات
منذ إنبثاق ((الرادار)) الذي سارعت “بريطانيا العظمى” في تطويره عند إندلاع أولى شرارات الحرب العالمية الثانية للكشف عن الأجسام الطائرة والعائمة والغاطسة، والتي يستحيل رصدها بالعين المجردة وضبط موقعها وقياس بُعدها وسرعتها وإتجاهاتها، لذلك ظلّ أساساً لا بديل له لرصد الطائرات وتحديد وجهتها إبتغاء الإنذار المبكر عنها ومسكها وتثبيتها على الشاشة قبل توجيه المقاتلات الإعتراضية والمقاومات الأرضية نحوها.
ورغم الإفادة العظمى من “الرادار” بالإستخدامات العسكرية سواءً البحرية، الفضائية والبرّية إلى جانب زجّها للأغراض المدنية، فقد ظلّ الجهاز الأساس الذي ترتكز عليه الدول في درء الأخطار عن أجوائها فأضحى على رأس قائمة الأهداف التي ينبغي شلّها أو تدميرها في غضون الساعات أو الأيام الأولى من أية حرب مصحوباً بعمليات التشويش الألكتروني، فيما بقي الطيارون حائرين في كيفية النأي عن إشعاعه تفادياً للإنكشاف سواء بالتحليق بإرتفاعات منخفضة للغاية لا تعدو بضع عشرات من الأمتار فوق سطح اليابسة وأدنى منها فوق المياه، أو بالتشويش الألكتروني المضاد (COUNTER MEASUER)، ورغم ذلك ظلّت مخاطر “الرادار” قائمة وفاعلة لا مجال لعرض تفاصيلها في هذه الدراسة.
حلم الإختفاء
بقيت الأحلام تراود خبراء الطيران والتكنولوجيّات المختلفة وضرورة إختراع شيءٍ ما في هذا المجال، فتفتقّت العقول عن جسم تُصَنَّع دعائم هيكله وغلافه والأجزاء الثابتة من محرّكه ومعظم مكوّناته من سبائك غير معدنية بل الإعتماد على اللدائن المُقَوّاة، كي تمتص الإشعاعات المصطدمة به دون أن يعكس ذبذباتها (تردداتها) بمقدار (180) درجة ليتلقّفها الرادار الأرضي أو المحمول، فضلاً عن الحدّ -قدر المستطاع- من الزوايا البارزة في جسد الطائرة وتحميل الأسلحة والمقذوفات داخل جوفها عوضاً عن تعليقها أسفل البدن وتحت الجناحَين وعلى طرَفَيهما لتظلّ مخفية فلا تظهر على شاشات الرادرات.
ويُضاف إلى كل ذلك أن ترك السبائك المعدنية جعل “الشبح” أدنى وزناً وأصغر حجماً وأعظم قدرة على الحمل وأبلغ سرعة إذا ما قارنّاها مع شبيهاتها من الطائرات الإعتيادية.
وتحقّق الحلم
كانت شركة “لوكهيد” الأمريكية العملاقة هي التي سبقت الأُخرَيات في هذا الشأن وحصلت على براءة الإختراع، بعد أن أنتجت –بُعَيدَ إنتهاء الحرب العالمية الثانية ومنذ النصف الثاني من الأربعينيات ولعقود متلاحقات– أفضل المقاتلات الإعتراضية النفاثة فالأسرع من الصوت وطائرات الإستطلاع الإختصاصية ذات القدرة على العمل بالإرتفاعات الشاهقة وأخرَيات لمقاتلة الغواصات، إلى جانب أبرز طائرات الإنذار المبكّر المُحَمَّلة بالرادارات ذات الرؤية الجانبية وأجهزة التشويش الألكتروني والإستراق اللاسلكي التي عُرِفَت لاحقاً بالـ”A.W.A.C.S”، وفضلاً عن طائرات النقل العسكري الضخمة والمعقّدة ذات الإستخدامات المتعددة، فنالت بها -وما زالت- صيتاً واسعاً بإنتاجها طرزاً لأداء مهمّات لصالح القوات المسلّحة الأمريكية والعديد من دول العالم.
وقد تكون أبرز تلك الطائرات التي يخدم البعض من أنواعها لدى القوات الجوية الأمريكية والعديد من دول العالم، هي:-
مقاتِلَتا التفوّق الجوي/الهجوم الأرضي “ستار فايتر/F-104″، و”فالكون/F-16”.
طائرات الدوريات والتشويش الألكتروني ومقاتلة السفن والغواصات “أورورا/P-4″، و”أوريون/P-3″، و”فايكنك/ES-3”.
طائرات النقل والإسقاط المظلّي “هيركُلِس/C-130″، و”ستار لِفتَر/C-141″، و”كالاكسي/C-5” التي تُعَدّ من أضخم طائرات النقل العسكري في العالم.
طائرات الإستطلاع العميق (التجسّس) من الإرتفاعات الشاهقة “يوتو/U-2″ و”TR-1″، و”بلاك بيرد/SR-71″ الإستراتيجية.
طائرات الـ”شبح”
الـ”شبح” الباكورة “F-117”
لم تُدخِل تلك المنجزات “لوكهيد” تأريخ الطيران من أوسع أبوابه ولم تُصَعِّدَ من سطوتها بقدر ما حقّقها إنتاجها لأول طائرة تخفى على الرادارات –المسمّاة في أروقة معظم وسائل الإعلام بـ”الشبح”—وقد طالت البحوث عنها وإعداد تصاميمها ما يربو على ربع قرن، وقتما عرضت قفزتها الهائلة في تكنولوجيا الطيران بمقاتلتها المصممة للتفوّق الجوي والهجوم الأرضي.
“العراق” حقل تجارب “الشبح” في حربَين
سارعت القوة الجوية الأمريكية لإقتناء الـ”F-117″ في أواخر عقد الثمانينيّات وإمتلكت سرباً واحداً بواقع (16) منها لتقحمها ميدانياً للمرة الأولى في حرب حقيقية ضد “العراق” الذي عُرِفَ -في حينه- بقدراته المشهودة في مجالات الطيران ودفاعاته الأرضية المقتدرة ضد الجو بعد خوضه حرباً حديثة وتجارب ناجحة إستغرقت (8) سنوات قبالة “إيران”، فزجّتها “واشنطن” في طيران ليلي مع الساعات الأولى لـ”حرب الخليج الثانية” فجر يوم (17/1/1991) مستهدِفة مواقع راداراته وقواطع دفاعه الجوي وقياداته العليا وقواعده الجوية الضخمة، حتى أضحى مجموع العمليات القتالية التي نفّذتها الـ”F-117″ خلال الحرب الجوية -التي إستغرقت (43) يوماً- (1271) ضربة وبنتائج مُبهِرة.
ولما لم تتوفّر لدى الأمريكيين عند غزوهم “العراق” عام (2003) طائرة “شبح” أحدث ومن طراز أفضل، فقد كرروا إستثمارهم للـ”F-117″ في أتون “حرب الخليج الثالثة” وبالأسلوب ذاته بحلول مساء يومها الأوّل (20/3/2003) من دون أن تتمكن الرادارات العراقية كشف أيّة واحدة منها أو تُسقَطها أو تُصيبها ولو بشظيّة عابرة بعد ((إعماء شامل)) إشتملت كل رادارات “العراق” ووسائل مقاوماته الأرضية بفعل التشويش الألكتروني الأمريكي الذي غطّى الوطن برمّته أسوة بالذي تحقق عام (1991).
مقاتلات “الشبح”- الجيل الثاني
أبهرت تلك التجارب الميدانية الأولى (1991) بنتائجها منقطعة النظير لتأتي ضربة حظ ثانٍ لصالح شركة “لوكهيد”، فقد عزمت القوة الجوية الأمريكية لإمتلاك مقاتلة/هجوم أرضي أفضل وبسرعة تفوق الصوت وأثقل حمولة وأبعد مدىً وأعلى إرتفاعاً وأكثر تطوّراً، فإسرعت “لوكهيد” لتعرض في أواخر التسعينيّات نماذج جيل ثانٍ من مقاتلات “الشبح” المزوّدة بمحركين والمقادة بطيارَين، والمسمّاة “رابتور/F-22″، بعد أن كانت بحوثها وتصاميمها الأولية تتتابع في الخفاء منذ عام (1981).
ولكن مشكلات فساد ماليّ وإداري علّقت المشروع فترة غير قصيرة وأرجأت تسلّم القوة الجوية الأمريكية لأول سرب منها لغاية عام (2007)، فيما خطّط قادة الـ”بنتاغون” لإقتناء (750) مقاتلة مطوَّرة من هذا الطراز في قادم الأعوام لتعويض ذات العدد من مقاتلات التفوّق الجوي/هجوم أرضي “إيكل/F-15” التي تقادَمَ عليها الزمن رغم كونها منذ ما يزيد على (3) عقود -ولغاية يومنا هذا- بمثابة العمود الفقري للقوة الجوية الأمريكية وعدد من الدول الأعضاء لدى حلف “N.A.T.O” والمملكة العربية السعودية و”إسرائيل” وسواها رغم إيلاج أجيالها الأولى في الخدمة منذ مطلع الثمانينيّات.
قاصفة “شبح” على يد “نورث روب”
ليس بمقدور المقاتلات/هجوم أرضي الإيفاء بتحقيق متطلّبات دولة ذات مصالح إستراتيجية بمستوى الولايات المتحدة الأمريكية والتي تشتمل مناطق نائية عنها في عموم الكرة الأرضية، بل يتوجّب إمتلاكها قاصفات (BOMBER) قادرة على التحليق لآلاف الكيلومترات في أعماق القارات وبقاع الخصوم والأعداء من دون أن تكشفها الراردارات، فرأى الأمريكيون ضرورة إحلال قاصفات “شبح” عملاقة حديثة في قادم العقود محلّ قاصفاتهم المتاحة تحت أيديهم منذ عقود أمثال (B-52، B-1) العملاقتَين، رغم كونهما وافِيَتَين لمعظم أغراضهم الإستراتيجية لغاية الوقت الراهن.
ولكن شركة “نورث روب” الأمريكية لم تَدَع هذه المرة فرصة لسواها فكانت السبّاقة في هذا الشأن، وقتما فضّل القادة الأمريكيون القاصفة الشبح الأولى في التأريخ والتي أسموها “سبيريت/B-2” ذات مدى (12،225) كلم –أي ما يربو على المسافة بين “واشنطن وطهران” من دون إرضاع جوي– وبحمولة قصوى تبلغ (181) طن من القنابر الإعتيادبة والذكية والنووية ومقذوفات “كروز” والوقود، وبإرتفاع يعلو على (53،000) قدم، وسرعة (960 كلم/ساعة) -أي أدنى من سرعة الصوت التي لا تحتاجها “القاصفات/BOMBERS” الضخمة، ويحتمل أن تتعاقد القوة الجوية الأمريكية لإقتناء (100) قاصفة من هذا الطراز خلال الـ(20) سنة القادمات لإستبدال عدد مماثل من القاصفات القديمة “B-52” ذات المحركات الثمانية.
قاصفات “الشبح” وسوء قدر العراق
وأتى دور هذه القاصفة الشبح “B-2” ليجرّبها الأمريكيون للمرة الأولى كذلك على رؤوس العراقيين وممتلكاتهم، وذلك عند غزوهم المدمّر عام (2003) لأرض “بلاد الرافدين” التي أمست ميداناً لإستخدام أحدث أسلحتهم ومقذوفاتهم غير المجرّبة في حروبهم المتواصلة عبر قرنَين.
فمن قاعدة “دييغو غارسيا” البريطانية -وسط المحيط الهندي- أقلعت بضع قاصفات “سبيريت/B-2” لتهمر “العراق” المنكوب بشتى حمولاتها الأحدث والأنكى والأمَرّ والأثقل خلال “حرب الخليج الثالثة” (2003)، قبل أن يتبعوها -إلى جانب قاصفاتهم العملاقة الأقدم والمئات من مقاتلات الهجوم الأرضي بصحبة طرز أخرَيات خصّصتها أقطار “التحالف الدولي”- بقصفهم الثقيل وغير المسبوق على أحياء تكتظ بالمدنيين وسط مدن “الرمادي، الفلوجة” وسواها قبل أن ينهالوا بجام أحقادهم على “الموصل” وغيرها أيام حربهم العالمية –المزعومة- على تنظيم “د.ا.ع.ش” -المزعوم- في غضون الأعوام (2015- 2017).
الـ”F-35″ جيل “الشبح” الثالث
لم يَبقَ في مخيّلة الطيارين والخبراء -بعد إيلاج المقاتلة الشبح “F-22” شبه المثالية بالخدمة- سوى حلم واحد لم يتحقّق بعدُ، ألا وهو الإقلاع بمقاتلته عمودياً فالإنتقال للطيران الأفقي بزخم يتسارع حتى تبلغ سرعة تفوق الصوت قبل العودة للهبوط بها عمودياً، فلم يبخل خبراء “لوكهيد” في تحقيقه بإيجاد تقنية للتحكّم بإتجاه نفث الهواء الخارج من أنبوب النفث (JET PIPE) نحو الأسفل بدلاً عن النفث الأفقي نحو الخلف المعمول به لدى جميع طرز الطائرات النفاثة المنتجة في “آلمانيا النازية” منذ أواخر الحرب العالمية الثانية.
وقد أحدثت هذه الطائرة ثورة في تأريخ الطيران الحربي بشكل فاق كل ما في الخيال، ولربما لا تضاهيها -في العديد من مواصفاتها الأخّاذة- أية مقاتلة/هجوم أرضي سبقتها ولا ترقى لمستويات إمكاناتها وأدائها…. ولكن الحديث يطول عن مواصفاتها ومن يشارك في صناعتها وما أضافته لعالم الطيران وأسباب هذا الإهتمام المتزايد بها، لذلك نرجئ كل ذلك إلى دراسة لاحقة تأتيكم في قادم الأيام بعون الله تعالى.
روسيا الإتحادية وطائرات “الشبح”
من الطبيعي في ظلّ سباق التسلّح المحموم الذي عادت إليه “روسيا الإتحادية” في محاولتها الدؤوب –تحت قيادة الرئيس “فلاديمير بوتن”– للعودة إلى قطبِيّتِها الثنائية قبالة “واشنطن”، وهي التي ورثت من “الإتحاد السوفييتي” مصانعه العملاقة أمثال “ميك، سوخوي، توبوليف، آنتونوف، كاموف” التي أنتجت طائرات مقتدرة بمختلف الطرز والأنواع في غضون (أربعة) عقود من الحرب الباردة حفاظاً على توازن القوى الإستراتيجية، فإنها لم تتأخر كثيراً في هذا الشأن قبل أن تطلق شركة “سوخوي” مقاتِلَتا “شبح” جديرتان بالإحترام، أولاهما “T-50” والثانية “SU-57” واللتان تضاهيان نظيرتهما الأمريكية “رابتور/F-22” آنفة الذكر.
وقد إستغلّ الروسي تدخلهم العسكري في “سوريا” ليجرّبوها ميدانياً -إلى جانب المئات من أفضل مقاتلاتهم وقاصفاتهم- على رؤوس السوريين تحت ذرائع ضرب فصائل المعارضة المسلّحة ومكافحة الإرهاب.. وسنأتي عليهما كذلك وسط دراسة ثالثة بإذن الله سبحانه.