وصفت الأدبيات الإنسان، بأنه حيوان سياسي، وهي العبارة التي قالها أبو الفلاسفة أرسطو من 25 قرناً، في دلالة على انّ التمايز بين هذين الكائنين، يكمن في ان الإنسان يُسايس في سليقته قبل انْ يُهاجم، الحال الذي يدفعه الى التحايل والمراوغة، قبل الاشتباك، وهو ما يميّزه عن البهيمة التي تتّجه الى التصادم، قبل أي شيء آخر.
والزبدة في الموضوع، ان السياسة تجد سبل المنافذ قبل المواجهة الدموية، وهو أمر سديد الى حد بعيد، شرط أن “لا يدع الفرد، السياسة، تنخر إنسانيته” كما يقول الكاتب الأمريكي الساخر، مبروز بيرس.
والسياسة هي التي تسوس الدول، وتضع الخطط لإعمارها، كما انها هي التي تصنع الحروب، وتعلل الأسباب لها، مثلما تمهّد لاحقا للسلام، بعد توضيب الظروف المواتية له، وهي فن التبرير كما يقول نيكيتا خروشوف، في ان “الساسة هم أنفسهم في كل مكان، يوعدون الناس ببناء الجسور حتى لو لم يوجد نهر”.
وفي مقال، يكتب انيس منصور، عن كتابات كثيرة خاضت في السياسة بقدر ما كُتب عن الشر، وفي الحقيقة، فانّ السياسة صنعت الخير في أكثر من مكان، ولولاها لخاضت الأمم الحروب، لأبسط خلاف.
والسياسة هي تاريخ لآليات وضْع الأفكار موضع التنفيذ، وتوجيه الأفعال البشرية الى مقصد معين، والسعي الى تأويل النوايا الى تطبيقات، تؤثّر في هدي الاحداث.
وفي الغالب، يبحث السياسيون، عبر الأحزاب، والتجمعات السياسية، عن الحجج لتعزيز مصداقية البرامج، وتبرير
الحرب والسلام، والمواقف، وكل ذلك سياسة، تتطلب مهارات تدبرية مستمدة من قراءة الواقع، ومن الاختبارات المعقدة لمسارات الاحداث، فيما ترى وجهات نظر، ان تفسير القوانين وصناعة أدوات السيطرة على الجماهير، لا يتم الا عبر السياسة بكل ما تعنيه من حِيًل، ومؤامرات، ومناورات.
السياسة ارتبطت دائما بالوصولية، أشخاصا واحزابا، لانّ الكل يسعى الى الاستحواذ والهيمنة، وقد أفقدها ذلك الكثير من المصداقية، وأصبحت في نظر البعض “الشرّ الذي لابد منه”.
والى وقت تبلور النظم السياسية التقليدية، كان السياسيون يُعدون من أصحاب الفكر، لينحسر هذا الوصف الى كونهم مدراء للدول والأحزاب، كما سعت النظرة النقدية، الى قدحهم خارج التاريخ الفكري، عدا القلة الضئيلة، فيما اعتبرهم التاريخ الاجتماعي، من أصحاب اللباقة الدبلوماسية، والنفاق السلوكي، كما وصفهم بالتكتيكيين، الذين لا يعيرون للمبادئ أهمية، على رغم رفع شعاراتها حين الحاجة اليها.
صاغ آرثر لوفجوي (1873-1962) النهج الأكثر تطوراً في تاريخ الأفكار، وصولاً إلى أشكال السلوك الاجتماعي والسياسية وحتى الديني، مستنبطا جذور “السياسة” من أصول “الأفكار” الكلاسيكية خلال القرن التاسع عشر.
العقائد الفلسفية أو اللاهوتية الى الفلاسفة الرواقيين، وتوماس هوبز، وجون لوك، والمدّعين العامين لرجال الحرب النازيين في محاكمات نورنبرغ (1945-1946)، استخدموا مفردات تتغير معانيها جذريا بحسب الزمن والظروف، وهو ما يمكن ان يطلق عليه سياسة، التي تطاوع حتى مصطلحات الأفكار التاريخية لأجل مصالحها.
مشاعر الناس العاديين، والأوهام الشعبية تدخل في نطاق السياسة، منذ دأب المؤرخون الفكريون على الجدل المنهجي طارحين أسئلة من مثل “لماذا يقع على عاتق أي شخص التزام بطاعة الدولة؟”، وهو سؤال مثل غيره من الأسئلة اللا متناهية، لا يبحث عن الجواب، قدر استنهاض روح التفكير، والبدء في طرح أسئلة شك عن قدرة الساسة على إدارة النظم السياسية بطريقة عادلة، ذلك ان صحافيا أمريكيا مثل دوج لارسون لا يثق أبدا بالسياسيين، ويقترح بانه “بدلا من إعطاء السياسي مفاتيح المدينة، قد يكون من الأفضل تغيير الأقفال”.
وابتكر المنظرون، دراسة العلوم السياسية، على أمل فحص السلوك السياسي وتفسيره، وتنضيده على شكل نظريات،
كما سعوا من خلاله، الى استنهاض روح القيم في السلوكيات السياسية، لكن ذلك لم يثمر عن نتيجة لان السياسة، تصرّف فطري، جبل عليه الانسان لكي يمرر مصالحه وغاياته، عبر الوسائل المختلفة، ويتجسد ذلك في قول ريتشارد ستولمن
في ان “البعض يظن أن بإمكانه تجاهل السياسة، لك أن تترك السياسة وشأنها، ولكن السياسة لن تتركك”.