تجعل الرواية ولوجَنا إلى عوالم أخرى سهلا، دون حواجز أو عراقيل. يمكننا من خلالها أن نكون شهود عيان على حيوات متعددة، تارة غريبة عنا وتارة شبيهة لنا. الروائي أو الروائية عبارة عن حكواتي، ينسج حكايات، تبدو لأول وهلة أنها متفرقة، لا تمتّ لبعضها البعض بشيء. وكل حكاية تشكل لوحدها حلقة كاملة، لكن كل هذه الحكايات، في الواقع، ليست منفصلة، وإنما هي متداخلة بعضها ببعض داخل حلقة كبيرة. هكذا تشبّه الكاتبة والروائية التركية إليف شفق، في أحد محاضرتها باللغة الإنجليزية، على منصة Ted Talks، فترات حياتها التي تبرزُ على شكل دوائر عديدة تلمّها دائرة كبيرة. كانت بدايتها في فرنسا، حيث ولدت في ستراسبورغ عام 1971. ثم عاشت فترة المراهقة في اسبانيا. فبعد انفصال والديها عادت مع والدتها إلى أنقرا، ليعيشا مع الجدة من جهة والدتها.
كانت أنقرا سبعينيات القرن الماضي ذكورية بعائلاتها الكبيرة العدد. فكيف لأسرة من ثلاثة أفراد نسائية أن تعيش بينهم؛ طفلة وأمها شابة متعلمة ومنفتحة لكنها مطلقة وجدَة، امرأة تقليدية تؤمن بالمعتقدات. لكنها، مع هذا، رفضت تزويج ابنتها وشجّعتها لإكمال دراستها الجامعية التي جعلتها، بعدئد، تعمل بالسلك الديبلوماسي. هذا من أحد الأسباب التي سمحت لإليف شفق، وشفق هو اسم والدتها، أن تتنقل بين دول عديدة في العالم. و تشبّه، بذلك، نفسها بالرحالة أو البدوية التي هي في ترحال مستمر، حاملة حقائبها المليئة خيالا وذكريات، حنينا وغضبا، فرحا وخيبة أمل. وهي الكاتبة الأكثر مبيعا في تركيا، تكتب باللغتين التركية والإنجليزية، وتُرجِمت أعمالها إلى خمسين لغة، ومن أبرز رواياتها “قواعد العشق الأربعون”، “حليب أسود”، “أنا وسيدي”، فضلاً عن “لقيطة إسطنبول” و”الصوفي” وغيرها.”
فما شدّ انتباهي هو بناء تقديمها للمحاضرة التي تحدثت فيها شفق عن فترات حياتها وأيضا عن نظرتها إلى مهنة الكتابة. فهي تعتبر أن كل فترة من حياتها تشكل دائرة تغادرها لكي تشغل دائرة أخرى في مكان آخر أو ربما في نفس الفضاء. فالبقاء في نفس الدائرة يجعل المرء يجف ثم يموت، حسب قولها. كلنا نفضل أن ننتمي إلى مجموعة معينة أو مجموعات، لأن ذلك يوفر الأمان والحماية والاعتراف الذاتي. لكن سلبية هذا الانتماء لدائرة مغلقة تحدّ من التنمية الذاتية والانفتاح على الآخر. لذلك تعتبر نفسها رحالة، تبني مفاهيمها على أفق متحرك وتعيد بناءه باستمرار. فالتغيير في المضمون يتطلب، أيضا، تغييرا في الأسلوب.
فطريقة تفكير شفق تحيل على مفهوم التفكير البدوي الجذموري للثنائي الفرنسي الشهير جيل دولوز والمحلل النفسي فيليكس غتاري في كتابهما تحت عنوان “ألف هضبة” ( 1976). فإنهما يؤمنان بفكرة نظام يتضمن مجموعة من المفاهيم المرتبطة في ما بينها ارتباطا ضروريا ويكون هذا النظام مفتوحا. فالفكر بدون صورة، حسب قولهما، هو ما يعرف الآن بالتفكير البدوي أو البداوة في التفكير. لأن البدوي لا ينشأ عمارات فلسفية ثابتة، بل هو في ترحال مستمر.
الترحال أو البداوة ليست مجرد وسيلة للتنقل الجسدي. فحسب القراءة التي قام بها دولوز لنيتشه، فهي شكل من أشكال التفكير الذي يتبع خط الهروب والذي لا يسمح بالسقوط في شباك القوى المؤسساتية. وهذا يعود إلى التفكير الفني البدوي، في القرن التاسع عشر، الذي يغرف من منبع استقلال عالم الفن وتكوين شخصية الفرد الذي يعمل على إبراز فردانيته وهويته الإبداعية.
أما الجذمور، في علم النبات، فهو عبارة عن نباتات واسعة الانتشار، تنبثق من الأرض وتمتد فوق منطقة واسعة. تبدو وكأنها منفصلة، لكنها مترابطة تحت الأرض، تنمو أفقيا وموازية لسطح التربة، يستعملها النبات للانتشار وتكوين نباتات جديدة تطلق جذورا وسوقا عند العقد الساقية. حسب دولوز وغتاري، تكتسب هذه النبتة دلالات فلسفية متميزة.
فمفهوم الجذمور باللاتينية rhizome يقوم على ستة مبادئ:
مبدأ الترابط والتنافر، التعددية، القطيعة الغير دالة ومبدأ الخريطة.
أما التفكير البدوي الجذموري، فيعتمد على افق منفتحة وعلى عدم ثباته على تعريف مفهوم معين؛ بحيث يبقى هذا المفهوم الفلسفي عرضة للتغيير والحذف والاضافة المستمرة.
وهذا ما تدعو له شفق في كتاباتها ومحاضراتها. ففي روايتها الأخيرة، باللغة الإنجليزية، المعنونة “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”، تطرح حيوات اجتماعية متعددة، متنافرة وفي الوقت نفسه، مترابطة لتعدد هوياتها وانتماءاتها. تهرب من وسط لا يؤكد ذاتها فترسم لنفسها خريطة طريق؛ تجهل توقعات موطنها الجديد.
البنية النصية
تُهدي الكاتبة روايتها، التي تتكون من ثلاثة أجزاء معنونة؛ العقل ،الجسد والروح، “لنساء إسطنبول، ولمدينة إسطنبول التي كانت ولا تزال مدينة أنثى”، أو بالأحرى تتمناها أن تكون أنثى.
في الجزء الأول، اضطرت الراوية العليمة / شفق أن تعرضَ، في عشر دقائق وثمان وثلاثين ثانية، صيرورة مكثفة لحياة ليلى “التيكلا” التي اشتهرت بهذا الإسم بين زبنائها وأصدقائها. فبدأت بنهاية الحكاية؛ حيث وُجدت ليلى كاملة عفيفة، المولودة يوم 6 كانون الثاني عام 1947 بمدينة فان، مقتولة ومرمية في حاوية نفايات معدنية في اسطنبول وحذاؤها الأرجواني ما يزال في قدميها، يوم 29 تشرين الثاني عام 1990. كانت رابع عاملة جنس تُقتل خلال شهر حسب التلفاز الوطني. صادف خبر مقتلها تقرير الأمم المتحدة للتدخل العسكري في العراق واستقالة السيدة الحديدية في بريطانيا والتوتر بين تركيا واليونان وإعادة توحيد فريقي كرة القدم في الألمانيتين الغربية والشرقية وإلغاء الشرط الدستوري الذي يفرض على المرأة التركية المتزوجة الحصول على موافقة الزوج للعمل خارج البيت وحظر التدخين على الرحلات الجوية التركية.
لقد توقف قلب ليلى التيكلا عن الخفقان، لكن دماغها ما زال يقاوم حتى النهاية ولمدة عشر دقائق وثمان وثلاثين ثانية أخرى؛ حسب تشخيص سابق لأطباء العناية المركزة في كندا.
وخلال هذه المدة القصيرة ستستعرض ليلى التيكلا ذكرياتها، دقيقة تلو الدقيقة، من خلال مذاق ونكهات أطعمة سبق أن تناولتها تماما كما حدث مع الكاتب الفرنسي مارسيل بروست / الراوي عند تناوله كيكة المادلين في روايته “البحث عن الزمن المفقود”.
ففي أول دقيقة التي توقف قلبها عن الخفقان ومازالت الخلايا العصبية نشيطة تربط بعضها ببعض وتمدها بطاقة أخيرة، كانت أول ذكرى مرّت بعقلها هي ذكرى الملح الذي غُطست فيه إبان ولادتها لامتناعها عن إصدار الصرخة الأولى. ولدت ليلى في عائلة أكارسو في مدينة فان التركية. تزوج أبوها هارون من والدتها، بينّاز، وهي في السادسة عشرة زواجا غير رسميا. بيناّز التي بقوا يعيّرونها بالفقر، هي ضرة الزوجة الأولى سوزان العاقر. هذه الأخيرة التي أصبحت أمّا لليلي وبينّاز، أمها البيلوجية، عمّتها.
دقيقتان:
بعد توقف قلبها بدقيقتين، تذكرعقلها مذاقين متناقضين؛ الليمون والسكر. ففي حزيران عام 1953، رأت نفسها طفلة في السادسة من عمرها، في بيتهم الكبير، بمدينة فان، بجدرانه المزينة بجداريات فنية الذي ينمّ عن تاريخ عريق. لقد سكن هذا البيت، قبل الحرب العالمية الأولى، طبيب أرميني مع زوجته وبناته الستة اللواتي كنّ يعشقْن الموسيقى والغناء. لكن هذه العائلة خرجت ولم تعد وتركت ورائها ممتلكاتها الثمينة. وحصل والد هارون، محمود (الأغا الكردي) المتنفذ على هذا البيت لقاء دوره في تهجير الأرمن من هذه المنطقة، اللذين اُرسلوا في جماعات إلى صحراء دير الزور، حيث لم ينج منهم إلا القليل. اكتشفت ليلى أن الأمور ليست كما تبدو عليه؛ يوجد طعم مرّ تحت الطعم الحلو.
ثلاث دقائق:
بعد توقف قلب ليلى التيكلا بثلاث دقائق، تذكرت القهوة المنكهة بالهيل؛ قهوة مركزة ارتبط مذاقها في عقلها بشارع المواخير في إسطنبول. كان ذلك في شهر أيلول عام 1967، تذكرت ليلى شارعا مسدودا بجوار المرفأ، الممتد بين صفوف المواخير المرخصة. وفي الجوار، توجد مدرسة أرمينية وكنيسة يونانية وهيكل لليهود الشرقيين وتكية للصوفيين وأبرشية للروس الأرثوذكس. وهذا كله ينتمي إلى الماضي الذي أسسه السلطان عبد العزيز في القرن التاسع عشر. كانت ليلى آنذاك في السابعة عشرة من عمرها، حين باعها زوجان منغمسان في الدعارة إلى أول ماخور، ولم يكن في حوزتها إلا خمس ليرات وعشرين قرشا. وذلك حدث قبل ثلاث سنوات. لكنها تعتبر ذاكرتها مقبرة للماضي، دفنت بها مقاطع من حياتها. ففي هذه السنة، تعرفت ليلى على نالان في الزنزانة، وهي من عائلة ثرية من الفلاحين ومربي المواشي في منطقة وسط الأناضول. جاءت إلى إسطنبول لكي تصحح الخطأ السافر الذي اقترفته الطبيعة. أسمتها ليلى نوستالجيا. وكانت نالان تدعى عثمان. هرب في ليلة زفافه إلى إسطنبول. وهي أحد أصدقائها الخمسة.
أربع دقائق
إن رائحة البطيخ ومذاقه أعادها إلى صيف أب 1953 ورحلة عائلة أكارسو إلى بلدة معروفة بصيد الأسماك على الساحل الجنوبي. هناك بدأت ليلى تعيش كابوس الاعتداءات الجنسية من قبل عمّها وعمرها لا يتجاوز ست سنوات واستمر ذلك خلال زياراته للعائلة.
كان صديقها الوحيد في هذه القرية، “والشجرة التي تقدم لها الحماية والملاذ” بالرغم أنه يعاني أيضا من التنمر، سنان، ابن صيدلية القرية. وهو أيضا أحد أصدقائها الخمسة. كان أبوه الذي توفي في الحرب. يعتبر “أن سكان القرية أناس مسحوقين تحت وطأة الدين والمعتقدات الصارمة”. وكان يؤكد “أن المرء لا يستطيع تغيير الجغرافيا، إلى أنه في وسعه أن يحتال على القدر”.
خمس دقائق
بعد مرور خمس دقائق على توقف قلبها عن الخفقان، كانت ذكرى ولادة شقيقها تاركان مقرونة برائحة يخنة الماعز المتبل بالبهار ومذاق الكمون والثوم والبصل. ازداد تاركان بمتلازمة داون وكان ذلك بمثابة عقاب رباني للأب هارون. فامتنع هذا الأخيرعن شرب الخمر وخياطة فساتين النساء ومنع أسرته من سماع الراديو وتصفح مجلات الموضة ونجوم الفن.
في 13 نيسان عام 1963، صادف هذا العام أحداثا كثيرة، اطلعت عليها ليلى في الجريدة اليومية؛ اعتقال مارتن لوثر كنغ لاحتجاجه على سوء المعاملة. وفي الأخبار المحلية، اضراب فلاحي الأناضول بسبب الفقر والبطالة. حينها بلغت ليلى السادسة عشرة.
كان سنان ينقل أخبار الراديو ويمدّها بالمجلات، فعلمت بحصول المرأة الإيرانية على حقوقها السياسية وأن أمريكا خسرت الحرب في الفيتنام. كما أن سنان يعرف الكثير عن الحربين العالميتين الأولى والثانية. لذلك أسمته سابوتاج – تخريب. بالإضافة إلى ذلك، كانا يساندان بعضهما البعض كونهما يعانيان من التنمر خصوصا في المدرسة.
ست دقائق
بعد ست دقائق على توقف نبضات قلب ليلى عن الخفقان، مرّ في خاطرها ذكرى الموقد المشتعل ورائحة الخشب. كان ذلك يوم 2 حزيران عام 1963 وهو يوم زفاف ابن عمها. وأرعبها حزام الطوق الأحمر الذي يلف خصر العروس ويرمز إلى العفّة. فشعرت بصخرة على صدرها لأنها تعرف عقاب الفتاة الغير عذراء. هكذا بدأت ليلى تؤذي نفسها بأي شيء حاد للتكفير عن ذنبها. وكانت اعتداءات عمّها تتكرر كلما سنحت له الفرصة ويوهِمها كل مرّة بأن القذارةَ موجودةٌ فيها. أما والدها فكان يعلّمها القرآن ويكرّر لها بأن الله يرى كل شيء، لكنها ترى أن الله لم يساعدها عندما تحتاجه.
سبع دقائق
إذ واصل عقل ليلى القتال، تذكّرت طعم التربة، الجاف والطباشيري والمرّ. فالطباشير ذكّرها بأطفال كانوا يطاردون رجلا عجوزا يزيديا، فرسموا حوله دائرة بالطباشير وتسمّرَ في مكانه. فهذه الدائرة هي أيضا تمثل شكل لعبة الهيلا هوب التي منعها والدها من اللعب بها كالعارضة الأمريكية التي رأتها في مجلة “الحياة”. فكيف يمكن أن يصبح الطوق الدائري الذي عزل إنسانا، أوقعه في فخ، رمزا للحرية المطلقة ونعمة لإنسان آخر؟” فهذا التوق الذي يلف خصر الأمريكية يمثل لها الحرية، أما اليزيدي فكان ينتظر أحدا يمحو له خط الطباشير لكي يخرج من الدائرة.
أما التربة فقد كانت تلتهمها عندما عرفت أنها حامل من عمّها. وباحت بذلك لعمتها بيناز وهذه الأخيرة أخبرت أباها الذي لم يرد أن يصدق ذلك لكي يحمي أخاه. أما الطعم المرّ فقد اقترن باكتشافها حقيقة والدتها البيلوجية؛ وهي عمّتها بينّاز.
ففي أيلول عام 1963، قرر الأب منع ليلى من الذهاب إلى المدرسة. وفي تشرين الثاني داهم المرض شقيقها تاركان وغادر الحياة. وفي عصر نفس اليوم تركت ليلى البيت. وعرفت أنها “لا تستطيع العودة، وأن هذا الموت البطيء الذي وجدت نفسها فيه أصبح هو نفسه الآن حياتها”.
تعرفت على جميلة في المستشفى أثناء الفحص الطبي لعاملات الجنس وهي أول صديقة لها في إسطنبول “وهي أحد خمسة”. ولدت جميلة في الصومال لأب مسلم وأم مسيحية توفيت باكرا. عند بلوغها السابعة عشرة، انضمت جميلة إلى اجتماع في الكنيسة. ولم يجد ذلك قبولا عند العائلة فأصبحت منبوذة. فخلال فترة حكم سياد بري، جاءت مع العديد من الافارقة إلى إسطنبول هربا من الحرب الأهلية والعنف الديني والعصيان السياسي.
ثماني دقائق
مرت ثماني دقائق وتمثلت الذكرى التالية، التي تركت أثرا على جسدها في آذار عام 1966، في رائحة حامض الكبريتيك، لقد حاول أحد الزبائن، المختل عقليا، أن يفرغ محتوى الزجاجة على وجهها. فأصاب، لحسن حظها، ظهرها.
لقد ازداد البؤس والعنف في المدينة، طوال فصل الربيع لعام 1966. واشتبكت الفصائل السياسية وقتُل الطلاب في الجامعات. لكن ثمة امرأة عربية واحدة كان يروق لليلى أن تقضي الوقت برفقتها، امرأة قامتها قصيرة إسمها زينب 122. وهي أحد خمسة؛ ولدت في قرية جبلية شمال لبنان. كانت تتمنى أن تكون رحالة وهي قارئة الفنجان في أوقات فراغها. ففي نيسان عام 1964، اشتغلت في صالون حلاقة في إسطنبول لساعات طوال لم يتحملْها جسمُها. فعرضت عليها سيدة العمل كمنظفة في الماخور.
تسع دقائق
تذكرت ليلى د/علي الطالب اليساري ومذاق حلوى الشكولاته المحشوة بالكراميل والكرز والبندق المطحون. ففي تموز عام 1968، كان الأسطول الأمريكي السادس في طريقه لكي يرسو على ضفاف البوسفور. لكن مظاهرات مناهضة للنظام أفشلت قدوم سفينة الناتو. كان من ضمنهم د\علي الذي هرب من الشرطة وآوته ليلى في الماخور. وأصبح يتردد عليها ويجالسها في غرفتها ويحكي لها عن والده العامل في مصنع فورد في كولونيا وعن روزا لوكسمبورغ التي اغتالها الجيش ورماها في ترعة. كما أنه كان يكلمها كأنها ندا له. فراقت لها هذه المساواة.
عشر دقائق
بمرور الوقت، استعاد عقل ليلى مذاق بلح البحر الأسود المقلي في زيت غامر. ففي تشرين عام 1973، اكتمل جسر البوسفور، بعد ثلاث سنوات من العمل. وهو رابع أطول الجسور في العالم. يلتقي البحر الاسود ببحر مرمرة من جهة في حين يجري بحر إيجه ليلتقي بالبحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى. وقد صادف احتفال التدشين الذكرى الخمسين لتأسيس جمهورية تركيا. في ذالك اليوم،
زار د\علي ليلى وهو محمل بمنشورات ضد النظام وبلح البحر المقلي. لقد كاد أن توقفه الذئاب الرمادية – الفاشيون المسيطرون على المنطقة.
ففي تلك الفترة، تعرفت ليلى على حميراء بالصدفة عندما وجدتا، على الطريق، قِطّا أسودا مُصابا وقرّرتا أخذه إلى بيطري لعلاجه. فحميراء أحد خمسة،
ولدت حميراء في ماردين، على مقربة من دير القديس غابرييل في سوريا وهو اقدم دير في العالم للسريان الأرثوذكس. اُرغمت على الزواج وهي في السادسة عشرة من صديق والدها في التجارة والذي كان يعنفها فهربت إلى اسطنبول وكانت خائفة أن تقع ضحية غسل العار. لقد كانت تعمل مغنية في كازينو على رصيف الميناء.
عشر دقائق وعشرون ثانية
في الثواني العشرة الأخيرة التي سبقت توقف دماغ ليلى عن العمل توقّفا تامّا، تذكّرت قالبَ حلوى زفافها مع د\علي وتركها للمهنة واستأجراهما، في شارع هيري كافكا، شقة رقم 7 في الطابق العلوي. لكن فرحتها لم تدم طويلا؛ لأن د\علي قُتل أثناء مظاهرات الأول من أيار، في ساحة التقسيم، من قبل أحد القناصين عام 1977.
عشر دقائق وثلاثون ثانية
قبل أن يستسلم دماغ ليلى التكيلا نهائيا، تذكرت مذاق الويسكي بالشعير، وكان آخر طعم بين شفتيها قبل وفاتها. ففي تشرين الثاني عام 1990، بينما كانت ليلى وصديقتها جميلة في البيت رنّ الهاتف. كانت مديرتها السابقة في الماخور تطلب منها خدمة؛ أن تلتقي إبن باشا وتقنعه بالزواج من فتاة اختارها له والده. يبدو أن للشاب المُثلي عشيق منذ زمن طويل. وافقت بصعوبة. فذهبت للقاء الشاب في فندق الإنتركونتنتال لكي تعلّمه قواعدَ الإغراء قبل ليلة الزفاف ربما يتماثل للشفاء، حسب والده الباشا المتدين والمحافظ جدا. وخلال حديثها معه تفهّمته وغادرت المكان. وهي في طريقها إلى بيتها، اعترضتها سيارة مرسيدس وعرضوا عليها الركوب لتشاركهم عيد ميلاد صديق وأغروها بمبلغ كبير، كانت هي فعلا في حاجة إليه لعلاج صديقتها جميلة التي تعاني من مرض الذئبة. ففي الطريق، انقبض قلبها. لكن فات الآوان.
الثواني الثماني الباقية
كان آخر ما تذكرته ليلى هو مذاق قالب الحلوى بالفراولة في السادس من كانون الثاني الذي أعدّته بنفسها. لقد أقام، بمناسبة عيد ميلادها، أصدقاؤها الخمسة، سنان المُخرب، صديق الطفولة والذي لحق بها في اسطنبول، نوستالجيا نالان المتحوّلة جنسيا، جميلة، زينب 122 وحميراء المغنية حفلة لها. لقد كانت تظن أن العدد خمسة مميز؛ فالتوراة تتألف من خمس كتب وأركان الإسلام خمسة وفي البوذية خمسة طرق، في حين أن شيفا كشف عن خمسة وجوه تنظر إلى خمسة اتجاهات مختلفة، وأما الفلسفة الصينية فتدور حول خمسة عناصر؛ الماء والنار والخشب والمعدن والأرض. وهناك خمسة مذاقات متعارف عليها؛ الحلو والمالح والحامض والمر والأومامي (طعم الغلوتامات). كما يعتمد إدراك البشر على خمس حواس؛ السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
هكذا حاول العقل تكثيف حياة برمّتها في وقت يستغرق غليان ماء في إبريق. أما في الجزء الثاني “الجسد”، فسنرى الأصدقاء الخمسة الذين يريدون انتشال جثة صديقتهم ليلى، التي رفض أهلها إستلامها، من مقبرة “كيروس” للمنسيين والغرباء والمنبوذين واللاجئين والمهمّشين، وذلك لكي يردّوا الاعتبارَ للجسد ويمنحوه قبرا وليس رقما مجهولا؛ ولأنسنة المجّرد من الانسانية. فبعد أن نُبذت ليلى من جهة قرابة الدم فقد وجدت في أصدقائها قرابة الماء. لقد كانوا “ضعافا منفردين، ولكن أقوى في اجتماعهم”.
أما في الجزء الأخير المعنون “الروح”، فقد نجح الأصدقاء الخمسة في إيجاد قبر الجثة وانتشالها رغم ملاحقة الشرطة لهم. فلقد غامروا وألقوا بالجثة في آخر لحظة في مضيق البوسفور كما كانت ليلى تتمنى أن تعيش سمكةٌ في كونٍ غنيّ بالألوان الطبيعية. وقد شاهدت كنوزا ضائعة وهياكل صدئة لمراكب غارقة ومحضيّات دُفعن بهنّ دفعا من نوافد القصر وهنّ داخل أكياس تماما كما نقرأ في قصائد “الشرقيات”(1829) للكاتب الفرنسي فيكتور هوجو. لكن ليلى أضحت سعيدة لكونِها أصبحت جزءا من هذا الملكوت النابض بالحياة والبرّاق مثل ولادة شعلة جديدة. لقد “صارت حرّة أخيرا”.