حمل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ملامح نهضة حضارية جديدة لم تختلف عن الحضارات السابقة في قدرتها على التعلم والاستفادة سواء في شكلها المادي، عن طريق الفتوحات الجغرافية أو في شكلها المعنوي، بنشر الأفكار الحضارية، وما ظهر تطبيقه في بلاد الأندلس التي استمرت الحضارة العربية الإسلامية فيها لمدة ثمانية قرون، وهو زمن حضاري يقارب المدة التي عايشتها الحضارة اليونانية والرومانية في وقت ازدهارهما. فقد كانت هناك مدن حضارية لها إشعاعها الفكري والثقافي في شمال غربي المتوسط، مثل مدينتي قرطبة وغرناطة، مما يؤكد دور المدائن الحضارية في تاريخ التطور الحضاري، فالمدن الحضارية الإسلامية استمرت في تأثيرها الثقافي والحضاري على نهج المدن السابقة لها، كالإسكندرية وروما وأثينا في وقت ازدهار الحضارة اليونانية والرومانية، وكذلك المدن المصرية القديمة، أو مدن بلاد الرافدين.
لقد كان من السهولة أن تتأثر شعوب أوروبا مثل، الأسبان وفرنسا وشمال المتوسط بهذه المدائن الحضارية، وتبدأ ملامح نهضتها انطلاقاً مما خلّفه العرب والمسلمون من ذاكرة حضارية في هذه البلاد. فانطلقت الفتوحات الإسبانية والبرتغالية عقب ذلك مباشرة لتكتشف العوالم الجديدة فيما وراء البحار في الأميركيتين وفي المحيط الهندي. وبدأت النهضة الحديثة تبزغ في شكل منهجي وعلمي في الأفكار العقلانية، مكملة عقود الألفية الثانية التي بدأها العرب وتنتهي بالحضارة الحديثة التي قفزت قفزات غير مسبوقة، سواء من ناحية الأفكار والنظريات العلمية أو من ناحية التطور الثقافي والحضاري والتطبيقات التكنولوجية وغيرها.
بدون أدنى شك هناك أسباب كثيرة لعملية التراجع، أبرزها الاستبداد بشقيه الديني والسياسي، فالعقلية العربية الإسلامية لم تعد مثلما كانت في السابق حرة مستقلة بخاصة في مجال الفكر والإبداع، وإنما أصبحت أسيرة قيود الفكر الديني المتشدد الرافض بالأساس لأفكار الحضارة الحديثة. ولم يكن مستغربا، أن تنشأ في سنة 1928م حركة دينية راديكالية مناهضة للحداثة وهي (جماعة الإخوان المسلمين)، في وقت كان المجتمع المصري في النصف الأول من القرن العشرين يخطو خطوات جادة نحو عملية الحداثة سواء في الحياة السياسية التي شهدت حينها تعددية حزبية وحياة نيابية ديمقراطية، أو حتى على المستوى الاجتماعي والثقافي مع بداية ظهور طبقة متوسطة متعلمة ومنفتحة على الأفكار العصرية.
الأخطر في إقحام الدين أيديولوجيا بالسياسة هو أنه سينزع قدسيّة التعايش الاجتماعي فيسحق كل من يعارض أفكاره ومعتقداته الحزبية بفرض قدسيتها الدينيّة التي لا تقبل الشراكة. من توخي فائدة هذا الخطر لدى المستعمر وجملة مهام أخرى تم التنظير لتأسيس الأحزاب والجماعات الدينية بمختلف اتجاهاتها الطائفية، بل حتى تسليحها وتمويلها واستخدامها في حروب الوكالة. لقد حرص الاستعمار على خلق تناقضات وإحداث صراعات داخلية بين الشعوب عندما يشعر بتهديد نفوذه ومصالحه. إزاء هذا التخبط والضياع والهوس الفكري بسيطرة أرستقراطية رجال الدين المالية واللاهوتية كان لابد أن تنتج بدورها مؤسساتها الديكتاتورية التي ترفض الديمقراطية وتكفر المجتمع. وضمن هذا المستوى للتيار للديني، هناك فرق بين الشكل والمحتوى، ولهذا نلحظ أن الشكل بقي محكوما بالعمامة والجلاليب والذقن فتحطمت القيم الدينية للكثير من شبابنا رغم الاصرار على استدامتها من قبل الطبقة الدينية الى مستوى تحدي قواعد اللعبة العقلانيّة. بالتالي أدرك المجتمع العربي وتحديدا فئة الشباب بأن لا طريق لهم سوى تحديث ثقافاتهم، فالعملية ليست استئصال عضو فاسد من الجسد بقدر ما هي كيف يتم ذلك بدون أن يتضرر باقي الأعضاء ويموت الجسد. فالتفاعلات تؤكد أن الديمقراطية ليست فقط أفكاراً مجردة، بمقدار ما هي ترجمة في شكل مؤسسات تحميها في الداخل.
وتأسيسا لما تقدم، فإن علاقة الدين بالسياسة أصبحت تمثل الإشكالية الكبرى بل الخطر الكبير على مجتمعاتنا، ﺧﺎﺻﺔ بعد اتهام ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻴﺔ ﻛﻔﻜﺮﺓ ﻭﻛﺘﻮﺟﻪ من قبل رجال الدين. من هنا كان من الضروري إعادة رسم العلاقة بين البعدين ﻋﻠﻰ نحو من التمايز والاستقلالية المتبادلة، بحيث لا يتم معها تديين السياسة ولا تسييس الدين، وذلك لأن هناك من يتبنى هذه الفكرة، أن الدين شأن خاص والسياسة شأن عام. بمعنى أن الدين علاقة بين الفرد وربه، والسياسة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالعلاقة الأولى ذات بعد غيبي وذات قدسية خاصة، ولا يمكن إخضاعها لتدخل اجتماعي سياسي. وأما العلاقة الثانية فهي ذات بعد مادي طبيعي لا تملك قدسية، بحيث تسمح بمناقشتها وممارسة أشكال من الرقابة والتدخل والمحاسبة ما دام أن التعاقد هنا اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، لكن في الدين تعاقد فردي بين الخالق والمخلوق.
وفقا لما تقدم، ونتيجة لهذا التناقض والتضاد ما بين الراديكالية وبين الحداثة كان هناك صراع شديد على عقلية المجتمع، فانزوى أصحاب التنوير والنهضة في مقابل الراديكاليين الذين وجدوا بيئة مناسبة لنمو أفكارهم، سواء في الجهل وغياب التعليم أو في انتقال هذه المجتمعات لتعيش فترة تحت حكم الاستبداد في النصف الثاني من القرن العشرين. في السياق ذاته أن خطورة التنظيمات الراديكالية برزت عندما استطاعت هذه الحركات في ظل الاستبداد السياسي أن تقوم بعملية التنشئة والتجنيد للشباب وفقاً لعقيدة أيديولوجية ضيقة الأفق معادية في مضمونها للمعرفة وعملية التقدم، فأصبحت لدينا عقليات مجتمعية ضعيفة تجاه الدين والتدين متخلفة تجاه المعرفة والتقدم. بيد أن نهضة هذه المجتمعات تبدأ بوضع الدين في إطاره الطبيعي وإعادة النظر في التفسيرات الدينية، والبعد عن التوظيف الأيديولوجي والسياسي، وليس بمعاداة الدين، في الوقت نفسه يجب الاستفادة من المعرفة الحديثة وبأفكارها المختلفة.