منذ نهاية الحرب العالمية الاولى 1917وخروج العرب المسلمين من تحت جبة الامبراطورية العثمانية اثبتت الوقائع أن العرب وخاصة في منطقة الشرق الاوسط عجزوا عن ايقاف مشاريع المعسكر الغربي وفي المقدمة منه الولايات المتحدة الاميركية،وكانوا اشبه بالمتفرجين على انفسهم واحوالهم بينما كانت القوى الاستعمارية(بريطانيا وفرنسا) ترسم حدودا جديدة للمنطقة على الخرائط في معاهدة سايكس بيكو من غير ان يكون لشعوبها اي حضور.
ولو استعرضنا الاحداث الدراماتيكية التي مرت على المنطقة على الاقل منذ اعلان قيام دولة اسرائيل عام 1948 سنجد بأن الازمات كانت تلد منها ازمات اخرى اشد تعقيدا ولم تستطع الانظمة العربية ان توقف حالة التراجع التي نالت من مكانة العرب كقوة اقليمية إذ لم تعد مصر ولا السعودية تملكان ذلك الثقل الاقليمي هذا الى جانب خروج العراق وسوريا من لعبة التوازنات،فالعاصمة العراقية بغداد لم تعد تشكل مصدر قلق اقليمي بعد سقوط نظام صدام حسين 2003 ودمشق هي الاخرى لم تعد تتزعم محور الصمود والتصدي بعد رحيل حافظ الاسد وسقوط النظام في دوامة الحرب الداخلية ضد قوى المعارضة منذ مطلع العام 2011 .
وفي مجمل الاحداث ربما لم يفلح العرب إلاّ في تأخير بعض المتغيرات الواقعة عليهم لفترة ما لكنهم لم يتمكنوا من تفاديها،وهذا الفشل يشمل جميع الانظمة والقوى السياسية الفاعلة في الواقع.
في مقابل هذا التداعي العربي نواجه تمدد المجال الحيوي للدولة اليهودية،حيث تمكنت من فرض واقعا جديدا على معظم الاراضي التي احتلتها بعد العام 1967 بما في ذلك القدس،كما ان الدور الايراني لم يشهد تراجعا في نفوذه حتى بعد سقوط الشاه عام 1979 ومجيء نظام الملالي بل على العكس تصاعدت وتيرته حتى امسى يشكل خطرا كبيرا على امن المنطقة بما يمتلكه من اذرع محلية استطاع ان يجندها ويخندقها في سياق مشروعه للتمدد وامتلاك منافذ حيوية برية وبحرية بغية توسيع نشاطه الاقتصادي والسياسي مابين العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، والامر ذاته ينطبق ايضا على الاتراك الذين عززوا من دورهم الاقليمي بعد مجيء حزب العدالة والتنمية عام 2002 وكان للطفرة الاقتصادية التي شهدتها تركيا اثر كبير في توسع هذا الدور .
وسط هذه الصورة يمكن ملاحظة هشاشة الحضور العربي واقتصار دوره على تلقي الصدمات من دون ان يمتلك القدرة على استيعابها منذ نكسة حزيران 1967 مرورا بغزو الكويت من قبل الجيش العراقي في 8 اب 1990 وما اعقب ذلك الحدث من تداعيات خطيرة على صعيد تمزيق العلاقات العربيية العربية ، ثم جاء سقوط بغداد في 9 نيسان)ابريل ) 2003 ليشكل اكبر تصدع في الجدار الشرقي للمنطقة العربية مما فسح المجال واسعا لاختراق العراق وخضوعه ارادته السياسية للهيمنة الاميركية والايرانية، ولعل احداث الربيع العربي التي ابتدأت مع نهاية العام 2010 في تونس والتي إمتدت في ما بعد الى ليبيا ومصر وسورية واليمن كانت تمثل مرحلة ماقبل الذروة من هذا السيناريو ثم جاء الحدث الابرز والاشد خطورة ممثلا بسقوط مدينة الموصل العراقية تحت سلطة تنظيم داعش واعلان ابي بكر البغدادي زعيم التنظيم قيام دولة الخلافة الاسلامية من على منبر جامع النوري الذي يتوسط الموصل القديمة في 5/ 7 /2014 .
ازاء هذا المنحى المستمر بالانحدار نحو الهاوية ليس هناك من جدوى للصراخ والاستمرار في اطلاق شعارات المقاومة الطنانة التي اخذت الكثير من احلام الشعوب العربية ولم تمنحها اي شيء طالما دعاة المقاومة مازالوا يفهمونها على انها مواجهة عسكرية فقط ،بينما يقودنا هذا المفهوم الى ماهو اوسع بكثير من هذا الفهم الساذج والاحمق ، على اعتبار المقاومة مشروعا ثقافيا بمستويات متراكبة،وبموجبه ينبغي ان تعاد صياغة المفاهيم والاسس القيمية التي ننظر من خلالها الى انفسنا وتاريخنا ومستقبلنا ومعتقداتنا.
ماهو مهم بهذا الخصوص اعادة تقييم نظرتنا الى الآخر وفي مقدمة ذلك اولئك الذين تعوّدنا في ثقافتنا المتوارثة أن نضعهم في خانة الاعداء المفترضين.
انا على درجة من اليقين بما يجعلني اذهب بالاتجاه الذي يدفعني الى الاقرار بأن العراق الذي عرفناه مع ابائنا واجدادنا خلال المائة عام الماضية ودفعنا لاجل بقائه عشرات القرابين وكتبنا له عشرات القصائد تغزلا بشماله ووسطه وجنوبه اصبح اليوم امام مفترق طرق كلها ستؤدي به الى نتيجة واحدة يكون فيها على بعد خطوات قريبة جدا من الاختفاء بصورته التقليدية المحفوظة في الوجدان بعد أن يختفي من خرائط المناهج المدرسية ،ولعل اشارة البدء بمسار تفككه جاءت يوم 25 ايلول (سبتمبر) 2017 عندما اجرى اقليم كوردستان العراق استفتاءه تمهيدا لعملية انفصاله عن الدولة العراقية واعلان الدولة الكوردية .
لامحالة من الاقرار بهذه النهاية التي سيقف العراق عند حدودها حيث سيتقسم الى ثلاث دويلات صغيرة:شيعية، سنية، كوردية.
بمعنى ان دولة المواطنة التي حلم بها العراقيون من بعد ان صدقوا وعود الاميركان والقوى العراقية التي جاءت بهم الى السلطة بعد نظام البعث لم تعد مشروعا قابلا للوجود على الاقل في إطار ماهو منظور .
على مايبدو فإن العراقيين يراقبون عقارب الساعة وهي تدور مسرعة كما لو انها افاع سامة تلدغهم بعد ان ترسخ في داخلهم شعور عميق بأنهم لامحالة سيخرجون من جنة العراق الموحد الذي كان جميلا في يوم ما ، ليذهبوا متفرقين مفترقين بثلاثة مجموعات الى عالم سفلي اركانه تنهض على اسس مذهبية وقومية وفق ما طرحه الاميركان في منتصف تسعينات القرن الماضي عندما كانت تجري الاستعدادات لاسقاط نظام البعث .
وعلى الرغم من ان هنالك الكثير لايزال يرفض الاقرار بأن مشهد العراق الموحد قد بدأت اولى علامات تفككه مع بداية اعلان استفتاء كوردستان إلاّ هناك من بدأ يهيء نفسه حتى يتأقلم مع هذه المستجدات سواء كان ذلك يأتي من باب القناعة أو نتيجة شعور عميق بعدم جدوى الوقوف بوجه هذا التيار العاصف الذي اخذ بالمنطقة العربية بخرائطها القديمة المقدسة نحو نقطة اللاعودة والوقوف امام واقع جديد بخرائط جديدة .
سيتهمنا البعض باليأس هذا إن لم يرتفع الاتهام الى درجة الترويج للمشروع الاميركي الصهيوني الامبريالي .
في واقع الامر انا شخصيا لم اعد اؤمن بكل الايدلوجيات التي عرفها جيلي والاجيال التي سبقته واحمّل كل الذين امنوا بها وروجوا لها وقاتلوا من اجلها مسؤولية ماوصلت اليه الاوضاع الى جانب مسؤولية الحكومات التي اعتقلت شعوبها في انظمة بوليسية فشلت في كل شيء بعد ان نجحت في زرع الفشل داخل بنية المجتمعات التي حكمتها هذا اضافة الى ان من يحكم البلاد الآن ليس مشغولا في بناء كيان متين للدولة والوطن بقدر انشغاله في الاثراء على حساب اشاعة وتعميق صورالفساد في شرايين الدولة والمجتمع ،وهذا ماسيسهل عملية تآكل خارطة الوطن ،ولو كانت الحال على العكس من هذا المسار حيث سلطة القانون مسلطة على كل من يتجرأ ويمد يده الى المال العام ليسرقه عندها لن يفكر اي طرف النيل من هيبة الدولة او الانفصال عنها .