23 ديسمبر، 2024 2:28 ص

بييرو فيروتشي وردة واحدة تتفتح

بييرو فيروتشي وردة واحدة تتفتح

في أوقات ما تتراخى العوائق الداخلية الغامضة ونعايش مباشرة ما كنا نتوق إليه ونتمناه في حياتنا، أو ما أحسسناه بغموض، أو ربما ما سمعنا به فحسب، أو حتى ما لم نظنه أبداً. في تلك اللحظة التي لا تضاهى ان إدراكاً مدهشاً وجميلاً يدخل وعينا: لقد اتصلنا بالحقول العليا من كينونتنا، وعينا الأعلى. ” حدث كل ذلك في لحظة واحدة، إلا أنها كانت أهم لحظات حياتي”. قالت امرأة واصفة هكذا تجربة. ثم أردفت: ” كان ذلك حقيقياً، كنت أمر في حالة نوم طويل، وفجأة استيقظت. كان هنالك الحب الغامر. ولم أكن أنا من كانت تحب أو شخص ما كان يحبني، الحب كان هنالك فحسب. حتى الهواء بدا حيّاً، الخواء كأنه ينبض بالحب. فجأة كل شيء اصبح ذا معنى”. والنتائج العملية لم تكن اقل شدة من المشاعر الذاتية. هذه المرأة التي رفضت ان تطعم نفسها لبضعة شهور وكانت على وشك الموت جوعاً قررت ان تأكل ثانية بعد هذه التجربة وببطء استعادت صحتها.

على الرغم من ان هذه ” الظواهر” ذات قيمة جوهرية ووثيقة الصلة بحياتنا، إلا أنها أُقصيت من موضوع علم النفس لسنوات عديدة وأحيلت الى القوى الخارقة للطبيعة، وفُسرت كحالة مرضية او براعة من الإيحاء، ونادراً ما بحثت كحقائق طبيعية كما لو كنا ندرس ورقة، طائراً، أو نباتاً على سبيل المثال. لحسن الحظ فإن الدراسات المعاصرة المنشورة قدمت المزيد من الوصف والتفسير الوافي والمُرضي، وبينت البحوث كيف أن حالات الوعي الأعلى super conscious او النفس العليا transpersonal ليست حكراً على القلة بل هي حدوث شائع لحد ما في حياة الكثير من البشر. ومع ذلك اننا مازلنا بعيدين عن كوننا قادرين لنجيب بشكل تام على بعض الأسئلة الأساسية المتعلقة بأوضاع النفس العليا. على سبيل المثال كيف تجسد نفسها؟ ما هو تأثيرها، ما هو معناها ووظيفتها في الوجود البشري؟ ما هي القوانين التي تحكمها؟ أيّة تقنيات يمكن استخدامها لإثارة تلك الحالات؟ الإجابة عن هذه الأسئلة حقاً انه عمل ضخم. إن البحث في هذا الفصل والفصل القادم بعيد جداً بالطبع عن ان يكون شاملاً، انه محاولة لصياغة بعض الفرضيات العملية.
ربما بوسعنا البدء بالإشارة كيف انه من غير الملائم الاعتقاد بأنه ثمة حالة واحدة مستقرة من الاستنارةenlightenment أو التحرر يمكن بلوغها مرة والى الأبد والاستمتاع بها بشكل دائم. أذكر بوجه خاص حينما جادلت “أساجولي” بصدد هذه المسألة، أجاب مبتسماً: ” الحياة هي حركة، وان ممالك الوعي الأعلى في تجدد متواصل، بهذا الاستكشاف فإننا ننتقل من رؤيا إلى أخرى. من بهجة إلى ثانية، آمل ألا تبلغ أي حالة مستقرة، ” الوضع المستقر يعني الموت”.
لفهم هذا يكفي التفكر في بعض الاشكال من بين أُخر لا تحصى تقريباً تتخذها تجارب الوعي الاعلى:
رؤيا ما
حل مفاجئ لمشكلة مستعصية
رؤية حياة الشخص بشكل موضوعي وامتلاك إحساس واضح بالغرض
رؤية متسامية للواقع الخارجي
فهم بعض الحقائق المتعلقة بطبيعة الكون
إحساس بالاتحاد مع كل الكائنات ومشاركة قدر كل شخص
الاستنارة
صمت داخلي استثنائي
موجات من المتعة المتوهجة
شعور بالتحرر
النكتة الكونية
شعور عميق بالامتنان
إحساس مبهج بالرقص
التجاوب مع جوهر الكائنات والأشياء التي نكون على اتصال بها
محبة جميع الأشخاص في شخص واحد
شعور الشخص بانه وسيط لقوة واسعة وقوية تنساب عبره
شعور بالنشوة
شعور حميمي بالروعة والغموض
الإلهام المبدع
شعور بالتعاطف غير المحدود
تجاوز الزمان والمكان المعروفين لنا
إن إيقاع تجارب اللاوعي مختلف بدرجة كبيرة. بسبب مفاجئتها وبهائها أنها تقارن بعض الاحيان بالألعاب النارية او بشهب تعبر ليل السماء، بسرعة تظهر بكل روعتها ثم تختفي، وفي أوقات أخرى تحدث بشكل تدريجي متخذة شكل الظهور او الإبداء المنبسط كحديقة رائعة ينجلي عنها الضباب المحيط بها ببطء لتصبح مرئية.
وعلى الرغم من تنوعها يبدو ثمة عامل متكرر في تجارب النفس العليا لجميع الناس وبمختلف ثقافاتهم ومستوياتهم وفي جميع العصور. لمحة نادرة او حتى اتصال كامل مع جوهر لازمني. كينونة حية تُدرك بكونها غير متغيرة، صامتة، كينونة نقية. في علم النفس التركيبي نطلق على هذه الكينونة ” النفس العليا” Transpersonal ، إننا نفترض أنّ النفس العليا تكون في مركز اللاوعي، بالضبط كما النفس الشخصية أو الأنا في جوهر الشخصية الاعتيادية.
في أيّ حال أردنا تصنيفها فإن تجارب الوعي الأعلى والنفس العليا هي حقائق، من الصعب نكران واقعيتها، الكثير من الناس كان شاهداً على وجودها، لكن ما هو معناها؟ لماذا توجد؟ هل هي استثنائية او عشوائية، او ربما حتى انها تجسدات مشوشة وشاذة للعقل البشري؟
من بين الكثير من الإجابات على هذه الأسئلة، ربما اكثر التفاسير عقلانية لتجارب النفس العليا يتفق بانها تمثل الخطوات القادمة في سبيل تطورنا الآدمي. أصلاً كانت هذه فرضية كتابRichard Maurice Bucke الوعي الكوني cosmic consciousness

مقارنا التطور بشجرة نامية، يقول ريشارد بوك:
إننا نعرف أنّ الشجرة لا تتوقف عن النمو، وحتى في الوقت الحاضر، كما في الماضي والمستقبل انها على الدوام تُطلع براعم جديدة، وان الغصينات القديمة والأغصان والفروع تزداد حجماً وقوة. هل سيتوقف نموها اليوم؟ من المرجح لا. انما من المحتمل جداً ان سيقاناً وفروعاً أخرى لم نفكر فيها الان ستطلع من الشجرة. كما ان الجذع الرئيسي سينمو من الحياة المجردة الى الحياة الحساسة. ان الوعي البسيط والوعي الذاتي سينتقلان إلى أشكال عليا من الوعي والحياة.
بشكل مماثل يقول: Teillard de Chardin ” إن التطور البيولوجي- النوع المهيمن منذ عصر دارون- انه جزء واحد وحسب من ” المد العظيم” لتطور الوعي. المجيء بالإنسان نحو جدة غير متناهية وغير قابلة للهدم”. حديثاً، أشار الكاتب ابراهام ماسلو الى تجارب الذروة peak experiences ، وما وراء الحاجات meta- needs ( الحاجة الى الجمال، الحب، الحقيقة، العدالة، النظام، الخ الخ). أنها الجزء الأعلى من الطبيعة والحصيلة الأكثر حداثة في تطورنا. لقد رأى بأنه ينبغي النظر إلى تلك الحاجات باعتبارها أجزاء من البيولوجيا البشرية، وان لا تكون منطقة مقصورة على اللاهوتين، الفلاسفة او الفنانين، على ان تكون أيضاً موضوع للدراسات العلمية. يقول: ” الحياة الروحية، هي جزء من حياتنا البيولوجية، إنها الجزء الأعلى منها”.
يصعب الجدال بيقنية كاملة بأن البشرية تتطور- معسكرات الاعتقال، الأسلحة النووية، أهوال الحرب، التوزيع غير العادل للثروات، كل هذه لا تدل على ذلك. لكننا نوافق بالحاح بأنّ الكائنات البشرية المفردة بامكانها التطور. بمقدور وعيها التوسع في حقول ذات قيمة جوهرية تتسم ببعد كوني. باستطاعتها اثارة الغموض والدهشة التي تحوز قوة مغيرة وشافية وملهمة. شُعر في تجارب الوعي الاعلى بانها خطوة نحو التطور الشخصي، كتفتح رائع لما كان موجوداً بالقوة.

الزهرة

لوصف إحساس سيرورة التفتح في النفس، وفي الوقت نفسه تسهيلها، ابتكر أساجولي في كتابه ” التركيب النفسي”psychosynthesesis تمرين تَفتّح الزهرة. فيما يلي هو تنويع للتمرين.
تخيل شجيرة ورد، الجذور، الساق، الاوراق وفي القمة برعم الوردة. البرعم مغلق ومحاط بالأوراق الكأسية الخضر. خذ وقتك في تخيل جميع التفاصيل بتوهج ووضوح.
تصور الآن أن الأوراق الكاسية أخذت تتفتح منحية إلى الوراء مظهرة البتلات في الداخل. انها غضة، ناعمة، ولا تزال مغلقة. الان البراعم نفسها بدأت بالتفتح.. وبينما هي تتفتح كن على وعي بالتفتح او الإزهار الذي يحدث في أعماق كينونتك. انك تشعر بأن شيئاً ما يتفتح في داخلك ويأتي الى الضوء.
وبمواصلة تصورك للوردة، اشعر بأن إيقاعها هو إيقاعك وتفتحها هو تفتحك، ابق في مراقبتك للوردة وهي تتفتح نحو الضوء والهواء، كاشفة نفسها في كل بهائها.
انك تشم رحيقها وتتمثله في كيانك.
الان انظر في مركز الوردة، حيث حياتها اكثر قوة، دع صورة تنبثق من هناك. ستمثل هذه الصورة اكثر الأشياء جمالاً ومعنى وإبداعاً لما ترغب فيه ان يتأتى الى ضوء حياتك في الوقت الحاضر. ممكن ان تكون صورة لأي شيء على الإطلاق. دعها تنبثق بشكل عفوي وحسب. من غير إجبار او تفكير.
الان ابق مع هذه الصورة لبعض الوقت وارقبها بهدوء.
من الممكن ان تحمل الصورة رسالة لك، كلامية او بدون كلام. كن متسلماً لها.
بالنسبة لاولئك الذين عايشوا حقل الوعي الأعلى والتحول الشخصي فإن النفس العليا حقيقية جداً.
انها ليست مفهوماً فكرياً
ليست حصيلة ثانية للوعي
ليست نتيجة ايحاء
ليست ظاهرة تخاطرية
ليست حالة من الوعي المخفض
في حالتها الاعتيادية ترى الشخصية نفسها بانها غير كاملة، انها باستمرار مشغولة بمحاولة الاقتراب من حالة الاكتمال. ان وضعها الاعتيادي هو الانشغال المتواصل. بينما النفس في حالة من الكمال وليست بحاجة الى النظر خارجاً لكي تكون متحققة. النفس كائن نقي، ما وراء الأفكار، ما وراء الكلمات، ما وراء الأفعال.
سارقة لحظات ثمينة من جدول أعمالها المشغول من حين لآخر واصلت آنا تمرين الزهرة ورأت بصورة أخيرة من تصوراتها سلماً طويلا يرتفع نحو مصدر مضاء بقوة: في كل خطوة أجد زهوراً في كلا الجانبين، انها تتفتح حينما انظر إليها. وبينما أتابع السلم بعيني أرى أعلاه يندمج مع مصدر الضوء، أبصر نقطة التقاء سلالم لا نهائية، سلالم أخرى تتأتى إليها من جميع الاتجاهات، حتى المضادة منها كانت مستنيرة بفعل المصدر الذي تصعد نحوه.
لدينا هنا تمثيل صوري للرحلة من التعددية الى الوحدة. التعددية تسم حقل شخصيتنا الاعتيادي. ان عيون الشخصية تتلقى التعددية في كل مكان: في الحياة الداخلية للمرء، بجميع شخصياتها الثانوية المختلفة، والتي غالباً ما تكون في حرب مع بعضها بعضاً، في عالم الأفكار المتباينة؛ وعلى صعيد العلاقات الإنسانية، حيث تدرك الشخصية نفسها باعتبارها كينونة منفصلة عن الكينونات الأخرى.
ولكن بانتقالنا تجاه النفس تُستبدل التعددية بالوحدة، الحياة النفسية تصبح منسجمة حالما يلتحم تنوع أجزائها في تكوين واحد. قال شاب : ” الان اشعر أني واحد، اشعر بأني واحد بينما في السابق كنت متشظياً الى أجزاء مختلفة متناقضة. ممكن معايشة الوحدة ايضاً على المستوى الفكري، او حينما نكتشف قانوناً طبيعياً يعبّر عن تعددية الأحداث غير المترابطة بوضوح.
يمكن معاينة الوحدة أيضاً في العمل الفني، كما في سيمفونية، مسرحية، لوحة حينما تتواءم جميع العناصر في كل منسجم، واخيراً ممكن ان تعايش الوحدة بعلاقاتنا مع الآخرين، كإحساس بالتضامن مع البشر ككل والوعي بأنّ جميع الكائنات متأتية من مصدر مفرد واحد. مصدر بضوئه تختفي او تفقد أهميتها جميع المصالح ووجهات النظر المتناقضة.

دعنا ننظر لصورة أخرى انبثقت في تمارين آنا: نبع ينبثق من صخرة مشقوقة تدفق الماء المتجه للأعلى يلمع عند قمتها، في كل لحظة يضاء بعض الماء بالشمس. منحتني هذه الصورة الإحساس بالخلود واللازمنية.
تعيش الشخصية في إطار الزمن. في مستواها نرى ان لا شيء يمكن الاعتماد عليه بشكل دائم، لاشيء مرضٍ بشكل دائم. حالة وصفها مارسيا الياد Mirca Eliade ب” رعب الزمن” the terror of time ، لكن النفس تعيش في اللازمن. وصف الشاعر الإنكليزي هنري فوهان Henry Vaughan بروعة التمييز بين النموذجين:

في الليلة الماضية رأيت السرمدية
كحلقة ضخمة من ضوء نقي بلا حدود
كل شيء كان هادئاً ومشعاً
ومن تحتها الزمان، بساعاته وأيامه وسنينه
يتحرك بالأفلاك
كظل ضخم ينتقل حيث ينقذف
العالم وكل ما يجره وراءه
الإحساس باللازمن شائع اكثر مما نعتقد. على سبيل المثال، حينما نستغرق كلية بنشاط او لقاء ما فإننا نفقد المنظور الاعتيادي للزمن حتى نستدعى ثانية بحدث خارجي إلى الإيقاع القديم. او يقع هذا حينما نكون على اتصال مع محيط إيقاعه أبطأ بكثير من الخاص بالإنسان.، جبال، محيطات، سماء مليئة بالنجوم.
بوسعنا الحصول على تجارب مماثلة عبر التأمل بدون مساعدة المحفزات الخارجية. ذات مرة ذكّرت بهذه الحقيقة بطريقة مألوفة. كان “اساجولي” يعتمد على مؤقتة بيض تشير إلى نهاية فترة تأمله ب” رنة” ” bing ” عالية. حينما سألته ما حاجته إليها. جاوبني بأنّ سببه في ذلك هو إعلاء “sublimating ” عمل مؤقتة البيض المتواضع في المطبخ الى هكذا وظيفة سامية، الإحساس بالزمن عادة ما يتلاشى أثناء التأمل. لذا من الصعوبة ان يعرف الشخص كم مضى عليه بمعايير زمنا البشري الاعتيادي. لقد ذكر هذا كما له انه شيء واضح تماماً. كحقيقة تجاربي الخاصة في تلك الفترة. لم أكن قد جربت اللازمنية بالمرة. بل على العكس كنت أكافح من دقيقة لأخرى ضد الانشغالات، المقاومة والخمول- العائق الذي لا يمكن تجنبه حيث يواجهه كل مبتدئ في البداية.

لنعد الى آنا. في تمرين اخر، وبينما هي تتطلع الى مركز الوردة رأت السماء: ” سماء بلا حدود، ذات زرقة شديدة مدهشة في عمقها، اندمجت بتلك السماء وسمعت صوتاً قادماً منها”. وما ان تكلم الصوت معها شعرت بأنها مثارة ومقتنعة: ” اختبرت اتساعاً في مدى حريتي. ثم أردفت: ” كما لو اني حصلت على سماح لاذهب الى ما وراء بوابة، منحني هذا السعادة والمتعة”.

كما تفهمها الشخصية بشكل اعتيادي فإن الدنيا منسقة في أشكال( أفكار، أشياء، أناس، كل شيء هو شكل) والأشكال تميل على الدوام إلى التحديد وفي النهاية تَسجن. بينما تختبر دنيا النفس بكونها بلا شكل- لذا فإن الاتصال بها يحدث الإحساس بالحرية والاتساع فوق جميع الحدود.
الأشكال ممكن ان توصف، تقارن، تفهرس. النفس دون نسق كالسماء التي تخيلتها آنا. بوسعنا ان نصوغ فرضيات ونقدم إشارات ما عن النفس. لكن لا يمكننا سبر غورها ابداً. كما قال وليم جيمس، احدى العلامات الرئيسة للتجربة الباطنية، كونها تفوق الوصف.
ان الأشكال لا تختفي، لكنها لحد ما تفقد جانبها المحدد. فيبدو كل واحد منها بطريقة ما يتضمن كل الأشكال الأخرى. كما رأى الشاعر وليم بليك:

ان ترى العالم في حبة رمل
والسماء في زهرة وحشية
امسك اللانهاية في راحة يدك
والأبدية في ساعة

او انظر الى هذا الهايكو: ” ذرة من الغبار تحتوي الأرض بأسرها، حينما تتفتح وردة واحدة يأتي العالم برمته الى الوجود”.
بالمثل تحدث بورخس عن الألف، المكان الأسطوري حيث: تتواجد جميع الأمكنة في العالم من غير أي تشوش ممكن، منظورا له من كل الزوايا”.

الهولغرام hologram هو النسخة التقنية لهذا النوع الحدسي للمنظور. الهولغرام هو صورة يعاد إنتاجها بأشعة ليزرية وصفيحة فوتوغرافية، انها تختلف عن الصورة الاعتيادية لأن كل جزء منها يحتوي على كل الصورة، اذا كانت لديك شظية من أي صورة اعتيادية- صورة شخص ما على سبيل المثال- فإن ذلك كل ما لديك، لا اكثر ولا اقل. عين واحدة، الانف، جزء من الشفتين، أي شيء. ولكن اذا كانت لديك شظية هولغرام، فإنك ما تزال تملك نموذجاُ لكل الصورة، في مثالنا فإنه ما يزال لديك كل الوجه. أي جزء ليس ذاته فحسب، بل هو أيضاً كل جزء آخر.
بعض الفيزيائيين المعاصرين( الذين تذكّر طروحاتهم بتجارب الروحانيين) توصل الى رأي مفاده ان الجسيمات الأساسية ليست كتل بناية تقف منعزلة جنباً إلى جنب- انما سيرورات متداخلة مع بعضها البعض في شبكة ديناميكية. هذه الفرضية الأساسية ذهبت إلى ما وراء ذلك لتقول:” كل جسيم يتضمن كل الجسيمات الأخرى”. انها بطريقة ما تتداخل، تشترك، ويحتوي كل جسيم الجسيمات الأخرى. لذا فإن الكون بأكمله يمثل في كل جزء من أجزائه.
شكل مواز لهذا التفسير ذُكر من قبل فلاسفة في كلا التقاليد الشرقية والغربية، على سبيل المثال رأى Meiste Eckhart أن كائنات الممالك الروحية غير منفصلة كما في تجربة الحياة اليومية، ان كل شخص هو الآخر مع الاحتفاظ بالهوية الشخصية بشكل غامض. كذلك بالنسبة للشخص الملهم فإن كل دقيقة في الحياة تحتوي حياته كلها. كل موقف يتضمن بشكل دقيق جميع المواقف الأخرى، كل شخص يلتقيه هو الكون بأسره. يقول ملتون: : أنت بالنسبة لي كل الأشياء تحت السماء، جميع الأمكنة أنت.
التمييز بين الحدث والصفة ربما يوضح هذه الامور اكثر. باستكشافنا اللاوعي نكون على صلة بما يمكن ان نطلق عليه الصفة السيكولوجية psychological quality مثل الحب، الابتهاج، السكينة، السلام وهكذا. ربما تظهر لنا هذه الصفة كما هي عليه بحد ذاتها. ما وراء أي من الأشكال الخاصة المفروضة عليها من عالم الأحداث الخارجية.
كتبت امرأة على سبيل المثال عن تأملها:
عبر التأمل في صفة الشجاعة كنت على اتصال بجوهر شجاعة الساموراي وشجاعة الأبطال، الشجاعة الصامتة للحياة اليومية تجسدت بأفعال لا تحصى ومع ذلك تجاوزتها كلها. بطريقة مشابه حينما أتواءم مع الحب أكون على صلة في ينابيع طاقة الحب – الحب الذي يوحد جميع أفعال وأفكار الحب التي كانت والتي ستكون دوماً.
بالمقابل طالما الشخص يركز على منظور الشخصية ستكون المنفعة ماثلة بشكل رئيس في هذا او ذاك من أفعاله. الحصول على المال، حيازة مهنة، الزواج، العيش بدون هموم، الحصول على ترقية وهكذا ملاحقاً حساب المتعة والألم المزدوج، النجاح والفشل.
الأشخاص الذين على اتصال بالنفس اقل اهتماماً بالأحداث الواقعة واكثر عناية بالكيفية العامة للحياة، انهم يلعبون جيداً بدلاً من الفوز، بانسجام وجمال لما يفعلون عوضاً عن ما الذي بمقدورهم ان ينالوا، انهم يعيشون ماسماه كيسرلنك Keysering; ب ” الحياة الرمزية ” ويكونون رموزاً حية او تعابير للحب، السلام او أي صفة أخرى تابعة للاوعي الاعلى، وبما انهم متجذورون في ممالك الصفات انهم لا يمحضون أهمية عالية لعالم الأحداث المتغير ابداً. رغم كونهم يعملون فيه بهوى والتزامات تنافسية.
صورة أخرى رأتها آنا في مركز الوردة تذكر بهذه الرؤى: قطرة تلمع ببهاء لان أشعة الشمس تمسها، من داخل القطرة سمعت آنا مجموعة أصوات بشرية تخاطبها ببلاغة مؤثرة. من هذا الاتصال حازت على إحساس بالمشاركة في علاقة جديدة. تقول: ” أحسست بأني مغموسة في ضوء ابيض، شاعرة بأني مقيمة في دنيا مخلوقات حية رائعة كنت حتى تلك اللحظة بعيدة جداً عنها”.

تختبر الشخصية في حالتها الاعتيادية الندرة في كل مكان( الانتباه من شخص معين، الثراء، النجاح، النفوذ الخ الخ). وبما ان كل شخص يحاول الحصول بقدر ما يتمكن، على الدوام فإن المتوفر قليل، هذا المنظور يفضي إلى الإحساس بالحاجة الملحة، الى العزلة والتنافس. النفس بدلاً من ذلك توجد في دنيا حيث المشاركة هي النموذج، انه بالضبط النقيض من حسابات الشخصية.
في تمرين لاحق شهدت آنا صورة أحد الآبار: أتمدد خارجاً وأرى عمقه البعيد، في القاع أرى وجهي وورائي القوس الحديدي للبئر والسماء. داخل البئر مغطى بكتابات حكمة قديمة. سلي البئر: ” ما هي الحياة؟ ” أنت جاوبيني، يقول ” لأنك الوحيدة التي بوسعها ان تعطي إجابة عن الحياة، عوضاً عن أن تتوقعيها من مكان آخر”.
ذكّر البئر آنا بالموقف المركزي للنفس. موقف العطاء والإشعاع.. بكلمات دانتي، النفس ثراء راسخ ليس بحاجة الى نشدان أي شيء. ثراء الحب والمتعة هذا ليس محدداً للنفس انما بحالة من الفيض محافظاً على ذاته في الوقت نفسه.
التعبير الأساسي للنفس هو الخدمة، خدمة حرة لا يربطها شيء بمحاولة ان يكون الشخص خيراً لذا يبحث عن تقديم المساعدة. ان الاشخاص الذين بمقدورهم أن يعطوا دون أي غرض او رباط انما من أجل متعة العطاء انهم نادرون لكنهم موجودون، الكثير منا اختبر هكذا متعة بين حين واخر.
بالمقابل تتسم الشخصية بعدم التحقق، على الدوام في عالمها ثمة حاجة تنشد الإشباع، واذا لم يحدث ذلك تشعر بأنّ وجودها مهدد، لذا فإن انشغالاتها المركزية المتكررة هي المحافظة على البقاء الجسدي والنفسي.
يوما بعد آخر واصلت آنا تمرين الوردة، وفي كل مرة تنبثق صورة جديدة:
هذه المرة ثمة بحر بلا حدود، انه لا زمني ولا متناه كالكون ذاته، سمعت نشيد سلام قادماً من موجاته، عند نقطة ما كانت موجة تحمل طفلاً الى الشاطئ، كما لو ان هذا الطفل قُدّم بذراعيين غير محدودين، مصنوعين من جزأي موجة يمتدان الى جانبيّ، ووجدت نفسي بمواجهة الطفل.
منحنية على الرمل كي اكون قريبة منه، شعرت بإحساس من الإجلال أمام مخلوق غال وفريد. اختبرت إحساساً بالقبول التام، مستسلمة لما تقدمه الحياة لي.
على صعيد الشخصية أننا نحاول السيطرة على حياتنا، مقررين سبيلنا بما نراه خيراً لنا. على صعيد النفس تتنحى السيطرة مستسلمة لما تجلبه الحياة لنا. عندئذ ثمة إحساس بعدم التعلق attachment والراحة. كما وصف الحكيم الهندي رامانا مهاريشيRamana Maharishi ذات مرة موضحاً، في العادة أننا نشبه أناس في قطار متحرك ما زالوا يمسكون بحقائبهم، لماذا يحملونها؟ إذا ما وضعوها على الأرضية فإنها ستحمل من قبل القطار وسيكونون متحررين من جهد الإمساك بها.
للشخصية نموذج معين لما ينبغي ان تكون عليه وتميل الى الانغلاق امام أي حدث لا يتواءم مع دائرة توقعاتها الضيقة، بينما تدرك النفس الشخص باعتباره متفتحاً، كما رأت البهافاغاد جيتا Bhagavad Gita، هذا الشخص ” راض بأي شيء يتأتى من غير التماس”. كما آنا متسلمة طفلها من البحر.
علينا ان نؤكد أن هذا الإذعان لا يتضمن أي نوع من القدرية. انه لا ينكر او يقمع أي شكل من السيطرة والوعي الحصيف. يمكن مقارنة ذلك بموقف قائد الأوركسترا. لا شيء يقوم به او تقوم به أبعد من الاستسلام ومع هذا انه يوجه الموسيقيين. قائد الأوركسترا لا يتبع نزوته انما النص الموسيقي. موظفاً له كل الجهود والمصادر الشخصية.
عند هذه النقطة ربما نجانب الصواب اذا ما أعتقدنا بأنّ حقل النفس جيد وان حقل الشخصية رديء. هكذا حكم سيمنعنا من فهم بأنّ الشخصية والنفس هما وجهان للتطور نفسه. الفراشة ليست أفضل من اليرقة، انه تطور، تفتح. ان مشهد الوادي ليس افضل من ذلك الذي يمكن التمتع به من قمة الجبل، ببساطة انه اضيق. وهذا هو نظام الاشياء لا توجد قمة بدون واد او فراشة من غير يرقة. لا محاولة بادراك النفس بدون مرحلة سابقة من الشخصية.

بوسعنا الحديث عن مراحل أو أطوار التطور من الشخصية الى النفس في كثير من الثقافات والأشخاص الذين اختبروها. تطور النفس العليا تجسد عبر العصور بطرق متعددة بشكل هائل. نموذجياً ثمة أفكار ذات نمط متكرر ممكن ان تكتشف اذا ما تجنبنا خطأ ان نكون حرفيين او واقعيين اكثر من اللزوم. ربما يحالفنا الحظ بتسليط ضوء على الجوانب الرئيسة من هذه المغامرة.
من المفارقة ان المرحلة الأولى كثيراً ما تكون سلبية، انها مرحلة الخواء وعدم الرضا. قبل حدوث الالماعات الأولى لليقظة الروحية فإن الشخص يتقبل بعماء قيم الشخصية، الندرة، التنافس، التعددية، الكفاح. حدود الشكل ورعب الزمن الذي يشكل نصيب حياته اليومية. ربما يتعلم الشخص أداء وظيفته بفعالية في هذا الكفاح ومن المحتمل التمتع بدرجة ما من التقدير الاجتماعي بسبب الانجازات الشخصية. ربما يشعر بدرجة عالية من الحرية النفسية.
على أيّ حال عند مرحلة ما يبدأ الصرح بالانهيار. هنالك إحساس بأنّ ثمة شيء ناقص. رغم ان الشخص لا بعرف ما هو. من المرجح الشعور بأنّ المحاولات الشخصية دون معنى عميق، او الشعور بعدم الامان او الانزعاج او الإحساس الشامل بالإثم او حتى اليأس.
الحرية الشخصية لا تختفي، لكن المفارقة انها تصبح كابوساً. لقد وضح سارتر هذا المأزق بقوله اننا محكومون بالحرية. ان الشخص في هذا الطور، يدرك ” الأنا” نفسه بأنه معزول بشكل أساسي عن بقية ” الأنوات” الأخرى التي تبدو له غريبة تماماً. هولاء الأشخاص تجاوزا جزئياً ومؤقتاً حاجاتهم الاعتيادية. انهم يطفون كما يقال ما بين دنيا الشخصية والنفس ومع ذلك انهم غير واعين بالأخيرة, النتيجة هي الفراغ الوجودي. الحالة التي ترى فيها جميع الإمكانات متساوية ويجرب المجموع الكلي للأشياء بلا مبالاة. في الفلسفة الوجودية أطلقت اصطلاحات على هذه الحالة مثل ” السأم” ” الغثيان” ” الاكتئاب”.
يقول هايدجر: ” السأم الحقيقي، ليس هو الذي يتأتى من قراءة كتاب او أداء ما، انما الذي يغزونا حينما يكون الشخص سأماً وحسب. السأم العميق، يشبه ضفادع صامتة تتجمع في قاع وجودنا موحدة الناس والأشياء، ذواتنا مع كل ما حولنا بنوع خاص من اللامبالاة”.
عند هذه النقطة فإن كل الفرضيات على حيوات هولاء الأشخاص مبنية على المهجور، لم يعد أي شيء من الذي آمنوا به او قاتلوا من أجله ذا معنى لحد هذا الوقت. أحياناً تنبعث هذه الحالة بطريقة غير متوقعة. وكثيراً ما تأتي وتذهب بتموجات. في حالات أخرى يكون الفراغ الوجودي متجنباً بقوة الروتين المحضة، او مواصلة العمل الاعتيادي للحياة اليومية.
عاجلاً او آجلاً، تدريجياً او بشكل مفاجئ يملأ الفراغ الوجودي بانبعاث النفس. هذا هو الحدث الأعظم أهمية في الحياة النفسية للشخص. استخدمت رموز لوصفه من بينها:
استنارة ما، تبدد جميع الأوهام وتدع الشخص يرى الحقيقة كما هي.
الاستيقاظ من نوم طويل، نوم مليء بالأحلام واللاوعي.
الولادة في عالم واسع وجديد، مملوء بالإمكانات غير المتوقعة.
ثمة استعارات كثيرة، أمثلة فكرية، ورموز دينية استخدمت لوصف هذا الحدث العظيم. بشكل مماثل يوجد العديد من الدروب، على الدوام انها ملتوية وغريبة يتعين على الناس وطؤها. والكثير منها متشابه في الوصف والتفسير. لكن بوسعنا القول بثقة ان الحدث شامل في جوهره: الفهم لمعنى جديد، وانسياب المزيد من الحيوية المركزة.

في البدء تفهم الشخصية هذا بلغتها الخاصة في شكل مألوف. تُرى اشباعات النفس العلياtranspersonal كما لو انها من طبيعة الإشباعات الشخصية ذاتها، كتنوع لها. وتُفهم النفس كشيء ما يمكن بلوغه، امتلاكه، استهلاكه- شيء سيزيد سعادة الشخصيةpersonality من دون ان يغير نظام قيمتها. انها فكرة وهمية، او فنتازيا The pie in the sky. في هذا الطور نرى جميع أولئك المتحمسين والجادين، الذين ينظر اليهم باعتبارهم مستنيرين، كأنهم موعودون بسعادة فورية، بعيدة عن متناولهم.
هذا الطور، الذي يتبع مباشرة اليقظة. يمكننا تسميته الإلهام. انه مفعم بالحياة والبهجة. بتحرر يرى الشخص كل الإرهاق والخواء الذي كان مؤلماً في السابق يتبدد، يشعر او تشعر بأنها قوية وواثقة بنفسها وتعتقد بأنّ كل المشكلات النفسية قد حُلت. على الدوام ثمة اعتقاد ساذج ببلوغ شكل سيكولوجي وتوازن روحي مستقر ودائم.
لكن سريعاً ما يتحدى عدم الاستقرار هذه الثقة ويتنحى الابتهاج تاركاً الشخص فريسة اليأس، يشرع الفرد بالاعتقاد بأنّ كل ما كان هو وهم. وغالباً ما يشعر هذا الشخص بانه خُدع او هُجر. على الدوام ثمة إحساس بالتشوش، كل التفسيرات البارعة، والإثارات العاطفية، وكل الحماس، الاعتقادات ذهبت.
تدريجياً تفهم الشخصية بأنَّ عملاً عميقاً لاعادة تنظيم الحاجات بحاجة إلى الحدوث. هذا العمل يستلزم وقتاً وعادة ما يسبب الإزعاج لأنّ الشخصية تميل إلى مقاومة التحول. ثمة تذبذب، ذهاباً وعودة بين القيم السابقة والجديدة، وفي بعض الأوقات ثمة تعاون صعب وغير مستقر بين الاثنين. مواجهاً التحديات الجديدة ربما يكتشف الفرد حدوده الشخصية التي لم يكن على وعي بها. من المحتمل ثمة فقدان مؤقت لاحترام الذات. مجازياً يمكننا القول كما لو ان ثمة الكثير من الضوء، وهذا الضوء يجعل كل العوائق مرئية بطريقة مٌرّة ودراماتيكية.
بالمقابل ربما تُختبر السيرورة نفسها بشكل واضح وطبيعي تماماً. تصبح النفس نموذجاً جديداً وثميناً للكينونة. وتُهجر الطرق القديمة وتخلف الى الوراء وتنسى بسهولة- كما في حالة الشخص البالغ الذي نما إلى ما وراء الحاجة إلى لعب الطفولة.
الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في طور التحول غالباً ما يشعرون بأنهم على درب النّفْس. لذا ممكن التكلم عن درب الحب او درب الاستنارة، درب الفعل او درب الجمال، درب الطقس او العبادة او الإرادة او العلم الخ الخ. الدروب المختلفة نحو النفس تميل للإعراب عن الأنواع المختلفة للناس، تاركة لكل واحد استخدام مقاربته الفريدة لتقوده الى التحقق. كما مثّل كرشنا النفس، قائلاً في البهافاغاد جيتا: حيثما يدنو مني البشر أتقبلهم، البشر بكل أنواعهم يتبعون دربي.
يبلغ التحول Transmutation ذروته بالإدراك الكامل للنفس. الطور الأخير يظهر جلياً بدرجات مختلفة في حياة العباقرة العظماء، الفنانين، والقادة الروحيين للبشرية، وبدقة في حياتهم وسيرهم ووثائق أخرى حيث من الأفضل لنا ان نفهم وندرس طبيعة النفس والوعي الأعلى.
على الرغم من التنوع العظيم للطرائق التي يحدث بها هذا التفتح الإجمالي، فإنه لا يعتمد على اتساع الوعي فحسب، انما إدراك الوعي بحاجة الى التجذر. بالضبط كما نموذج او نسق الكرستال يبقى في حالة من الإمكان، ومن ثم يتخذ شكلاً مرئياً في المحلول المعالِج. كذلك تميل طاقات اللاوعي الى التجسد في العالم الخارجي.

الميل للتجسد بشكل مادي شائع في كل مضامين الوعي- الرغبة في الهروب تتجسد في رحلة، الغضب يتجسد في إهانة، العبادة في كاتدرائية؛ الرغبة في الرؤية في تلسكوب. مشاعر الدفاع في أسلاك شائكة، العدوان في بندقية. السرعة في دراجة نارية.
وبالمثل فإن طاقات الوعي الأعلى تنشد وتحتاج التجسد، هذا مبدأ أساسي للصحة النفسية، ومن ثم فإن الشيء المهم، ليس إحداث تجارب الذروة peak experience، الوجدecstasy الساتوري satori” أي ومضة من الوعي المفاجئ، أو تجربة قصيرة من الاستنارة المفاجئة، المترجم” وما شابه ذلك فحسب، لكن أيضاً جعل أمثلة الذروة تكون تجسداً تفجرياً، حقيقة منتشرة في حياتنا وحياة الآخرين، وحتى دون وجد ان هكذا حقائق كالحب الغيري، الرؤيا، الأعجوبة والشكر، حاسة الجمال والعدالة، بوسعها أن تُنشئ ثيمات”أفكار” حياتنا التي سماها ماسلو ” تجارب الذروة “، لا أن تكون مشاهد عابرة فقط.
سأخلص للقول بمثال واحد بسيط للتجذر، كنا قد تتبعنا تطور تجارب الوعي الأعلى الخاصة ب ” آنا”. وكيف جسدتها في حياتها، في نهاية تقريرها كتبت: ” حدث جديد وقع في حياتي: أنا وزوجي قررنا ان نتبنى رضيعاً، لا تقدر أمه على الاهتمام به، بعكس ذلك سيضعونه في دار الأيتام. هذه التجربة جميلة بشكل استثنائي رغم انها لا تخلو من صعوبات، يبدو لي الآن انني أعيش عملياً ما كان يحدث في داخلي فحسب.