ابتداءً علينا ان نفرق بين المفهومين ..فمفهوم الجهاد شيء ومفهوم القتال شيء أخر.لكن النَصيين َ..قد أدمجوا المفهومين بمفهوم واحد فأضاعوا فريضة الجهاد حين ربطوها بمفهوم القتال فضاع القصد بين المفهومين معا. ومن اجل أستجلاء معنى المفهومين كما وردا في النص المقدس …:لا بد من تغيير جذري لكي ينهض الاسلام ،وتتجدد قيمه،وتستمر مجتمعاته الجديدة ،كما ارادها النص المقدس منذ بداية النشأة الاولى له. ..في المدينة .
ان عملية التجديد هذه لا تعتبر مسألة في النظر اوالعمل،بل فيهما معاً،وعلى مستوى الرؤية التاريخية والعمل الفكري حاضرا ومستقبلا. ولكي ينهض هذا العمل الهام، لا بد من دراسة الجذور الحضارية الاولى للمسيرة التاريخية التي أعتمدت التراث النصي اساساً في هذا التوجه دون تمحيص وتدقيق ، واحاطة التراث والنص الديني باسوار القداسة لكي لا يُخترق،في مجتمع يؤمن بأن النص الديني مقدس يُحرم على المرأ الدخول في مناقشته او محاورته،تحت شعار خاطىء لا اجتهاد في النص..جريمة ارتكبها الفقهاء أثرت تأثيرا مباشرا أفي التقدم الحضاري الاسلامي .
ولكي يكون الامر واضحاً في مقصده ونتائجه ،لا بد من تعريف النص ودراسته دراسة جديدة تستند على القاعدة العلمية في تثبيته ومعرفة صحته وضرورة تأويله بما يتناسب ومضمونه اللغوي والعلمي.
يعرف النص بأنه الحديث المنقول عن صاحبه ،كالنص الديني او الادبي او التاريخي او الشعري. أما التنصيص فهو ذكر الشيء على التحديد والتعيين ،اي عودة النص الى قائله بالتحديد،لان معرفة شروط قبول النص هو معرفة اثبات قائلة.
ان المنهج العلمي لمعرفة النص والتأكد من صحته في الدراسات التاريخية،تقتضي قيام الدليل والبرهان عليه،”الحجة بالدليل” ولا تقوم هذه الحالة الا على التمحيص الداخلي للنص تمحيصاً،تظهر فيه وبشكل منهجي جوانب القوة والضعف ،بحيث لا يعوز الباحثين سلامة الدليل عليه.والاخرى تنهض على الفحص الخارجي له،فأذا تعذرت الحجة قيام الثانية ،فيعتمد عندئذ على النص المقابل له ظاهرا وباطناً..ولاخراج الدليل الحقيقي للنص لابد من اثبات الاصل ببطلان النقيض.واذا لم تتحقق هذه الموازنة العلمية ،يبقى النص في موضع الشك والريبة…أنظر جعفر آل ياسين..الفكر الفلسفي عند العرب ص19.
من هنا استغل النص استغلالاً بشعا من قبل اعداء التجديد، فوضع تحت القراءة الاحادية ،قراءة جوهرها الاقصاء لكل جديد،لان فكرهم الجامد الغى الزمان والمكان والتاريخ واسقط العقل ،وآمن بالارجاء والجبرية والقضاء والقدر ووظفها توظيفا محكماً لخدمة السلطة لا الدين في الدولة كما هو اليوم عند احزاب الأسلاميين .ولدينا الكثير من هذه النصوص بحاجة ماسة الى مراجعتها مراجعة جدية كما في نصوص الردة والرجم والفتوح ، والناسخ والمنسوخ ، والمتعة ،وحركات الزندقة ، وحركات الخوارج ، وحقوق المرأة في الزواج والطلاق والزنا والارث والوصية ، وحقيقة القضاء والقدر ،والجبر والارجاء وغيرها كثير..لدرجة اننا اصبحنا نؤمن باسلام الفقهاء النصي وليس باسلام محمد الرسول (ص).
لقد تركز الخطأ في فكر الامة منذ البداية واصبح من الصعب تجاوزه بيسر وسهولة ، حتى اصبح من السهل مقاومة الجهات المدركة لموضع الخلل والرافضة لسلطة الباطل والمتمسكة بالحق والعدل، فظلت عاجزة عن عملية التغيير الحقيقي لواقع الامة كما هو اليوم .
ان كل هذه الطروحات وما تلاها ساهمت فيها الفرق الاسلامية المختلفة دون استثناء ، وتجنبا ًمن الخوض في متاهات لا اجد ضرورة للخوض فيها ،أؤكد انه لا مجال من الناحية المنطقية والتاريخية أقحام فرضية بعض الدارسين من ان الاسلام هو السُنة او هو الشيعَة ،تلك مقولة في نظري بائرة بضاعتها ومرفوضة بحكم الحس والوجدان ،لان التسنن الخالص والتشيع الخالص هما من الاسلام واليه ،وليس واحدا منهما حسب ، لذا لا نجد مجالا كما يعتقد البعض بوضع قاعدة ان الاصل كان احدهما،الا في حالة غلبة التعصب على العقل ورجحان كفة الهوى على الهدى .
نحن اليوم نعيش في ازمة فقهية قاتلة لذا نحن بحاجة الى فقه جديد مبني على التأويل لا التفسير ويقول القرآن الكريم( ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان اكثر شيئ جدلا سورة( الكهف آية 54).
الايات القرآنية متنوعة منها الامرية ومنها آيات التعليمات ومنها النصح والارشاد والتوجيه ،لذا فأن الايات الامرية ،هي ايات حدية ..والاخرى حدودية ليست فيها صفة الألزام ..جاءت لتؤول لصالح التطور لا التزمت والتعصب ،والقرآن يقول وما ارسلناك الا رحمة للعالمين..ولكن من يفهم وينصاع للأمر الألهي الرصين..بين المتشددين.
بين الجهاد والقتال …..جدلية في الاسلام
الجهاد لفةًًًً:
————-
هي من جاهد جهاداً،ومعناه أستفراغ الوسع،اي بذل اقصى الجهد للوصول الى الغاية المقصودة. ويشمل مجاهدة الاعداء في حالة الاعتداء على الوطن الاسلامي ، وهنا يسمى قتالاً،ومجاهدة النفس اذا انحرفت عن خط الاستقامة يسمى جهاداً. كما في قوله تعالى(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبلنا وان اللهَ لمَعَ المُحسنين-العنكبوت :69).
والجهاد ليس مقاتلة الاعداء ،بل هو كلمة الحق التي تقال بوجه سلطانٍ جائر ،ومعنى ذلك المشاركة في الحياة السياسية بغرض التعاون لتقويم النظام العام وارساء اسس العدالة والقول بما يراه المجاهد مصلحة ونفعا للناس ،قال رسول الله(ص): (الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر) . كما جعل الشرع المحافظة على الواجبات الدينية والالتزام بها حقاً وصدقاً .ويعتبر جهاد النفس عن الهوى هو من الجهاد الاكبر لانه فيه ردع للنفس الانسانية عن الخطأ والاعوجاج،يقول الرسول(ص) :(الجهاد الاكبر هو مجاهدة العبد لهواه) وهذا ما نساه الاسلاميون في التطبيق . وتعتبر الشريعة الاسلامية ان سلامة النية وصفاء القلب عن قصد ايذاء الخلق وظلمهم من الجهاد حيث قال رسول الله(ص):افضل الجهاد من اصبح لا يهم بظلم احد.
والجهاد في الاسلام لم يشرع في القتال الا لرفع العدوان ودفع الطغاة ان اعتدوا وعدم الاعتداء على الاخرين. فحياة المسلم كلها جهاد في عبادته لله وعمارته للارض وتزكيته للنفس الانسانية ،فالاسلام مرآة صافية عاكسة لكل صفاة الاستقامة الانسانية (انظرالموسوعة الجهادية تحت مفهوم الجهاد ).لذا لا جهاد كفائي ولا جهاد فرض عين كلها مخترعة من فقهاء الدين الذين لا يعترف الاسلام بهم ولا يخولهم حق الفتوى على الناس ،ولا يميزهم بلباس معين.
من خلال قراة النص الديني يتبين لنا انه لا يجوز اكراه الناس لاي عمل يتنافى ومفعوم الحق والعدل وحرية الانسان فالدولة ليست ملكاً للحاكم ،لذا فلاسلام لم يتبع اي نوعا من العنف الداخلي او الخارجي وبنوعيها الفكري والسياسي والقرآن يقول (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن يرجو الله واليوم الاخر ،الاحزاب آية 21).لذا فغزوات الرسول ما حدثت الا بعد اعتداء الاخرين على دعوته ومقاومتها
ان اساس الجهاد في الاسلام كما اسلفنا محاربة الطغيان وتحقيق حرية الكلمة والتعبير عن الرأي وسواسية الناس امام القانون وفي هذا السبيل يقول الحق(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالاخرة ،ومن يقاتل في سبيل الله فيقتَل او يَغلِب فسوف نأتيه اجراً عظيما-النساء آية 74).. أي هنا جهادا من اجل الدفاع عن النفس الأنسانية وليس فتحا للبلدان دون اعتداء منها على المسلمين.
وبما ان كل مراحل الدعوة في عهده(ص) قامت على عبارة واحدة فقط هي (خلو بيني وبين الناس ) فالمشكلة كانت مجسدة في طغيان قريش وعدم قبولها للحوار واصرارها على القتال،لذا لا بد من محاربتها والانتصار عليها صوناً للحرية ورداً للطغيان وتحقيق هدف الاية الكريمة(من شاء منكم فليؤمن ،ومن شاء فليكفر)والاية( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين سورة يونس اية 99)،ولذلك فأن الاستعباد للناس محرم شرعا حين جعل حرية الاختيار والتعبير هما الاساس.
من هذا المنطلق فأن الفتوحات الاسلامية بحاجة الى مراجعة..خاصة وان كثير من الشعوب التي فتحت اراضيها واخذت اموالها واستبيحت حرماتها لم تكن معتدية على العرب والمسلمين..لذا من حقها اليوم المطالبة بحقوقها من منطلق الأية “لكم دينكم ولي دين”..هنا لا يعتبر الموقف جهاداً بلأعتداءا عليها دون ذنب جنته .
هذا هو العمود الفقري للجهاد في الاسلام ممثلا بالحصول على اعتراف الاخر كندٍ، فلو طرحت حاكمية الله بموجب ما طرحته الدعوة المحمدية لقبل بها حتى الملحد ،ولشعر بحرج شديد في الوقوف ضدها ،وبذلك نكون قد وضعنا ايدينا على النقطة الجوهرية في الطروحات السياسية ،اما اذا فهمنا ان حاكمية الله تعني الحكم المطلق في كل صغيرة وكبيرة كما تروج لها السلفية والمنظمات المتطرفة والأحزاب الاسلامية المتشددة ،فقد وقعنا في فخ الطاغوت،وهذا ما نراه الان .
أما الجهاد الخارجي والذي نسميه فتحاً لنشر الدعوة فهو في منحيين هما:
الاول- تهديد عدو خارجي غير مسلم لدولة اسلامية واحتلال اراضيها بالقوة.كما حصل في استعمار الدول الغربية للاخرين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
الثاني- تهديد عدو خارجي مسلم لدولة اسلامية ومحاربتها واحتلالها بالقوة ،كما في ظاهرتي احتلال مصر لليمن في العهد الناصري،واحتلال العراق للكويت في العهد الصدامي,
فيما يخص البند الاول ،لقد امرنا القرآن الكريم بأن نفي بالعهود والمواثيق حتى ولو كانت مع غير المسلمين ،وأمرنا بألغائها اذا كانت مضرة بمصالحنا وهذا انتج مجالا واسعا للتعاون بين الشعوب المؤمنة بالرسالة وغير المؤمنة بها قال تعالى (براءة من اللهِ ورسُوله الى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر وأعلموا أنكم غير معجزي الله،وان الله مخزي الكافرين – التوبة آية 1-2). وآية اخرى تقول (ولا تقولوا لمن آلقى السلام لستَ مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا سورة النساء آية94 ).
هاتان الايتان المقدستان هما اساس العلاقات الدولية في الاسلام ،لكن الحرب احياناً قد تكون ردا على عدوان او تهديد خارجي يستهدف ارض المسلمين وخيراتها ففي هذه الحالة يعتبر التقاعس عن الجهاد منقصة شرعية لا تغتفر،وقد حدث ذلك في غزوة تبوك بعد ما شعر الرسول(ص) ان الروم قد يدخلون شبه جزيرة العرب من الشمال ،فتقاعس البعض عن النصرة للرسول وجيش المسلمين في الجهاد،هنا يقف القرآن الكريم منهم موقف التعنيف القوي لعدم تلبيتهم دعوة الجهاد ضد الاعداء حين يقول القرآن(ما كان لأهل المدينة ومن حَولهُم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبون بانفسهم عن نفسه_ التوبة آية 120)، ولقد وجه القرآن اللوم حتى للرسول(ص) نفسه لانه أذن لبعضهم بالانصراف عن النصرة والجهاد حين تلكئوا وطلبوا منه ذلك .. يقول القرآن الكريم : ( عفا الله عنك لمَ أذنتَ لهم حتى يتبن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين-التوبه آية 43). والعفو لا يأتي الا بعد التقصير.
هذا النوع من الجهاد مقر شرعا وفي كل الاديان ومن يناصر الاعداء،وخاصة في حالة تعرض الدولة لعدوان خارجي لدولة الاسلام والمسلمين فهو خارج عن الملة شرعاً،فمن حق المسلمين رد العدوان بالقوة المماثلة،يقول القرآن( الحرمات قصاص ،فمن اعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم-سورة البقرة آية 194).وهنا يجب ان تتوفر الرغبة والعزيمة والارادة عند المُعتدى عليه ،والرغبة هي القوة المعنوية لدى النفس الانسانية في تحقيق الهدف ،والعزيمة هي التطبيق العملي للرغبة، والارادة هي القرار الاستراتيجي لضمان مستقبل الدولة..لذا من اخل بهذ التوجه القرآني فقد اخل بشريعه الاسلام.
ونتيجة لهذا الاتجاه الخاطىء في فهم آيات الجهاد طمست عزيمة الجهاد من الناحية التاريخية وتم ربطها بالسياسة والسلطة الزمنية منذ بداية الفتوحات الاسلامية،لذا كلما تهددت السلطة عمدت الى حل تناقضاتها بتوجيه الناس نحو الحرب الذي سمته جهاداً وهذا مخالف تماماً لهدف ايات الجهاد الاساسي.
بقي لنا ان نبين الفرق بين الجهاد والقتال وما رمي به المسلمون اليوم،فقد كتب الاستاذ معز الدين الخطيب تحليلا علميا لها ،نقتطف جزءً منه مع التصرف فنقول:ان من غير الدقيق الاكتفاء بدرس ظاهرة القتال ومظاهر الخلط بينه وبين الجهاد ضمن الاطار الفقهي ،فهو لاشك في ازمة بحاجة الى توضيح،لا سيما وان ظاهرة العنف هي ظاهرة عالمية لا تقتصر على الاصولية الاسلامية فحسب ،لكن ارتباط السلفية المتطرفة بها يعود الى فهم خاطىء في مفاهيم الجهاد الاسلامية حين دمجوا العنف بالجهاد ولم يتركوا للحوار مكاناً،خاصة وان الحس الديني العالي لهؤلاء الجماعة وتكوينهم النفسي والفقهي الخاص اشعرتهم بالتهديد المستمر الذي لا بديل عنه الا العنف والالتزام به ،ناهيك عن العوامل الاخرى الخاطئة في مفهموم النص الديني وقراءته قراءة احادية صرفة .
هناك فرقاً واضحا بين الجهاد والقتال ،فالاول يتميز بوضوح الهدف ووضوح الوسيلة والالتزام باحكام الشرع ومكارم الاخلاق التي جاء بها الاسلام ،قبل القتال واثناء القتال وبعد القتال ،والاجماع على ان الجهاد هو في سبيل الله واعلاء كلمته وليس بسط سلطة الاسلام على الناس بالقوة وهنا مكمن الخطأ ولنا في ايات الجهاد ما يثبت ما نقول..اما الأعتداء فهو مرفوض في الاسلام “قاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا..البقرة 190.
اما العنف القتالي كما تمارسه بعض الجماعات المتزمتة الى تنسب نفسها الى الاسلام ،فينقصه الوضوح في الرؤية وقصور الاهداف وخطأ الوسائل ومخالفة الضوابط الشرعية ،ويعتبر اجتهاد افراد اوجماعات معزولة عن المجتمع ،تخالف رأي الناس و هي لا تمثل امة الاسلام ،بل تشكل قطيعة معها حين يصبح الجهاد بنظرها صحيحاً لكل راضٍ عنها غير منكر لها.