مقدمة
في البدء أود التنويه للقارئ الكريم أنني سأكتب عن طورين تأريخيين بشكل متداخل ومحدود لشاعرين مختلفين خاضا في عصر واحد تجربة الشعر قبل بلوغهما الثلاثين من العمر , هما الشاعر العراقي – البصري حسين عبد اللطيف والشاعر الأسباني – الأندلسي فيدريكو غارسيا لوركا , الأول عن التشابه والتحولات الأجتماعية في حياتهما وذكرياتي عن الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف , والثاني عن ظاهرة الأسى وهاجس الموت في شعرهما الذي يشتركان به , وسيكون حديثي عن إنطباعي الشخصي لعوالمهما الشعرية بنوع من الوجل وليس عن تساوي مساحتيهما الشعرية أو نقد الظاهر والمخفي وإطلاق الأحكام الجمالية وامل ان يكون هذا هو جوهر المقالة وان لاينصرف راي القارئ الى غير ما تتوخاه .
ترادف شاعرين
لم يكن تحت معطف الشعر عينان تبرقان المآ كعيني الشاعر العراقي – البصري حسين عبد اللطيف والشاعر الأسباني – الأندلسي فيدريكو غارسيا لوركا . ففي حديقة القرن العشرين الشعرية وفوق غصن واحد جلس الشاعران ولهما من العمر ثلاثة عقود فكتبا الجميل والمنضبط من الشعر للحياة والإنسان والبيئة والموت .
فالشاعر لوركا الذي ولد بمدينة غرناطة الاندلسية التي تقع في أقصى الجنوب الأسباني في 5 حزيران 1899 لعائلة أندلسية غنية تمتلك بساتين ومزارع لأشجار الزيتون والبرتقال , قد تعاطف مع هذه المدينة بكل احاسيسه , بل وربط مصيره بها وجعلها عالمه الذي أحبه والذي أرتضاه أن يرافقه في موته حتى أنطوت أقوى واجمل قصائده التي تأثرت ببقايا مناخ الرومانسية الفكري وتداعياتها على إهتمامه الكبير بها منذ طفولته وحتى بلوغه الشباب وفِراقه لها مقتولآ في 19 آب 1936 على أيدي طغمة بشرية مجرمة ما جعل النقاد ينعتونه بعندليب غرناطة . فببرائته وعاطفته المتجذرة والكبيرة مع بيئته الرومانسية ومع أزدياد عذابه ومعاناته بعيدأ عنها وعن كل شيء رآه فيها كتب يقول في قصيدة وداع :
إذا مت .. دعوا الشرفة مفتوحة
الطفل يأكل البرتقالة ,
من شرفتي أراه ,
الفلاح يحصد القمح ,
من شرفتي أسمعه ,
إذا مت .. دعوا الشرفة مفتوحة
في هذه القصيدة تبرز متلازمة الموت التي صاحبت قصائد الشاعر لوركا , وفكرة الأمل بعد الموت ومتعة الأستمرار بالحياة التي عاشها بين أحضان غرناطة . فبدلالة حاسة النظر ولفظ الفعل المضارع ” أراه ” وبدلالة حاسة السمع ولفظ الفعل المضارع ” يحصد ” تتجسد احاسيسه بالبيئة التي الفها وعاش فيها أيام صباه وشبابه , وهي أحاسيس لروح و عاطفة متوطنة في جسد أنسان عشق مدينته وكل الأشياء التي شاركته حياته أثناء الحزن والفرح وبرزت أمامه بصورها , فتمنى أن يبقى يراها ويصيخ السمع بأذنه لجلجلة المناجل في مواسم الحصاد كأستمرار لترابط الاثرالنظري والسمعي الذي احدثته معه طيلة حياته حتى وإن داهمه الموت .
وفي قصيدة قداس على روح ميت هي حالة وداع أخرى وفيها تكرار لرؤية الشاعر نفسه , فيوصي أن تدفن معه قيثارته , التي هي أحب الأشياء الى نفسه , فهو يراها خير قريب ومؤازرآ له في الدنيا :
حينما يحل بي الموت
ادفنوني مع قيثارتي
تحت التراب
حينما يحل بي الموت
أدفنوني بين شجر البرتقال
وأغصان النعناع
حينما يحل بي الموت
أدفنوني , إذا أردتم
في وردة الريح الدوارة
الجدير بالذكر أن هذه القصيدة غدت أغنية شعبية تقديرا لجلال الحياة والحب في الواقع الأسباني , ينشدها الصغار والكبار في عموم اسبانيا حينما تشتد بهم لوعة الحب وعجارف الأيام , وهي من ناحية اخرى تعد مشاركة شعرية ايجابية من لوركا وشهادة لقوة تأثيرقصائده في المجتمع الأسباني , وتعد أيضا عملآ أدبيآ حقق أسسآ جديدة لم يعهدها الفولكلور الأسباني منذ سقوط غرناطة عام 1492 .
لكنني أرى أن الحال يختلف مع الشاعرحسين عبد اللطيف الذي ولد في بغداد عام 1946 من أسرة فقيرة , إذ كان والده يعمل في مكتب لنقل المسافرين حينئذ , وحينما أنتقلت عائلته الى مدينة البصرة في جنوب العراق لم يكن بعيدآ عما يتشابه مع بيئة لوركا الرومانسية , إلا أنه عاش فيها وحيدا ومنعزلا وخائب الأمل وفي بيئة عمل نائية هروبآ من الأنضمام في المنظومات شبه العسكرية في عام 1970 حينما كان معلما في اهوار شمال البصرة ما تولّد في نفسه إحباطا وأسى لم ينتهيا حتى رحيله :
لم يمنحني العالم بهجته
مذ ولدت
ولم تزدهر طفولتي
إنما لحقني اليتم
أنوء بثوب خَلِق
وأدور مع الجواميس
بحثآ عن ماء وبردي
لايعلق البني بفالتي
ولا دجاجة الماء
تقع في شباكي
أما آمالي
فنحيلة جدآ
وسوداء
كمشحوف ( سوء الطالع – وحيدا على الساحل تركتني المراكب ص 65 )
في هذه القصيدة أسقط الشاعر بعضآ من الواقع الذي هيمن عليه عندما كان في السادسة عشرة من العمر عندما توفي والده وعندما التحق بمعهد المعلمين ليصبح معلما في ريف البصرة الشمالي , وأرى أن هذه القصيدة كتبت في فترة السبعينيات وتستحق أن تنضم الى مجموعة ” على الطرقات أرقب المارة ” إلا أن الراحل ربما فقدها كعادته وتم العثور عليها بعد وفاته .
نُعت الراحل بعندليب الأسى بسبب قصيدته ” عندليب الأسى ” التي وردت في مجموعته الشعرية ” لم يعد يجدي النظر ص 15 ” ولسبب آخر هو تكرار تعرضه الى بطش الحياة في كافة نواحيها ما جعل شعره يتصف بالواقعي المأساوي والإحباط اليومي المؤسي الذي تمدد في مجاميعه الشعرية ليبلغ الذروة في مجموعته ” وحيدا على الساحل تركتني المراكب” وفي احيان يتنوع بأشكال أخرى :
لي من أساي أنا
في منزلي
عندليب
يسمعني
عند الصباح : النحيب
وفي المساء : النحيب
لكن يبقى في شعره عدد غير قليل من قصائد السرد المعبرة عن ذلك الواقع وعن الواقع الثقافي الشعبي وعن تجربته في الحياة التي يصفها بانها غير آمنة ومرة الطعوم . وفي مراحل تطور قصائده برز مفهوم عدم تكيفه مع ذلك المجتمع الخاضع ولا مع نظامه فبدا على شاكلة لوركا ما فتأ يتوجس الموت حتى رآه سعادة لم يرها في الحياة فيأمر أن يغلق بابه عليه إلا من الطيور لأنها تاتي بلا تفاهة الهم والغم ليحظى بالسلام الذي فقده بالحياة . ففي قصيدة ” أيها البحر يا راعيا يا صديقي ” التي لاتخلو من البطانة الرومانسية نراه يفصح عن ذلك بقوله :
سعيد أنا الآن, موتي مريحٌ
دعي البابَ , لاتفتحي البابَ , وحدي,
تغني الطيور, إذا البحر غطى
المراكب بالشمسِ, غني
مراعيه مفتوحة الوجه
……..
كلا الشاعرين يكشفان عما يودان في الحياة ليدفن معهما تحت الثرى , وربما يخيل للبعض أن الشاعرين كانا اقل احلاما من امير او سلطان لذلك جاء طلبهما باقل مما لو أعطيا , ولكن هذا ليس هو المنزل الشعري الذي شيداه , فلا لوركا هو الجرس ولا الشاعر الراحل حسين هو الرنين , بل أحدهما يخالف الآخر بالصورة والرؤية الشعرية .
لا يستبعد ان الشاعر لوركا بجذوره الاندلسية وبعاطفته تلك وانفعال قلبه ربما أراد لنفسه السمو بعد الموت فانتقى لها قيثارته لتدفن معه لتؤجج فيها موسيقى الرقص والغناء الموري العربي الغرناطي الوحيد والشهير الشائع في اسبانيا قبل وبعد خروج العرب من الاندلس سنة 1492 كما ذكرنا , فقد ادهشت تلك الموسيقى روحه فتغنى بها ورقص على انغامها تحت الشمس واختلاج النجوم , وكذلك شجرة البرتقال وأغصان النعناع أو حتى دوارة الريح لتتمرآى ثانية أمامه لتؤجج فيه رائحة غرناطة. وفي حالة من الربط بين ذكرياته معها , وربما أختار لوركا مبايعة هذه الأشياء لرؤيته أنها بالكاد تبلغ من العمر أياما قصيرة بعد أن اعطته صورها التي أجتذبت أحاسيسه وتخزنت في ذاكرته الطويلة وحان الوقت أن تذهب معه الى القبر.
أما الشاعر حسين عبد اللطيف فقد تشابه بالدلالة الخارجية فحسب مع لوركا , فهو يريد في موته أن يرى الطيور ويسمعها تغني ويرى المراعي مفتوحة الوجه لأنها لم تتمرآى أمام أجزاء من أحاسيس جسده فترة طويلة ولم يعتد على رؤيتها تغني أو يرى المراعي مفتوحة الوجه لأنه بلغ الشباب والكبر وهو يعاني في عالم مغلق الأبواب وحياة لم يربح بها بغير أثقال الأسقام .
ولكن هذا لا يعني ان الشاعرين يريدان لهذه الصور ان تبدو أمام ناظريهما وللموسيقى أن تبقى ترن في أذنيهما بشكل مشوّق ومؤسي على فراقها صورا مادية , بل عاطفية فطرية وخيال جامح من ناحية الشاعر لوركا إزاء الحياة بكل جمالها وتراكم تجاربه السابقة معها , فنراه في بواكير شعره يخاطب نفسه مستبقا الموت في عالم يراه في خياله وخاض فيه تجربة الحياة بكامل سحره :
آه أي دبيب عذب يضج في رأسي
إنني سأسجى قرب الزنبقة البريئة
حيث يخفق جمالك , دون روح
وهناك , بينما تدب
الشقرة بالماء النمير
سوف يسيل دمي
على كومة الأشواك
الندية فوق الضفة
أما من ناحية الشاعر حسين عبد اللطيف فهي إستجابة عاطفية فطرية فحسب بسبب عدم تجربته معها أوالأرتباط بها وجوديآ وبحرية , بل أنتزعت منه وهيمنت عليه سيكولوجية العزلة والأهتمام المشتت بأمور الحياة التي وجدها عقيمة من كل شيء يمتّعه ويفرّحه إلا من الشعر على الرغم من أن سمات الشاعرين الروحية هي واحدة , وبحسب مفهوم الوجدان الجمعي فإن الصورة الشعرية تخطرعلى بال أي منهما بشكل عفوي مثلما تحدث لأي إنسان في أي زمان ومكان .
وبهذا الصدد , لا غرابة ان يهوي القاريء نحو قوة جذب تأثير عالم لوركا الشعري على الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف وما تنتجة لغته الشعرية القوية من تشابه باللفظ أو يرى تشابها بين القصيدتين في المعنى العميق , فالتخيلات وتشابه الظروف يمكن ان تفعل ذلك , مع أن التأثير علامة اولية في البدايات الشعرية في اقل تقدير وربما يستمر زمنا قصائديا طويلا وقد خضع لهذه العلامة كبار الشعراء كوسيلة لإيجاد الشعر القرين بضوابط فلسفية مغايرة ( = تناص ) ما يجعل القصيدة ناتج أعلى في سلّم التلاقح الثقافي والنزوع الإنساني .
ولوركا نفسه تأثر بشكل كبير بالشعر العربي الأندلسي وبالشعر الفارسي وبالشاعرة والروائية والناقدة والفنانة الكبيرة الأميريكية غرترود شتاين مثلما تأثر بها الكثير من أعلام الأدب والفن أمثال الفنان بيكاسو وبول سيزان والشاعر عزرا باوند والروائي جيمس جويس والقائمة طويلة .
ولكن لماذا انطوى عالمهما الشعري على هاجس الموت وتكراره في معظم قصائدهما ؟ وما هي أسبابه الخارجية والداخلية ؟
لا شك أن المرء يتفاعل عبر الأيام بالواقع المرتبط بتطوره سايكولوجيا وتتبين رؤيتة في ظل ذلك الواقع من خلال ماينجم عنه من نشاط , فلو نتخيل حقبة السمع والطاعة التي مرَّ بها الشاعر الراحل حسين والممتدة من نهاية الستينيات وحتى وفاته في عام 2014 نجد أنها حفلت بأنواع من الشر والغم والتشتت والكبت وقامت بدور جعل المجتمع يعيش تلك الحقبة من العذاب بحذر وصمت , فلا يجرؤ المرء فيها على الأحتجاج بأي لغة وإن فعل فإنه يسعل ليخفي خطأه ويعدل لفظ مفردته , حتى تطور الأمر ليصبح القمع والأستبداد سمة جلية لتلك الحقبة وعالمها حتى أصبح المجتمع منصهرا في ثقافة أستخدام اللغة المحمية بديلا عن صحيح ما يختلج في الصدور.
هكذا كانت حياة المجتمعات في المدن , تصطدم بعنف الخطاب السياسي لتلك الحقبة لتبتعد وتعيش مرغمة حياة الخفافيش في شقوق الجدران , فلا ليل يُسحر النظر الى القمر ولا نهار يتأنق في شمسه الشجر .
ولكي يتخطى الشاعر عتبة ذلك العالم الذي أنهكه بأبوابه المغلقة وبنوائبه التي سقطت على رأسه من ناحية وبالإحباط والتشاؤم والعزلة التي شكلت سمات سيرته الذاتية من ناحية أخرى نراه يعمد الى الشعر مفتاحآ لتلك الأبواب :
وراء منفى الزجاج
في قبضة العزلة
أبحث عن مصباح
أبحث عن مفتاح ( قصيدة قناع , مجموعة لم يعد يجدي النظر ص 59)
هكذا أراد أن يصنع عالمه الحر الذي فقده بلا خوف وأمتلاك هوية أخرى غير هوية الخفاش القاطن في شقوق الجدران , فنزع الى عالم الشعر بقوانين من الشعر ليجعله ارثا ادبيا عن معاناته كإنسان وهو باب ولج فيه ليتحرر من كبت عواطفه اذ لاسبيل للخروج من عالم الخفافيش دون الشعر فأعطاه جزءً من روحه بوعي إنساني عبّر فيه عما أختلج في صدره من أسى تلك الحقبة بيقظة صادقة وبمقومات شاعر سوي النفس لفتت أنظار النقاد وفتحت له أبواب الترحيب حتى في شعره اللاحق الذي زاوج فيه بين النسق العربي وبين النسق الغربي الأليوتي من ناحية وبين النسق العربي والياباني بمقاطع شعرية سلسة مستعينا بكل التجارب التي مرّ بها في حياته بأدراك ونفاذ بصيرة وخيال عميق وبالأخص في كتابة قصيدة الهايكو من ناحية أخرى , ولكن لشدة تفاقم القلق والأضطراب وسوء الطالع المرتبط بحياته اليومية , برزت سمة هاجس الموت المتلازم في شعره وكأن نفسه برئت من الحياة , فتجلى بأوصاف عديدة :
أوصدوا الأبواب
الوقت قارب …
العربة أوشكت …
ليلبث حاملو الزهور مليا
كي يغنوا لي أغنية السلوان
ويمجدوا رحيلي ( مجموعة أمير من أور)
ربما لا اكون جازمآ لو قلت أن الكثير ممن أحاط بالشاعرالراحل حسين عبد اللطيف , لا يعرفون كيف عاش وكيف مات مثلما لا يعرف الأسبان عن لوركا كيف عاش وكيف قتل ودواعي ذلك الأسى وهاجس الموت اللذين يشتركان به. غير أني عرفت الراحل حسين منذ عام 1974 حاد الطباع ورقيق حد النخاع , وفي جانب من جوانبه أنه استنزف عمره ليجعل من الشعر غايته ووسيلته نحو عالم غير مغلق كالذي يعيش فيه , فكان ذا تقاليد ادبية فريدة أهمها انه يختار العمل الادبي اختيارا قبل ان ينشره أو يضمنه في مجاميعه الشعرية وحرصه على التواصل مع اقرانه الأدباء .
ولكن عندما تقدم به العمر وداهمه السكري أخذ يحتفظ بدفتر ملاحظات محشو بقصاصات وانصاف اوراق لقصائد بخط يده وافكار واسماء وارقام هواتف وكتبا تتغير كل يوم بيده وكثيرا ما اضاع قصائد له اومسودات مقالات أو قصة لي أولأصدقائه بسبب ذلك المرض وتداعياته على ذاكرته الخاصة بالاحداث القريبة وبسبب الصدمات النفسية التي تعرض لها والانفعال الذي أصابه في الكثير من المواقف التي مر بها في أيامه . لكن فضلا عن وصفه بهذا الوصف وعلى الرغم من فرط الغم الذي المَّ به , فقد تميّز الراحل بالكرم والسخاء في ابداء رأيه في نقد النصوص الأدبية التي يكتبها تلامذته أوأقرانه من الأدباء والتعليق عليها وتوجيههم بشواهد من الأعمال الخالدة دون ان يطلب من ذلك خيلآ أو مال ليسعد حاله ويزدان . فقد كان واسع الإطّلاع وبذائقة ادبية سليمة ولا تتأخر ذاكرته عن وصف اي عمل ادبي عظيم قرأه من قبل.
لكنني منذ تلك السنة التي تعرفت بها عليه وحتى وفاته , لم أكن اعرف انه ينتمي الى أسرة فقيرة تنحدر من قبيلة شمر العراقية المعروفة , وقد وفدت من العطيفية , وأن مكان ولادته هو بغداد , وجاء الى البصرة في نهاية عقد الستينيات وسكنت أماكن مختلفة كجسر العبيد والخليلية واخيرا حي الأصدقاء المقابل لمنطقة حي الحسين حيث توفي فيه , لأنني لم أسأله عن ذلك أبدا , رغم مرافقتي له عن قرب منذ عام 2004 وحتى وفاته في 10 تموز 2014 بعد انقطاع دام ثلاثين عاما بسبب الحرب والحصار , لأنني لم أجده أو رأيته يوما بغير الروح البصرية صديقا بعيدا عن الزيغ والخطأ وأخا مرشدا لمكارم الأخلاق وشاعرا ينظر الى معاني الكلمات بدقة ومثاله نشر في كل مجاميعه الشعرية السبع التي قرأتها .
حينما سكن في مدينة البصرة وهو في منتصف العقد الثاني من العمر , كان ذا كيان ثقافي بسيط إلا أنه كان مهتما كثيرا بالقضايا الادبية وشغله الشاغل هو الشعر , ومندفعآ بهواية قراءة الكتب بل والتنقيب فيها وهي بالطبع ليست دونما سبب , فقد كان أبن عمه الراحل خطاب العبيدي شاعرا مغمورا أصدر مجموعة شعرية واحدة لم يعرف مصيرها , ومعلمآ في إحدى مدارس بغداد وكاتبآ اظهر موهبة ادبية في كتابة المقالات وذا تأثير كبير على الشاعر الراحل .
فقد قام بالتمهيد لنشأته الأدبية من خلال مكتبته التي احتوت على كتب لمختلف التشكيلات الثقافية , فضلآ عن الأخذ بيده الى أماكن المقام العراقي وتعريفه بقرّائه في ذلك الوقت , وعلى يده عرِف الشاعر الراحل ان قيمة الأدب والفن لا تقل شأنآ عن قيمة الوسائل الأخرى الداعمة لإستمرار الحياة والإنسان .
ولو تحرينا عن دوافع ذلك الإندفاع والإصرار الأدبي للراحل نجد أنفسنا أمام مسافر غريب وقد القى به قطار الحياة في مدينة تقرر فيها ان ينتسب الى معهد المعلمين وأن يكرس وقته للدراسة , ومن ناحية اخرى يتحتم عليه أن يضاهى اهلها بخصائصها ومعاييرها الثقافية والأدبية , فكان لزامآ عليه ان يتمسك بتلك الهواية , بل ويتمسك بها ليصل الى ابعاد المدينة العميقة والكبيرة .
وبمرور الايام وبعد أن تفتحت فيه موهبة الشعروهو في الخامسة والعشرين من العمر , تفجرت عواطفه عن قصائد عمودية نشرت في جريدة عبقر النجفية في 1967 , وبدأ سير شخصيته في مسار واحد نحو عالم واحد هوالشعر ولاشئ وجده خليقآ به دونه .
لكنني من ناحية أخرى أجزم أن لا احد لازم تحركات الشاعر الراحل حسين عن قرب وعرف عن شخصيته وشعره الشيء الكثير غير الذي أفشى به في ظل الحزن وصراعه مع وسائل العيش , على الرغم من علاقاته الواسعة بأصدقائه وببصائرهم الثاقبة ونشاطهم الأدبي , لكنني رأيت أن الظلم والأستبداد والمرض وسوء الطالع هي وحدها من صاحبه وعرفت كيف توقظ فيه منابع الأسى والألم وتسرق منه سعادة البقاء وتحقيق الرغبات في واحدة من اجمل مدن الأرض :
نحن المألوفون
المارة حول العالم , فكرنا
في صحبة أنفسنا , إذ لم يرغب
في صحبتنا أحد
ما عنّ لنا أبدآ أن نذهب في ظل
الأشجار الى نزهة
فالأيام
تغدو معنا ندما
فنعض اصابعنا ( المألوفون – على الطرقات أرقب المارة ص 114)
هذا المسافر وجد نفسه في بيئة مدينة خالية تماما من مرتكزات الحياة , والناس يعيشون في مرّها فحسب وخاصة في موضوع ماء الاسالة , فعدم صلاحيته للأستهلاك البشري منذ عقود وتداعياته على المدينة جعلها مهملة من كافة النواحي لتصبح بيئة غير ممرعة , لا يبلغ فيها الإنسان أي درجة من درجات الرقي والإبداع.
ولكن هل يتوقع المرء من معلم للغة العربية واديب ان يخفي مشاعره لهذا الخلل في الحياة ولا يقدم خطوة لموقف يناصر وعيه الثقافي ويستجيب لإنطباعاته عنها وعن الصعوبات التي يعيشها مع عائلته فيها ؟
كلا بالطبع , اذ بدأ يتفجر شعرا احتجاجيا بدرجة عالية من الأسى حتى احتل الجانب الكبير من قصائده الى نهاية العمر لا لشيء سوى تحقيق رؤياه في عالم من صنع يده , ذلك هو عالم الشعر كتعويض عن سوء الحال والبهجة المفقودة والعالم المادي المصغّر الذي رآه متروكا بلا رعاية .
ففي قصيدة ” أسى ” التي وردت في مجموعته الشعرية – وحيدا على الساحل تركتني المراكب – التي طبعتها دار ازمنة 2017 بُعيد رحيله نقرأ مثالا يفوح بالأسى والإحباط ونلاحظ كما في عدد غير قليل من القصائد مزجآ بين ذلك الأسى والإحباط وبين الفاظ ترتبط بالتراث الشعبي البصري :
أريد ان أسفّ
كل خوص نخل البصرة
لأصنعنّ الف مروحة
ومروحة
فليس من ضرب الأسى
الذي يبدد بواحدةٍ
أنا أساي .
عندما وَطِئت قدم الشاعر حسين مدينة البصره في نهاية الستينيات , ألتقى بالعديد من الشعراء وكتاب الأغاني والموسيقيين , وكان على رأسهم الشاعر الكبير عبد الرزاق حسين والملحن الكبير ذياب خليل وأخيه الشاعر الراحل كريم خليل والشاعر داود الغنام والشاعر عباس جيجان والشاعر جبار النجدي والعديد من الشباب في مجال الفن والأدب . فأفاد من هذا التنوع الثقافي ومن ظل مقهى الشناشيل , المجاورة لجامع المدينة الكبير , الذي كان يعوّل عليه كصالون ثقافي يومي في تكوين ذاته الشعرية , ويتبادل فيه مع الجميع قراءة القصائد والآراء الأدبية لإغناء رؤيته الفنية . ورأيت الجميع هناك يطمح الى صنع العمل الفني الذي يقود الى الخلود .
كانت البصرة في الستينيات وحتى السبعينيات مثلما كانت عليه غرناطة , بل وقرطبة قبل وبعد عام 1930 , فحينما جذبت الشاعر الراحل حسين عبد اللطيف بتراثها العربي العريق , كانت أول شخصية ورمز تراثي تأثر بها هي شخصية الأمام الحسين , فكتب القصيدة الحسينية ولكن من دون هيمنة دينية لأسباب عدة ولعل أهمها أنضمامه الى عالم الغربة , فكانت القصيدة خطوته الأولى او الامتحان الاول نحو بواكير شعره في السبعينيات وتذويت مكتبته الشعرية , فقد كانت ترددها النسوة في المحلة وكذلك الشباب في المأتم المقام فيها وكانت قصائد رصينة تدل على موهبة شعرية.
في فترة كتابته القصيدة الحسينية , كان الراحل في أول تجربة له في كتابة النصوص الشعرية , حيث أستفاد من جيرة الشاعر عبد الرزاق حسين الذي يسكن معه في منطقة الخليلية نفسها , وأتذكر كيف عرّفني عليه الراحل الفنان ذياب عام 1974 لما يتميز به من خصائص أدبية وشغف بالأدب الأنكليزي ومؤهلات استثنائية في كتابة الشعر , وبعد ذلك بأيام عملنا على ترجمة قصة شجرة الرغبة او الشجرة الناطقة للروائي الأميركي وليم فوكنر ولكن القصة ضاعت , كما ضاعت منه فيما بعد مسرحيته الوحيدة ” السندباد البحري ” وكتاب آخر عن ” الخشابة” وعشرات النصوص والمقالات الأدبية , ومفاد ذلك ان الراحل أمتاز بعدم الدقة في حفظ أعماله الأدبية بسبب همومه وإنشغالاته , وهو أمر ربما لايمكن أستيعابه من قبل الآخرين .
حدثني عنه جاره العتيد الشاعر الكبير عبد الرزاق حسين قائلآ : عرفت الراحل حسين عبد اللطيف في بداية الستينيات وكان في الثامنة عشرة من العمر وحاصل على شهادة الخامس الأدبي آنذاك , وقد أقترحت عليه الألتحاق بمعهد المعلمين وأعطيته مذكرة بخط يدي معنونة الى الراحل الشاعر محمود البريكان الذي كان مدرسا في المعهد , وهناك تعرّف على الشاعر كاظم نعمة التميمي والاستاذ عبد الغفور النعمة إضافة الى الشاعر البريكان وكانوا جميعا أصدقائي آنذاك , وتم قبوله في ذلك الوقت .
أرى أن هذا الحال يتشابه مع حال الشاعر لوركا , فحينما أنتقل من غرناطة عام 1919 الى مدريد كانت أسبانيا تحت ظل حكم ملكي دستوري أزدادت فيه التوترات الأجتماعية فلم يقدر على تقديم حلولا جذرية لمشاكل أسبانيا ما أدى بالتالي الى الحرب الأهلية . فمع أشتداد النزاعات الأجتماعية في فترة حكم الدكتاتور الأندلسي ميكيل بريمو دي ريفييرا, وجد لوركا نفسه يقطن مع ثلة من المثقفين والكتاب والشعراء وعلى رأسهم الرسام سلفادور دالي والشاعر خوان رامون والشاعر رافائيل البرتي والموسيقي الكبير مانويل دي فايا وآخرين من المثقفين المغمورين , وعند بلوغه سن التاسعة والعشرين بلغت طاقته الشعرية حد النضج فتناول في قصائده كل ما اعترت نفسه من افراح ومعاناة ومواقف اجتماعية وحكايا تراثية ما جعل أهل غرناطة يتداولونها وخاصة عندما ظهرت مجموعتة الشعرية الثانية ” أغاني الغجر ” .
كانت غرناطة ومدن اخرى كقرطبة وأشبيلية في عام 1913 بيئة تضج بالبساتين والجداول , وتتشابه بشكل كبير بأغراءاتها وتأريخها مع بيئة مدينة البصرة المهملة . وكانت مشكلة ماء الشرب الذي اصبح عللآ عصية على الحل منذ حكم الدكتاتور الأندلسي ميكيل بريمو دي ريفييرا الذي ولد في مدينة شُريش الأندلسية عام 1870 وترأس مجلس الوزراء الأسباني للفترة من 1925 الى 1930 , فضلآ عن أن الشاعرلوركا لم ينج من الأصابة بالتايفوئيد بسبب تلوث الماء كما لم ينج من النزاعات العائلية في تلك الحقبة بسبب مكانة عائلته في غرناطة لحيازتها على اراضي زراعية واسعة طمع بها الأقارب بل وحسدوهم عليها والتي وصفها لوركا بقصائد عديدة ومن تداعيات تلك المشكلتين التي صاحبته . ففي تلك الحقبة كتب لوركا قصائد كثيرة كنداء لضحايا تلوث الماء وخاصة الأطفال , ففي قصيدته الرائعة ” غزالة الطفل الميت ” يقول :
في كل مساء في غرناطة ,
في كل مساء , طفل يموت
وفي كل مساء يجلس الماء
ويسامر أصدقاءه .
للموتى أجنحة من المسك
ريح العاصفة وريح الأشراق
طائرا حجل يحلقان فوق الأبراج
والنهار طفل جريح .
في هاتين البيئتين ولج الشاعران اطار الصورة الواحدة كعندليبين فوق غصن واحد للاسى يغردان شعرا رقيقا ياخذ القارئ بقارب رومانسي منفرد فوق بحر من الحنان الى عوالم شعرية متنوعة . وفي هاتين البيئتين لقيا مصرعهما , فالراحل حسين قتلته النوائب وكانت آخرها وفاة أبنه البكر الذي رثاه بقصيدة سحابة دخان يقول فيها :
أتت النار
على الغصن الأخضر
الذي أقتطع من شجرة حياتي
فهالني النظر
الى سحابة الدخان
التي تصاعدت منه
والى كثرة الرماد
تتكدس
تحت اقدامي .
ورثاه بقصيدة أخرى هي ” ليس أن يحملك فجأة هذا القارب ” يخاطب بها الحياة وولده معآ وقد بلغ به الجزع والحزن حدا كبيرا :
كأنك القصور
عند الصباح
بالفرح تعج والسرور
وفي المساء
يحيلها الردى الى قبور
الى خرائب أو أطلال
في جوها الكئيب
ينعب البوم
والريح تسفي فوقها
وتسفي فوقها الرمال
يالجة المصائب
تهدم البيوت
وتغرق المراكب
يامرّة الطعوم
والمشارب
تفرقين صاحبا
عن صاحب
اليك عني … ألفا
كفاك صفعآ
كم لك وأنت تصفعين !
أيتها الحياة
وتطعنين !
وتلدغين !
الخاتمة
بهذه الصور جاءت خاتمة الشاعر فلا جمال سرّه في الحياة ولا خير جال عليه يجامله , بل رآها صدع وضرّ وتفرّق ولا تجمع إلا وفي بطنها النوائب . ولكن لون المأساة عند لوركا كانت بلون الدم وهو أمر مختلف , فقد قتلته كتائب الفلانج بعد أن تشكلت في أسبانيا على يد الشقيق الأصغر للدكتاتور ميكيل بريمو دي ريفييرا , خوثي أنطونيو والتي بقي منها أذنابها حتى بعد سقوط حكم الدكتاتور ميكيل ليحققوا هاجس الموت لدى لوركا . ففي مقتله تأكد أن ذلك الموت مبعثه صراع خفي بين الأسر الأندلسية من ناحية ونتيجة الظلم والجهل والأمراض والقتل التي رآها لوركا في عالم فتح له قلبه الأبيض فمنح لجماله لونا فريدا بالشعر تجاوز به شعراء عصره فصورها مجازيآ في آخر المطاف في أغلب قصائده ما أثارت تلك الكتائب من ناحية أخرى حتى تقيأت حقدها عليه :
أسمر مثل قمر أخضر
يمضي متهاديآ في رشاقة
وخصل شعره المدهون
تلمع بين عينيه
وفي منتصف الطريق
……
…..
وفي منتصف الطريق
تحت أغصان شجرة دردار
قبض عليه جنود الحرس المدني الجوال ( قصيدة القبض على انتونيو الكامبوريو )
وهكذا ترادف الشاعران في التعبير عن الحياة وعن قدوم الموت دون خوف حتى جعلاه علامة بارزة في شعرهما لانهما وجداه محسوما وبلا مهرب سوى الخلود بالشعر وهذا الذي كانوا يؤمنون به بل وحرصا على ان يكون اعلانا يثير ذكرى حياة شيّدت قصورآ للأسى في صدريهما في عالم لخصوه بقصائد بلا سعادة , ولا أظنهما مختلفان في كونهما عاشقين وجدا الموت ايسر حالا مما هم في جوانب ذلك العالم النائح والمخيف فشغفا به.